نبضات : في معنى النبض

ما أن يسكن النبض ويتوقف، حتى تتوقف الحياة طُرّاً. تُصَوِّحُ أزاهيرها وعناصرها، كل عناصرها، وتسقط مِزَقاً وأشلاء من فرط اليباس والتكلس والانكماش كأوراق البلاستيك الشائهة، أو كصبار منسي في خرائب نائية، وأشجار عطشى منذ دهر. فالنبض ، إذن، علامة على الحياة، على الحركة والدينامية، وعلى النشيد الأعظم الذي تضج به ربوع الكون، ويسبح له الملكوت والناسوت، نشيد العناصر برمتها: نشيد الأرض، ونشيد الريح، ونشيد الماء، ونشيد النار وهي تلتهب، وتتواثب آكلة بعضها بعضا. ففي التواثب والتوثب، والاندفاع إلى الأمام والخلف، والفوق والتحت، يعلن النبض عن نفسه بما هو أس وينبوع ومصدر، ومَعين وكتاب للعيش.. للمعيش وللحياة.
بالنبض نعيش وبه نحيا. لا وجود لحياة من دون نبض أي من دون حركة ودبيب وإيقاع. بهذا المعنى يكون النبض إيقاعا مُدَوْزَناً متغلغلا، منسربا، دافقا، فياضا يثير ويثار. إذ أن العروق تنبض، والدماء تنبض، والدماغ ينبض بما فيه، والفكر ينبض، والحواس كما الجوارح تنبض ما يعني أنها توقع وجودها وتعلن عنه بالحياة وبالإيقاع.
إن سكون الطبيعة العظيم والعميق في أويقات معينة من النهار ومن الزمن، ينبض بإيقاع داخلي دفين غير محسوس ولا مسموع، ولا مُتَقَرّى. دعنا نسَمِّهِ إيقاعا ميتافيزيقيا، أي إيقاعا ماورائيا، لامرئيا يتحدد بالصمت العجيب الذي ينغل في داخل أحشائه: ارتطام الذرات المتوازن والمحسوب، ودوران الأبراج والأفلاك، والحيوات، والكينونات. إنه الصمت الملهم الموحي، الصمت الموار الفوار وإنْ من دون رجع ولا صدى. الصمت الذي يزاوج بين البياض والرمادي، والأسود والبرتقالي والمخملي الوارف. وهو الذي يمد قلم السحر للأديب والشاعر، وفرشاة الرهافة للرسام والتشكيلي، والنوتات والمقامات والألحان العلوية للموسيقي والمغني. هو ما يفرش للعين مراعي زمردية زاهية تأتلق بالندى واللون والحفيف، والبديع الغميس، والصافي المشمس، ويقيم للروح مهرجانا مزركشا بعصارة الطرائف واللطائف والمطارف.
ثمة ما يجعلنا نرى في النبض إيقاعا متواصلا مستمرا أبديا هو عنوان الحياة. ونرى فيه صمتا فائرا، وسكونا باهرا هو ما يُعَشِّقنا في الحياة، ويزيدنا هياما وتولهاً بها وهي تنسكب كأعذب وأمتع وأروح ما يكون في كاسات الشعر اللازوردية، وسمفونيات العباقرة الإلهية، ولوحات المهووسين المجانين أسياد اللون والماء، والأطياف والظلال.
وعليه، فالنبض إيقاع صامت طوال الوقت، صائت قلال الوقت؛ لكنه أُسُّ الحياة، به قيامها ونهوضها، وعليه يقظتها الدائمة، وجريانها إلى غير مستقر لها.
القلب ينبض، والفكر كذلك. كلا النبضين يهديان إلى النجدين. كلاهما يهب الحياة للموجود، ويمنحانه الإقامة فيها. بل ويضفيان على إقامة الموجود في الوجود، قيمة ومعنى وآدمية.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 10/10/2020