نبضات ..قِسْمُ الــمُــلاحَــظَــةِ: Classe d’observation

كان عام « الملاحظة «، عاماً بَيْنيّاً، يقع بين نهاية الابتدائي، وبداية الثانوي الأول ( الإعدادي )؛ جسرا للعبور، وقنطرةً للمرور. همزة وصل وقطع وحسم، ومفترق سبيلين أو مسارين تعليميين يفترقان ليلتقيا، ويلتقيان ليفترقا. كان، إذاً، عاماً ماهِداً لولوج السلك الأول من الثانوي. فكأنَّما سُمّيَ بذلك لأن التلاميذ القادمين من الابتدائي، والحاملين لشهادة نهاية الدروس الابتدائية، وما أدراكَ ما هي وقتئذٍ؟، سيخضعون، خلال سنةٍ تدريبية كاملة، لملاحظة ومراقبة الأساتذة من حيث مستواهم التعليمي والتحصيلي، ورصيدهم الأولي المعرفي، وكفاءتهم في العد والحساب، وبعض المباديء والأصول الرياضية، وفي اللغتين معاً: العربية والفرنسية، خطّاً، وكتابةً، ونحواً، وصرفاً، ومحادثةً؛ ولجهة تأهيلهم التأهيل المبتغى والمطلوب حتى يتمكنوا من قطع السنة الدراسية « بخير «، وقطع المسافة الفاصلة بين مبنى الحجرات الخمس المعدة كأقسام الملاحظة، الحجرات المحشورة وسط ساكنة ( دْيورْالنّْصارى )، على مرمى حجر من الكنيسة، والطريق المتربة، نصف المُعَبَّدَة الموصلة إلى الثانوية « الفعلية « ثانوية سيدي محمد بن عبد الله التي أدارها مديرون، وحراس عامون فرنسيون أشدَّاءُ، بكفاءة واقتدار، واحمرار عيون، إلى حدود السبعينات من القرن الماضي.
هي ذي أقسام الملاحظة التي اشتهرت بالتداريب المكثفة، والتمارين الشاقة، والمحادثة الشفهية بالفرنسية التي لا تنتهي. وكان المُتَوَخّى منها ـ كما أسلفت ـ إعداد التلاميذ إعداداً « نافعا «، تأهيلياً يسمح لهم بدخول السنة الأولى ثانوي ( إعدادي) دخولا راجحاً ناجحاً، دخول الغازين الفاتحين بالحُسْنى، و (نٌ ) والقلمِ وما يسطرون.
ومعنى ذلك، أن الثانوي الإعدادي بتسمية أيامنا، كان يستغرق أربع سنوات إذا احتسبنا، طبعا، سنة الملاحظة « التسخينية «.
أذكر أننا ولجنا القاعة للوهلة الأولى، وقد بَدَّلْنا أسواراً بأسوار، وقِبْلَة بقِبلةٍ، وُلوجَ السّكارى الحَيارى، المُتَعْتَعين، المندهشين، ونحن في ثيابٍ جديدة، وأحذيةٍ أكبرَ من أرْجُلِنا؛ فالبرامج والمناهج، والكتب المدرسية غير ما عرفناه في الابتدائي. والأساتذة شكلٌ ثانٍ، ونوعيةٌ أخرى، و» فصيلةٌ « مغايرة.
سَعِدَ الطفل بمعرفة أستاذه في الرياضيات، طيب الذكر مَسْيو شوفالْييِه، ومعرفة أستاذه الفلسطيني مدرس اللغة العربية الذي لم يَعُدْ يذكر اسمه. فلأول مرة، نسمع عن فلسطيني بيننا: طول فارعٌ، وبدلة مَكْويّة، وصوت جهوري، وفصحى مُضَريّة شامية بديعة، صافية إلا من شوائب تُلْتَقَطُ ولا تلتقط، حيث يُرْفَعُ المفعولُ، ويُنْصَبُ الفاعلُ، والمعطوفُ يتذبذب بين الرَّبْطة والنَّفْرة. لعلها السرعةُ وتزاحم كنوز المعجم طيَّ لسانه. لكن اللغةَ تخرج من فمه، منتظمةً كأسنانه المصفوفةِ، وتندلقُ مُوَضَّبَةً على لسانه، متناسقةَ الأحرف، منسجمةَ الريح، هوائيةَ المخارجِ، لا كَزَازَةَ فيها، ولا مزيجاً من دارجة وفرنسية، أو عَرَنْسية. وكان أكثرَ ما يضحكنا فيه، محاولاتُهُ المكرورةُ والفاشلةُ للتعبير عما يخالجه من أفكار ومشاعر باللغة الفرنسية، وبخاصة عندما نسمعه يتبادل الكلام والسلام مع المتعاونة الفرنسية الجميلة ( التي هِمْتُ بها.. وربما يكون ذاكَ الهيامُ أولى شراراتِ حب الطفل للأنثى )، مادموزيلْ رافوكْسْ. إذَّاكَ نُطْلق ضحكاتٍ مجلجلةً لم نكن نستطيع لها لَجْماً؛ فيحمر خجلا، ويَحْدِجُنا بنظراتٍ شَزْراءَ غاضبةٍ تقول كل شيء. غير أنه يَنْسى وعيدَه، وتهديدَه لنا بمجرد ما نحضرً حصتَه.
كان ذا قلب كبير، قلبٍ عطوفٍ رؤوفٍ، وكيف لا يكون كذلك، وهو الفلسطيني الجريحُ والمقتلع؟. فهو من لقننا أبجدية النضال، وحب فلسطين شعبا وأرضاً وسماءً. وأرشدنا إلى مجلة ( العربي)، حاثا إيانا على اقتنائها، وإلى كتب المنفلوطي، وجرجي زيدان، وجبران خليل جبران، لنتدارك ضعفنا اللغوي، ونَصْقًلَ تعبيرنا الإنشائي، وننجحَ في تفتيق أكمام الفكرةِ المعروضة، والموضوعِ الإنشائيِّ المطروحِ.
سمعنا مِنْ فِيهِ الشعرَ الذي لم نكن قد سمعنا به من قبلُ، والشعراء المعاصرين الذين كنا نحسبهم عاشوا في الأعصر الغابرة، أو أمواتاً وهم أحياءُ. وأسْمَعَنا ـ عندما يكون رائقَ المزاج ـ نُتَفاً من أغاني ملتزمة، ونكاتٍ كان يجتهد في مغربتها لتبليغها لنا وَفْقَ ما يتغياهُ، ووفق ما يصبو إليه من ترديدها، وحكيها، وروايتها. وعلى يديه، انتظمنا صفوفاً صغيرةً بألويةٍ، أو فرقاً تربوية تتحلق مُشَمِّرةً حول موضوعٍ أو فكرةٍ ما لمعالجتها كتابيا أو شفويا. ثم ما عَتَمَ أن غاب في السنة الموالية من دون أنْ نعرف وِجْهَتَه، أو ضالَّتَهُ، وما المدينة التي ابتلعته، والدولة « الشقيقة» التي جذبته، أو المرأة الساحرة التي تزوجته وطارت به إلى « الجزائر « مدرساً، كما نَما إلى علمنا بعد سنوات.
اما مادْموزيلْ رافوكْسْ، فكانتْ آيةً في الرقة واللباقة، والأناقة، والسحر الأنثوي الأخّاذِ. أُخِذَ بها الكثيرون ـ وأنا منهم. وتكرَّس حبي لها، وازددتُ تعلقا بها عندما حَبَتْني بعطفها وحَدَبِها. ورَعَتْ كتاباتي الإنشائية الأولى. بلْ إنها اندهشت لما سلَّمْتُ لها « محاولة شعرية « لم أعد أذكر موضوعها، وكيف كتبتها، وما مناسبة كتابتها؟. وازدادتْ في عين الطفل ألقاً وجمالا عندما قامت بتعليقها على وجه الباب الداخلي للقسم حتى تكونَ رهن زملائي وزميلاتي، ورهن تلاميذ وتلميذات الفوج الآخر الذي يقاسمنا نفس الفصل. وكم كانت مفاجأتُها كبيرةً لما أخبرتها بأن لا أخا لي يكبرني أو أحدا من أقربائي يتقن الفرنسيةَ، كجواب على سؤالها: هل لك في العائلة أحد يتكلم الفرنسية؟
وليس من شك في أن عنايتها واهتمامها بي، وبما أكتب وأخربش، شجعني على المُضَيِّ في التهام سلسلة « الجدول الأسود»، وسلسلة الرواية الخضراء، وبعض روايات، وأقاصيص كتاب الجيب. ولم أكن ألقي بالا، أو ألتفت لزملاء القسم الذين ماوَنوا يَرْمونَني بتهمة السرقة، وباستكتاب أحدهم أو إحداهن. منْ؟ قد يكون شبحاً او جنيةً، أو حجاباً أضع حول عنقي، وأخفيه في صدري، كتبه فقيهٌ من فقهاء جبل « قافْ «، أو من وادي السيسبانْ، أو من مفازة في الجنوب أو الشرق بعيداً.. بعيداً هناك.
هكذا، شرَعْتُ أجمع ـ بالتناوب ـ بين ما كُتِبَ بالعربية، وما حُبِّرَ بالفرنسية: بين لغة القرآن العظيم، ولغة المتنبي الفخمة الفارهة، وبين لغة راسين، وفولتير، وهيغو، الجميلة الساحرة.
أما العربية، ففضلاً عن يد الفلسطيني البيضاء الذي شَكَّني بإبرتها الشافية واللذيذة، بالإمكان ذكر أساتذةٍ أُخَرَ لا أملك إلا أن أدعوَ لهم بطول العمر، والصحة الموفورة، كالقنيطري محمد جميل. والجرادي / المكناسي الناقد المعروف محمد خرماش، والشمالي الطنجي محمد غطاسْ.
ومن الفرنسيين، بالإضافة إلى رافوكسْ، مدام دانييلْ، ومدامْ إلْغَا الرائعة التي اختطفتها يد المنون ذات عودة سوداء من شاطيء السعيدية، إثر حادثة سير مميتة. ومسيو بينّيتا، ومدامْ كوصِي، وشاطورينو، وآخرين.
وهكذا، رُحْتُ أنشيءُ القصَّ إنشاءً، موفقا حينا، متعثرا وخائبا أكثر الأحيان. أنشئه بالفرنسية وبالعربية، محاولا إظهار « موهبتي» لأقراني، ولباقي تلاميذ الأقسام والمستويات التعليمية الأخرى. وكنت أعرض على أساتذتي ما أكتبه، وما يخطه يراعي المرتعش، وقلمي المصطفق، وما يسمح به منزلنا الصغير، وطاولتي الخضراءُ مخَلَّعَةُ ومُصَدَّعَةُ القوائمِ. كما طَفِقْتُ أطوف على زملائي وزميلاتي من أجل استلاف رواية أو قصة، أو مجموعة شعرية، إذ كان الطواف على منازلنا المتقاربة بَلْهَ المتباعدة، قائماً، وما نحوزه ونمتلكه من كتب، نَضَعُهُ رهن رغبة بعضنا البعض لننتفعَ ونستمتعَ. هذا، علاوةً على ما نجنيه ونَغْنَمُهُ من عناوينَ ( وكنا قلةً ـ طبعاً )، من غزواتنا، وغاراتنا الأسبوعية على الأسواق، والمكتبات، والتي قادتنا ـ أكثر من مرة ـ إلى مخفر الشرطة، أو أوصلتنا إلى الهراوات التي أشبعتنا ضرباً مُبَرِّحاً، ورسمتْ على وجوهنا كَدَماتٍ زرقاءَ، وانتفاخاتٍ بالونيةً مضحكةً.
فما يُسَمَّى ب « الموهبة «، وبَدْءِ الكتابة، وبسجن الخيال، وما يمر بالخاطر والبال، واللذاذات المستحيلة، ضمن أحرفٍ، وكلمات، وجملٍ، ومقاطعَ، وفِقْراتٍ، ونصوصاً، ومروياتٍ، وتَجَسْدَنَتْ ـ إِنْ أسعفها الحظ ـ أدبا وإبداعاً، بَدَأَ من هنا: من قسم الملاحظة فما فوق، حتى استوى شعراً بعد ان ارتضيته جنسا كتابيا، وقالبا إبداعيا، ونوعا تعبيريا. علماً أن أول « أدب « كتبته، كان قصة طويلةً شَغَلتْ دفترا كاملا من فئة اثنتيْ عشرَ صفحةً، دفتراً أخضرَ باهتاً تتوسط خطوطَه الأفقيَّةَ والعموديةَ، دائرةٌ سوداءُ بداخلها دوائرُ تَصْغُرُ شيئا فشيئا حتى تغيبَ، كما في بِرْكَة أُلْقِمُها حصىً وحجارةً وأتفرج عليها تغوص صاخبة ثم متلاشيةً بعد ثوانٍ.
ولا أدري، ولا إخالني يوما أدري، كيف انتقلتُ من القص إلى الشعر. ومن افتتاني بالسرد والحكي والرواية، إلى الكَلِمِ المنظوم المعقود، المَمَوْسَقِ المُفَوّفِ والمُكثَّفِ، اللّيِّنِ الهَفْهافِ، الغامضِ والعاري؟


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 19/02/2021