يشكل رصد علاقة الشباب بالثقافة السنيمائية اليوم في ظل ما يشهده العالم من غزو للميديا الرقمية و ما تنتجه من أنماط جديدة على مستوى الصورة إنتاجا و استهلاكا و قراءة ، مدخلا أساسيا لفهم عمق التحولات التي تشهدها ثقافة الصورة في ساحة فعلنا الثقافي المغربي و الكوني على حد سواء.
ضمن هذا السياق و في إطار فعاليات مهرجان النور السينمائي بالدار البيضاء الدورة السادسة في المنظم في الفترة ما بين 25 و 31 ماي 2024 بعدد من الفضاءات الثقافية و المؤسسات التعليمية بالعاصمة الاقتصادية للمملكة, والذي تشرف على تنظيمه جمعية معالم النور للثقافات و الفنون بشراكة مع المركز السينمائي المغربي و مجلسي مقاطعتي سيدي مومن و عين السبع و رابطة جمعيات سيدي مومن و عدد من المؤسسات العمومية و المدنية الأخرى، تم يوم السبت بفضاء المركب الثقافي أبي عنان بالبيضاء عقد ندوة فكرية حاول من خلالها عدد من المختصين والباحثين مقاربة علاقة الشباب بالثقافة السينمائية في ظل الميديا الجديدة اليوم من مداخل نقاش متعددة.
و هي نقاشات انصبت في مجملها على محاولة رصد مدى ممكنات الحديث عن استمرار وجود ثقافة سينمائية وسط شباب اليوم المرتبط أكثر بما تنتجه السوشل ميديا الراهنة من منطق سريع ومتحرك و غير محكوم بضوابط الإنتاج المصور المتعارف عليه في أدبيات الفعل السينمائي التقليدي إن صح التعبير. حيث تمت الإشارة إلى السلطة التي أصبحت تمارسها الرقميات الجديدة اليوم كفضاء مفتوح للاتصال والتواصل أصبح من خلاله شبابنا ينفتحون على كل الأفكار و القيم والتجارب الكونية و من خلاله يعبرون عن مواقفهم الخاصة لدرجة نشر الخصوصيات الشخصية بحثا عن التناغم مع منطق الرفع من نسب المشاهدة والتتبع داخل هذه المساحات الجديدة للتواصل بعيدا عن أي ضوابط قيمية أو أخلاقية بشكل أنتج ما نسميه بظاهرة المؤثرين الجدد الذين أصبحوا يحتلون هوامش متحركة داخل الأعمال المصورة،خاصة منها السينمائية عبر تقليد جديد يضرب في العمق شرطية التكوين الأكاديمي اللازم توفره في الممتهن لفن التمثيل ويعرقل إلى حد ما عودة الفرجة السينمائية الشعبية طالما أن السوشل ميديا اليوم أصبحت تعرض و تناقش العمل السينمائي حتى قبل أن يعرض في قاعات السينما، ما يدعو إلى تنشيط تربية إعلامية تسمح للشباب المغربي بامتلاك مهارات التفاعل السليم مع المحتويات الرقمية المصورة بما يمكن من استثمار أمثل لهذه الأخيرة بحس تربوي قيمي حفاظا على هويتنا الجمعية الحضارية ( نادية ضاهر البلغيثي)
و يمكن الوقوف على نقاط نقاش أخرى عرفتها هذا اللقاء الفكري من قبيل أنفاس القول التي أكدت بناء على قراءة لسانية في عنوان الندوة ، أن سلطة السوشل ميديا هي مساحة نتقاطع فيها كمجتمع مغربي مع عدد من المجتمعات الأخرى التي نتقاسم معها تاريخيا عددا من المعتقدات الهوياتية الجمعية و التجارب الحضارية المشتركة، في ظل ما أصبحنا نعيشه من غزو رقمي يحاول أن يفرض على مجتمعاتنا قيم و ثقافات لا تعبر إلا عن روح عولمة المستعمر القديم لبلداننا، الراغب في الترويج لأسلوب غربي عولمي واحد و وحيد للحياة، الأمر الذي أنتج حالات من الاغتراب النفسي و القيمي وسط أغلب شبابنا الراغب في معانقة تجربة وجود متخيلة سوق لها بقوة التدفق الرقمي للصورة والعابر لحدود الزمان والمكان إن صح التعبير، داخل السوشل ميديا سواء كانت صورة ثابتة أو متحركة و التي برزت الآن بقوة كلغة عالمية محققة لأقصى درجات التواصل والاتصال بين كل الفئات العمرية متجاوزة بذلك السلطة التقليدية للحرف والكلمة.
الأمر الذي يطرح للنقاش واقع اضطلاع السنيما اليوم بلعب نفس الدور السابق كوسيط ثقافي منتج لثقافة الفرجة السينمائية المبينة أساسا على امتلاك المشتغل في السينما لحد أدنى من الرصيد المعرفي الذي سيسمح بوجود مثقف سينمائي، خاصة في ظل إكراه تراجع الفرجة الشعبية للأفلام السينمائية ببلادنا حاليا في ظل السياق الرقمي الجديد و ما تعرفه عدد من دور السينما من إغلاق لأبوابها(محمد المودن).
أما مساحة أخرى للحديث داخل هذه الندوة، فقد أشارت إلى أهمية بناء جسور من التواصل النشيط بين أجيال الأمس و الناشئة المغربية اليوم، بما يضمن تشكيل فهم حقيقي لتطلعات هذه الأخيرة و لرغبتها في التأسيس تجربتها الوجودية الخاصة بعيدا عن نمطية الأحكام الجاهزة و لغات التخاطب و التواصل التي أصبحت متجاوزة، و ذلك قصد ضمان أقصى درجات التفاهم و البناء المشترك لفضاء قيمي ينطلق من الأسرة كحاضنة اجتماعية أولى للنشء مرورا، بالمدرسة التعليمية التي وجب عليها الانفتاح أكثر على التواصل مع جيل الشباب بأدوات جديدة و صولا إلى تقبل الرقميات الجديدة كمساحة لا بد منها للتخاطب مع شبابانا(عز الدين بوشراوي). لا ننسى أن اللقاء عرف أيضا تفاعلا من طرف بعض الحضور من الفنانين و الفاعلين الجمعويين و المهتمين أمثال جواد مرزوق منشط الندوة و الفنان صلاح الدين بنموسى و آخرين أكدوا في العموم على أهمية فتح هذا النقاش مشيرين إلى ضرورة إعادة تنشيط الأدوار المركزية للأسرة و المدارس العمومية والنوادي السينمائية بدور الشباب داخل مجتمعنا عبر فعل جمعوي هادف، مع العمل على استثمار ما تمنحه الرقميات الجديدة من هوامش للمبادرة و التواصل و الإبداع عبر الصورة و ذلك في أفق ضمان ممارسة ثقافية أصيلة لصالح الشبيبة المغربية اليوم.
و يبقى الأهم في الأخير هو الانتصار لفعل ثقافي مغربي يكون ذا معنى قيمي بالنسبة للناشئة بما يسمح بتشكيل معمار إنسان مغربي عميق و أصيل في هويته الحضارية و منفتح في نفس الآن على المثاقفة الكونية مع الآخر.
لا ننسى أن المناسبة عرفت أيضا حفلا خاصا بافتتاح هذا المهرجان أكدت من خلاله رئيسة الدورة حنان السكاكني في كلمة لها على أهمية هذا الحدث الثقافي كمحطة مهمة يكشف عن الحاجة الملحة الآن للوقوف على أهمية رصد موضوع الصورة و علاقتها بالناشئة الصاعدة رغبة في التأصيل لمقاربة ذات بعد قيمي تربوي، بالإضافة إلى أن نفس الحفل عرف أيضا مساحة تكريم و اعتراف بمسار أعلام فنية رسمت تاريخيا من الممارسة الثقافية الجماهيرية ببلانا و هما الفنان صلاح الدين بنموسى و الفنانة زهور السليماني بحضور وتفاعل من طرف الفنانة فتيحة وتيلي وفاعلين جمعويين و مهتمين مع الإشادة بتجربة إبداعية خاصة أسس لها عزيز مكروم كمخرج سينمائي اختار أن يجعل من فقدانه لحاسة البصر بؤرة للدفاع عن حقه الإنساني في معانقة الإخراج خلف الكاميرا بروح مبدعة و برصيد معرفي أكاديمي قوي. مع العلم أن عددا من الشباب استفادوا في الأيام الأولى لهذه الدورة من ورشات تكوينية في تقنيات و أجناس اشتغال لها علاقة مباشرة بالفن السينمائي على يد عدد من الفاعلين في القطاع أمثال مصطفى الشيحي و محجوب أوزال وشارك في مسابقة هذه الدورة أحد عشر فيلما ذات مواضيع و تيمات إخراجية متنوعة.
الدورة عرفت إلقاء محاضرة للناقد السينمائي والإعلامي حسن نرايس حول الفيلم القصير، خصوصياته ومميزاته ،مع عرض فيلم وثائقي وتوقيع كتاب البدايات للمخرج والباحث رشيد العروسي .
واختتمت فعاليات المهرجان بحفل من تقديم الأستاذ جواد مرزوق وتكريم الفنان المقتدر ربيع القاطي والذي نشط فقراته على ركح قاعة العروض، الفنان الشاب أيوب الروحي والفنان سيف بوعايش وإلقاء كلمات أعضاء اللجنة ،الناقد السينمائي حسن نرايس والمخرج رشيد العروسي والفنانة فتيحة وتيلي، ليتوج الحفل بالإعلان عن الفائزين وتوزيع الجوائز ودروع المهرجان وشهادات التقدير لتكون الجائزة الكبرى للفيلم العراقي القضية 102للمخرج خيبر رفيق وجائزة لجنة التحكيم عن فيلم حلم مؤجل للمخرج منير علوان وجائزة الإخراج للمخرج محمد حسين محمد عن فيلم قف نوبل وجائزة السيناريو للمخرج عزيز مكروم عن فيلم سوء النية وجائزة أحسن ممثلة للفنانة عتيقة العاقل عن فيلم الحساب للمخرج حمزة الدقون وجائزةأحسن ممثل للفنان حسن بديدة عن فيلم السولوفان للمخرج ياسين الريحاني وجائزة النور مناصفة ،جائزة النور للمخرج عبدالله إلحاق عن فيلم خريطة الكنز وجائزة النور ليوسف حسيك عن فيلم حي ميت.
ناقشته ندوة فكرية بالدار البيضاء : واقع الثقافة السينمائية وسط الشباب المغربي بين شاشة الأمس و سلطة الميديا الرقمية اليوم
الكاتب : سمير السباعي
بتاريخ : 04/06/2024