نبضات : لَفْقيرَةْ فاضْمَةْ اليَزْناسْنيّة: النخلةُ الباسقةُ 2/1

كنَّ كثيراتٍ، طفلاتٍ وشاباتٍ، وعجائزَ، يملأنَ الفضاءَ الجرادي شعابا، وطُرُقاً، وفِجاجاً، ذاهباتٍ آيباتٍ، وهن يحملن على ظهورهن حُزْماتٍ من حطب وأخشاب وأعوادٍ لأغراضٍ شتى؛ ومنها على الخصوص: بيعها للمتعاونات والمتعاونين الأجانب، مهندسين، ومعلمين، وأساتذة، وإداريين لغزو البرد والقَرِّ، ودَحْر القَفْقَفَة والاصطكاك. جامعاتٌ وقاطعاتٌ للحطب، ملتقطاتٌ له من الغابة البعيدة مقدار كيلومترات، بعد جهد وكدٍّ، وعرقٍ صَيّبٍ، وآلامٍ لاتوصفُ، ووَخْزِ أعوادٍ ذاتِ أشواكٍ ناتئةٍ، وتَمَزُّعٍ جلديٍّ لا يُحَدّانِ. حُزْماتٌ ثقيلة تَقْصِم ظهورَهن، وتُحْنيهن فيمشين سُلَحْفاتياً شبه مُكباتٍ على وجوههن، مَطْوياتٍ كأنهن يَتَجَرْجَرْنَ على الأرض. لا تُرى إلا الحزماتُ المربوطاتُ والمعقوداتُ بحِرَفية واعتياد، تمشي وتَدِبُّ كأنها وحيدةٌ ترفعها أيادٍ لا مرئيةٌ، وتَخبُّ بها أرْجُلٌ شبحيةٌ وهوائية، تُذَكِّرُ بتلك الأشجار التي رأتها زرقاءُ اليمامةِ تمشي، ولم تكنْ إلا حيلةً وخُدْعَةً من خداع الحرب، وخطةً ماكرة محبوكة حبكا كما عرفنا. وما يتبقى لهن من حطب، وما يفْضُلُ مِمّا بيعَ يُرْكَنُ في « هَرْنافْ « في زاوية من زوايا الخيمات المنتشرات كالمظلات، والمبثوثات كنبات الفِطْر، وأسراب الغربان. يُرْكَنُ لوقت الشدةِ، والشدة كانت سيدةً كل الأيام: لوقت البرد، والحاجة، ومبادلته بسكر أو شاي، أو زيت.
حمّالاتُ الحطب ـ إذاً ـ. وكانت جدتي واحدةً منهن سوى أنها ( شافْ )، مشرفةٌ عليهن، تنظم احتطابهن، وتَزِنُ بعينيها حزْماتهن، وتجمع مالَ البيع لديها لتوزعه، بعد ذلك، عليهن بحسب أوضاعهن، وعدد أفراد أسرهن. كانت ( شافاً ) لصيتها، وحُسْنها، وسنها المتقدمة ( ومن فاتك بليلة، فاتك بحيلة. بل بحيل لاتحصى ).
لَفْقيرةْ فاضْمَةْ اليزناسنية، هو ذا اسم جدتي ( لفقيرة، ولفقيراتْ باصطلاح تلك الأيام، هن القانتات المؤمنات، الصابرات، المتفرغات للذكر، والصلاة، والأمداح ).
العاليةُ، الشامخةُ، بيضاءُ الشعر والمُحيّا. البيضاءُ من غير سوء. الجهيرةُ الصوت، الحاكمة والآمرةُ التي تتقدم الصفوف.. صفوفَ العجائز، والشابات، وتنهرهن عندما يرفعن أصواتهن، أو يطلقن ضحكاتٍ زاعقةً في الفضاء العام؛ حتى أن جدي المقاوم عبد القادر رحمه الله، كان يخافها، ويتّقي « شرها «، وشَرَرَها، ونارها. ومن علائم خوفه، وتَحَوُّطِه منها، أنه كان يناديها تودُّداً هكذا: ( أَلَفْقيرةْ فاضمة.. أجي ألنخلةْ )، فتأتيه مختالةً، تجرر ملحفتها الفضيةَـ وإزارها الثلجيَّ المتموج. وشمٌ أزرقُ دقيقٌ ورقراقٌ يُزَيّنُ ذِقْنَها، وأنفٌ أنوفٌ مستقيم ورقيقٌ، وخدّان أسيلانِ لم يَطْمِثْهُما الدهرُ، ولا نال منهما الزمان الذي لا يرحم.
خَمَّنْتُ أن خوفَ جدي منها، وتوَدُّدَه الدائمَ إليها، إنما سببه طولُها وقِصَرُه. لذلك، لا أذكُرُ أنني سمعتهما ـ يوما ـ يتشاجران، أو يرفع صوته في وجهها؟ فهل يكون ذلك اتقاءً وتفاديا لصفعة من جدتي، أو بصقة منها، أو إسقاطه أرضا بدفعة واحدة؟
كانت جدتي تصحبني كل الوقت معها إلى حيث تذهب. وتحرص على وصفي ب « المسكونْ «، ما يعني بالملبوس بجنية أو عفريت، وهو ما جعلها تكلؤني بعناية خاصة، ورعاية مبالغ فيها، محذرةً أمي الكاملةْ من إيذائي وضربي، إذ سيشويها الجنيُّ الرابض بداخلي، الساكنُ روحي وبدني، شَيّاً، ويشوه خلقتها. ولم تكن في ذلك مازحةً، ولا راغبة في صرف أمي عن تأديبي وتهذيبي، بل كانت مؤمنة بما تقول، مراهنةً على حَدْسِها، وفِراستِها، و» شيخها « الذي يزورها في المنام.
في بعض نهايات أسابيعي الدراسية، أُيَمِّمُ شَطْرَ خيمتها المنصوبة على مرتفع تَلٍّ، إلى جانب خيام أخرى منسوجةٍ من شَعَر الماعزِ، أو صوف الأغنام السوداء، أو الحَلْفاءِ. خيام تعبر عن طبيعة وتراتبية معلنة، وتطويح بشريحة اجتماعية مغبونة إلى هامش الهامش.
كانت نهاياتُ أسابيعي مضمخةً بنَزَقِ الطفولة، والفرحة الغامرة، والنّطِّ الكونْغُوري، والتمرغِ الجَحْشي، والقفزِ بالزَّانة الخيالية، والطيرانِ الفَرْناسي، والسقوط الإيكاري، والخطوط الزَّرَدية، والكَدْمات الزرقاء، والكسور المختلفة، والذهاب والإياب إلى جدتي، وإلى المشافي، والمزارات.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 05/03/2021