نبضات : أبي

كيف أستعيد علاقة حسية باطنية ووجدانية انتهت وتبخرت، ولم تعد قائمة موجبة حاضرة وحاثة على واجب الوفاء والحب للذي كان وراء وجودي وانوجادي، للذي كونني في رحم أم قدّيسة، وراح يتعهدني بالحدب والحنو، والإعداد والإنبات والإنشاء لأستوي كائنا وإنسانا، وممددا لحبل السلالة، نقطة في بحر دمائها، وذرة في كوسموس عوالمها، وخلية في نسيج ذريتها، وجينة في نخاع شوكها؟. كيف لي أن أحدد متى بدأت علاقتي الفعلية المنتجة بأبي؟.
وكيف بدأتْ، وأنّى طفقتُ أترسم كواها، وأستضيء بخبرتها، وتجربة من سمّاني وأيقظني من بيات وموات، وخمول ذكر وانتشار؟.
وإذا كانت علاقة الأبناء بأمهاتهم، أقرب إلى الكلام، وأدعى إلى الاحتفاء والود والهيام بحكم ما للأم من آصرة وصلة وثقى روحية وبدنية، ونفسية، ووجدانية، وعاطفية وعقلية بالأبناء، بنات وبنين، ما جعل الأدباء والشعراء، والفنانين يخصهن بآي المحبة والوفاء والتبجيل والإكبار، والإعجاب والمديح، والتمجيد، بل والغرام، وفقا لفرويد الذي سطر ذلك في عقدة أوديب، فإن علاقة الأبناء بالآباء الذكور، تكاد لا تُرى، بمعنى: إنها تكاد لا تُسمى، ولا يأتي عليها الأدب والشعر إنْ سلبا أو إيجابا، إلا في ما ندر. وذلك لأن الأب عادة ما يكون موسوما وموصوفا بالوقار والصرامة، والحفاظ على مسافة محسوبة حُيال أبنائه وبناته. وليس يعني هذا بحال أن الأب فظٌّ غليظ القلب، صعب المعشر، يضع قناع الصامت الصبور الحكيم المتريث المتحكم في عواطفه حتى لا تتدفق، والكابح لا نفعالاته ومشاعره حتى لا تخون « رجولته «، وتُزْري بفحولته، وبتماسكه في الملمات والشدائد، والفُجاءات، والمواقف الطارئة.
ومن ثَمَّ، صار البحث عن شعر لافتٍ، أو تَرَسُّلٍ تهليلي قيل في الأب، قديما وحديثا، من قَبيل البحث عن الكبريت الأحمر، أو لنقل: من قبيل التفتيش والتنقيب عن إبرة ضاعت في تلٍّ من تبن، أو ركام من دقاق الرمل، أو دبوس زئبقي مسحور في سوالف « لونجة « الكثة؟.
صحيح أن محمود درويش خص الأب، أباه، بعمل شعري باذخ يحاوره فيه محاورة من ضاع في بهيم الظلمة خاتمه، وهو: ( لماذا تركت الحصان وحيدا؟ )، بمقتضى طبيعي وبديهي يتمثل في أن الرجل ـ أبا أو إبنا أو أخا ـ في الشرط الفلسطيني، هو مقاوم للاستئصال، وشهيد، ومشروع شهيد إن لم يكن بالفعل، فبالقوة. وأن الرجل في الشرط الفلسطيني المأساوي، يحمل عبء وجوده في حقيبته، وتاريخ أرضه، وخرائط مدنها وقراها وبلداتها الممحوة في ذاكرته، جوّاباً ومترحلا، ومقتلعا، من دون أن نغمط حق وقَدْر المرأة الفلسطينية، بطبيعة الحال. فهي أم الشهيد، وزوج الشهيد، وبنت الشهيد، وأخت الشهيد.
كما أن الشاعر سميح القاسم أعلى من دور الأب مادحا وممجدا. بينما خُصَّ الأبُ في كتابات نفس تحليلية، ومدونات أدبية أخرى روائية، بالأساس، بأقدح الأوصاف والتوصيفات، وأشنع السباب والنعوت، وأصفق التصاوير والحكايات. ولعل كراهية فرويد عالم النفس التحليلي، لأبيه، وأدب محمد شكري، وغيرهما، أن يكون مسعفا في هذا الباب، بحيث إن رواية شكري ( الخبز الحافي )الشهيرة التي عتمت على باقي أعماله السامقة، تقوم برهانا ساطعا على النيل من الأب، وتدمير اسمه وصورته في الكتابة كما في الحياة، لا على أساس من عقوق أو عصيان مجاني ـ والعهدة على شكري ـ بل على أساس من انتقام كامن، وثأر مقيم بمثابة ردة فعل على سلوكيات أب وحش بما في الكلمة من شراسة وضراوة، وقانون غاب.
أما قصة علاقتي بأبي رحمه الله، فهي علاقة نوعية وبخاصة في الطور الثاني من عمري، أي في مراهقتي، ونضجي النسبي. إذ أن الطور الأول المتصل بطفولتي وَتَبَرْعُمي،
ويناعتي، تعهدته علاقتي بأمي التي كنت مناط اهتمامها وعنايتها. فكانت الحريصة على تربيتي وتعليمي، وتحفيظي، وعرضي على الأطباء محمولا فوق ظهرها طوال الوقت، ساعية بي، وقد أصبت بدَرَنٍ في الرئة، من مشفى إلى مشفى، ومن عطار إلى عطار، ومن فقيه إلى فقيه. ويكاد أبي أن يكون غائبا طيلة اليوم، وعندما يحل بالمنزل، يحل منهكا ملفوحا من الحر، ومرتعدا من البرد تبعا للفصول، ليأكل ما تيسر من طعام، وينام قبل أن يخرج ليلا للسمر مع رفاق العمل المنجمي، أو يجرب حظه مع « السيرك «، وعيناه على صينية من فضة، وكؤوس من بلور.
كان حضور أبي مشعا، حين يحضر، ذا نكهة ورائحة عندما أنجح أو أتحصل على النقاط الأولى بين زملائي وأترابي، أو أحصد الجوائز التقديرية والتنويهية بالثانوية، وكان حصادي وفيرا. حينها ـ فقط ـ يعبر عن فرحه بشراء سروال أو نعلين لي، ونفحي بدريهمات معدودات. ثم يتوج ليلة الفرح بإسالة دم ديك بلدي شهي، أو أرنب بدين رضي. نجتمع حوله كما يجتمع سكان مغارة حول نار موقدة وهم يتصايحون ويتقافزون.
ثم يغيض حضوره بعد ذلك مدة قد تطول، ولا يطفو على مسرح « اللمة « إلا لماما.
وعلى عكس ما أقرأ وأسمع، لم تكن أمي حكّاءة بارعة للقصص، ونساجة للروايات، وراوية للأساطير والخرافات، بل إن أبي من كان كذلك. فحين ينتشي بكؤوس الشاي ليلا، ويمتليء جيبه بدراهم « الكَنْزينَة «: الخمسة عشر يوما من العمل، يبسمل بدءاً، ويدندن لحنا غامضا، ثم يشرع في نحنحة أشبه بالسعال، تمهيدا لحكاية أو قصة، أو حادث حدث له أو لأصحابه. نجثو على ركبنا، أنا وإخوتي الصغار، أو نجلس القرفصاء، أو نسند ظهورنا إلى الحائط ونمدد أرجلنا الصغيرة ونحن إنْصاتٌ كليٌّ، وأذانٌ متعطشة، وحواس يقظة، وسكون عجيب. فأبي ، إذاً، هو من علمني القص والحكي، والخرافة، والملاحم والأساطير. وهو من دس في روعي الخوارق والكرامات، وعزيف الجن في الليالي الباردات، وصرير الأبواب المخيف في الشتاءات القريرة والناس نيام. كما أن علاقتي بأبي في طورها الثاني المتقدم، وقد أصبحت تلميذا « نجيبا « منتشر الاسم في جرادة ووجدة، اتسمت بالخوض في شؤون السياسة، وبطش المخزن، واستغلال العمال. فإليه يعود الفضل في فتح عيناي وقلبي وعقلي على واقع المدينة الفحمية المستغلة والمستباحة، ممصوصة الضرع والأثداء، وعلى أهمية النضال النقابي، والانخراط في العمل السياسي. وكنت ـ في الأثناء ـ بوجدةَ، رئيسا لودادية التلاميذ، ماركسيا ولو عن تقليد طفولي، وادعاء حيث لم أكن أعرف عن ماركس إلا القشور، ومنها عناوين كتبه، وبعض أفكاره، ومواقفه. وجوديا سارتريا ملحدا من دون بناء. وِلْسونيا عبثيا، وكافكاويا عدميا، وكماويا متمردا وسيزيفيا. فتصادى المزيج إياه، والخلطة الأدبية والفكرية الغريبة مع واقع النضال اليومي الذي فرضه استغلال العمال من قِبَل كمشة من الانتهازيين المستفيدين، والوشاة المدسوسين.
وكان من نتائج هذه العلاقة التي اتسمت بالعمق الروحي، والعطف الأبوي ـ الابني، والوعي السياسي الحاد، أن صار أبي « مؤطرا «، ومنظرا ـ على علات ذاك التنظير، يجالس الجيران والعمال، ويرسم لهم طريق الخلاص من الاستغلال، والإذلال الذي يعيشونه، وقلة ذات اليد التي يكابدونها. وصرت، والحماس يؤجج أفكاري ورغائبي في وجوب إحقاق المساواة بين الناس، وأنا يومئذ طالب جامعي اتحادي بفاس، أجمع ـ عند عودتي إلى جرادة ـ العمال والأرامل العاملات، والتلاميذ في دور عمالية ب « ديور النصارى «، مبينا لهم ما هم فيه من ضنك وحرمان، بينما كمشة من الاستغلاليين ترفل في بحبوحة العيش. وكان أن « بَهْدَلْتُ « ذات استحقاق انتخابي ـ وكنت إبانها ـ مكلفا بالدروس في ثانوية محمد بن عبد الله، المدير العام لمفاحم جرادة في قاعة السينما التي أصبحت اليوم أثرا بعد عين، حين فضحت وعوده الكاذبة، والوضعية العامة للعمال والعاملات، وظروف معيشهم ومعاشهم وأبنائهم.
التجمع حاشدٌ ورهيب، وأنا أخرج منتصرا لكن غاضبا مرغيا ومزبدا، تحت وابل من تصفيقات الحاضرين. وعلى إثرها، وبعد شهر تقريبا، فصل أبي من العمل. لم يحزن، ولم يخنع ويعتبرني سببا في توقيفه. بل حمد الله وأثنى عليّ وقد وصلته أصداء موقفي من قبل. ولعل ذلك كان من بين الأسباب التي جعلتني أعرض عن متابعة دراستي بالكلية بفاس، إذ أقمت في بلدتي لأرمم عطب الجيب، وبؤس الحال، وغياب الرغيف.
وكان أن فُصِلْتُ بدوري بعد عام فقط من التدريس، وقد سطع نجمي بين التلاميذ والعمال، والساكنة طُرّاً. وقد لفقت لي، كما لفقت لأبي، تهمة التحريض على الإضراب، وعرقلة السير العادي للمؤسسات العمومية.
ومن علائم محبتي وتقديري لأبي، وعلاقتي القوية به، إهدائي له كتابي النقدي ( خيط أريان ) الصادر في العام 2009، وتحبير قصيدة فيه وفي أمي، عنوانها: ( دماء أعمق من الظلال ) التي يضمها ديواني: « قرابين «، الصادر في العام 2007.
أما عن أمي، فجل شعري لها، وليس انتهاءً بقصيدتي الأخيرة ( الكاملة ) الموجودة بديواني الشعري: ( في أبهاء الضوء والعتمة ).
رحمك الله يا أبي. هل نُؤْتَ بي؟.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 07/05/2021