نجيب محفوظ فى ذكرى رحيله : من زقاق المدق إلى كبريات عواصم العالم

بعد مرور أربعة عشرة عاماً على رحيله في 30 من شهرغشت الفارط من عام 2006، ما فتئت روايات الكاتب المصري نجيب محفوظ تحظى باهتمام بالغ من طرف العالم الناطق باللغة الاسبانية، وما انفكّت تتوالى ترجماتها الى هذه اللغة، وهي ما انفكّت تحتلّ يوما بعد يوم مكانة مرموقة في الأوساط الأدبية، سواء في إسبانيا أو في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية .
وكانت معظم هذه البلدان قد انضمّت إلى الأوساط الأدبية في مصر، وفي بعض البلدان العربية والعديد من عواصم العالم للاحتفال بالذكرى المئوية لميلاد نجيب محفوظ عام 2011، وقد أعيد نشر بعض أعماله الروائية المترجمة إلى اللغة الإسبانية، كما نُظمت العديد من التظاهرات واللقاءات والندوات الثقافية والأدبية في هذه البلدان حوله، ونشرت دراسات نقدية وتحليليىة عن أعماله، فكيف يرى النقاد في إسبانيا وفي أمريكا اللاتينية هذا الروائي المبدع الذي كان أوّل كاتب عربي يعانق جائزة كبرى من مستوى عالمي عالٍ مثل نوبل، وقد تمّت مؤخّراً ترجمة روايات أخرى جديدة له إلى اللغة الإسبانية، وأصبح كاتبا مألوفاً ومعروفاً يتهافت عليه القرّاء في هذه اللغة وفي مختلف اللغات الحيّة الأخرى. ترى ما هو سرّ هذا الانتشار الذي حظيت به أعمال صاحب بين القصرين في هذه الأصقاع والبقاع التي تنأى عن الموطن الأصلي الذي كتبت فيه أعماله، والذي كان مصدر وحي وإلهام لمبدعها…؟

 

 

عالم متناوش
تحت المِجهر

بخصوص روايته «زقاق المدقّ»، التي تُرجمت إلى العديد من اللغات العالمية بما فيها اللغة الاسبانية، يرى الناقد الاسباني «مانويل بيامور» أنّ: أوّل ما يلاحظه قارئ هذه الرواية في الغرب هو تعدّد وكثافة شخصياتها التي تفرض نفسها عليه، والتى تبدو كأنّها تطلّ بهامتها من بين سطور الرواية. وتصبح في ما بعد كأنّها قضايا حقيقية قائمة، بحيث توحي لك الرواية أنّ ما تقرأه هو أحداث واقعية يرويها لك راوٍ مُتمرّس عايش ولامس بالفعل ملابسات وظروف جميع أفراد شخصيات الرواية.
ويوضح «بيامور» أنّ مردّ ذلك يؤول الى المقدرة الروائية الهائلة التي يتميّز بها نجيب محفوظ، ذلك أنّ الحكايات والطرائف اليومية العادية والمتواترة عنده تتحوّل الى مادة أدبية ثريّة آسرة، فأقلّ الأحداث وأبسطها تعالج في هذه الرواية بعمق تحليلي يثير الفضول والتساؤل، حيث يغدو ما يقرأه بالتالي تحليلات ذكية لنماذج بشرية يمكن أن توجد في أيّ بقعة من بقاع العالم. وهكذا يتحوّل القلم في يد الروائي إلى مِجهر يجسّد لنا به ذلك العالم الهائل المتنوّع المناوش الغارق في طيّات الزمن، ومجاهل المكان، هذا المكان ليس من الضرورة أن يكون زقاقاً من أزقّة القاهرة، بل يمكن أن يكون كذلك أيّ زقاق من أزقّة العالم وقد اجتمع فيه : الحبّ والكراهية والكسل، والصّبر والفضول والطموح، الإخفاق والرغبة والجشع والسوقية، والعجرفة والابتذال، والتواضع والتسكّع والهجران …إلخ، كل هذه النعوت والأوصاف والطبائع التى هي عناصر لها وجود في كلّ مكان، نجدها في هذه الرّواية مجسّدة في أناس يبدون وكأنهّم موجودون فعلاً، والذين يمثّلون شريحة اجتماعية سفلى في وسط معيّن مثل بائعة الخبز والزّوج صاحب المقهى، والحلاق، وبائع الحلويات الغليظ الجثّة..إلخ.
إنّ المقدرة الفريدة للمبدع عندما تكون ذات أصالة، فإنّه لا ينتقي بالضرورة المواضيع الكبرى بل إنهّ لا يلجأ إلى اقتناص الشّخصيات المهمّة لكي يعكس لنا حقيقة العالم، بل إنّه يكتفي بزقاق ضيّق في قاع مدينة ما ليقدّم لنا تحليلاً دقيقًا ومعمّقاً، ووصفاً حيّاً ومفصّلاً لنماذج إنسانية ذات سمات مشتركة في مجتمع يمكن أن يحدث فيه أيّ شيء، ويمكن أن ينتظر منه أيّ شيء . في هذه الرقعة الضيّقة والمحدودة نجد هذه الشخصيات التي تجلبنا وتجذبنا إليها بقوّة بواسطة أحداث تبدو للوهلة الأولى وكأنّها ليست ذات معنى، وهكذا تتوالى وتترى الشّخصيات في سياق الحكيّ وتصاعد الرواية باستمرار، وكلما حاولت شخصية مّا ترسيخ خاصّية البطولة فيها لا تلبث أن تحلّ محلّها شخصية أخرى بفضل الموهبة الأصيلة التى تطبع وتميّز كتابات نجيب محفوظ .

محفوظ بين الأدبين العربي والاسباني

يقول بيامور إنّ قارئ رواية «زقاق المدقّ» يشعر وكأنّه أمام نوع من الأدب الجديد، خاصة بعد أن طفق جيلنا يتخلّص رويداً رويداً من رواسب حكايات موروثة شفوياً تدور حول كلّ ما هو خيالي وهمي، وحقيقي واقعي، وأسطوري خرافي، هذه الحكايات المتوارثة استحوذت على الذاكرة الشعبية لمدّة قرون. إنّ هذا النوّع من الأدب يخلق فينا متعة أدبية رائعة لا تقودنا أو تفضي بنا إلى كتابة رواية بليغة ليس لها وجود سابق في اللغة فحسب، وإنما هي أنشئت إنشاء مثل الرواية التي نحن بصددها .
إنّ وقائع وأحداثاً مثل حدث طبيب الأسنان وشريكه وهما يضبطان متلبّسين بسرقة طاقم الأسنان لأحد الموتى حديثاً، وأحداثاً أخرى في الرواية تبدو لنا وكأنّها قد انتزعت إنتزاعاً من كتاب» أرثيبريستي دي هيتا» وهو El Libro del buen amor ( كتاب الحبّ الطيّب) أو من إحدى الروايات الصعلوكية الإسبانية الأخرى**.
ويضيف: هذا الصّنف من الأدب العربي لهو أقرب من الغرب وبشكل خاص من إسبانيا، أكثر من أيّ بلد آخر، الأمر الذي يبيّن بوضوح مدى تأثيره البليغ فينا، هذا التأثير الذي يكاد أن يصبح نسيا منسيّا في معظمه، إلاّ أنه في الواقع يقبع في أعماق آدابنا الاسبانية سواء في شبه الجزيرة الإيبيرية أو في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية، إنّ كلّ ما هو عربي بالخصوص له سمات وخصائص جدّ متشابهة ومتقاربة مع كلّ ما هو إسباني، ابتداء من القرون الوسطى ثم في عصر النهضة.
ويستمرّ الناقد الإسباني في تأكيده لهذا الاتجاه، مشيرا إلى أنّ هناك مظاهر مشتركة بيننا لا يمكن أن تقدّمها لنا آداب شرقية أخرى مثل الآداب الصينية أو الهندية، أو اليابانية، حيث لاعلاقة ولا صلة لبلداننا بها. وهذا أمر غريب ومثير وغير مفهوم بالنسبة للقرّاء الغربيين.
إنّ هناك نزعات إنسانية أساسية بإمكان المرء أن يقتل من أجلها، وهي فوق كل اعتبار، هذه النزعات أو الأهواء هي مدفوعة بشكل تلقائي فطري، وهي تبيّن لنا مدى عمق وأبعاد ثقافة تلك الشخصيّات المتمثّلة والمتأصّلة بالخصوص في شخوص هذه الرواية مثل عبّاس، والحلاّق، وحميدة، وفي شخصيات روايات نجيب محفوظ الأخرى.
«السكّرية» بين مصر والمكسيك

ترى الكاتبة المكسيكية» نعيمة أتاموروس» من جهتها أنّ : نجيب محفوظ يُعتبر من كبار الكتاّب في مصر والعالم العربي، وهو ما زال يحظى اليوم باهتمامات الأوساط الأدبية في المكسيك وفي مختلف بلدان أمريكا اللاتينية الأخرى، على الرغم من حصوله على جائزة نوبل في الآداب عام 1988، ومن وفاته عام 2006. وتضيف: ولقد تعرّفنا بواسطة كتاباته على كثير من العادات والتقاليد العربية، بل إنّه نقل إلينا صورا حيّة عن ذلك الشقّ النّائي من العالم. وتشير في السياق نفسه إلى أنّ روايته السكّرية، وهي آخر الثلاثية بين القصرين وقصر الشوق، اعتبرت قمّة إبداعاته الأدبية التي تمّ نقلها الى اللغة الاسبانية، ليس في بلدها المكسيك وحسب، بل في معظم بلدان أمريكا اللاتينية.
وتقول الكاتبة إنّ « السكّرية «، التي نشرت في القاهرة أوّل مرّة عام 1957 وهي تعالج الجيل الثالث لأسرة عبد الجواد: نجد فيها الكثير من المظاهر السياسية، والاجتماعية في مصر بين 1935 -1944.وتضيف: إنّ صورة عبد الجواد وأسرته في هذه الرواية هي انعكاس واضح وتصوير دقيق للعديد من الأسر المصرية التي عاشت في ذلك الوقت.
وفي الإطار نفسه، يشير الكاتب المكسيكي «ألبرتو روي سانشيز» إلى أنّ أدب نجيب محفوظ يتعمّق في استكناه واستبطان واستغوار الكائن البشري، ويحلّله تحليلاً دقيقاً أبعد ممّا يمكن أن يقوم به أيّ أخصّائي في علم الاجتماع أو أيّ مؤرّخ . إنّ ما كتبه نجيب محفوظ عن مدينة القاهرة يبدو وكأنّه كتب عن مدينة مكسيكو سيتي . ويضيف: إنّنا واجدون في أعماله البحث الدائم والمستمر عن الهويّة المصريّة بواسطة وصفه الدقيق للحياة اليومية في القاهرة، كما أنه يتميّز في هذه الأعمال بدعوته الملحّة إلى التسامح الديني، مثلما هو عليه الشأن في روايته «أولاد حارتنا»، ممّا عرّضه في العديد من المرّات إلى التهديد بالموت .

زقاق المدقّ
والشّاشة الكبيرة

وبالإضافة إلى العناية الفائقة التي خصّت بها السينما المصرية أعمال الكاتب نجيب محفوظ في موطنه، حيث أخرجت العديد من الأفلام انطلاقا من نصوص رواياته على إختلافها، فقد نقلت كذلك بعض أعماله الروائية إلى السينما خارج بلاده، بخاصة في العالم الناطق باللغة الإسبانية، وعلى وجه التحديد في المكسيك، وهكذا كان المخرج المكسيكي خورخي فونس قد نقل عام 1994 روايته زقاق المدقّ إلى السينما، بعد إجراء تغيير طفيف على عنوان الفيلم باللغة الإسبانية، وهو زقاق المعجزات، وذلك حسب الترجمة التي وضعت لعنوان هذه الرواية في اللغة الاسبانية. وقد جعل المخرج أحداث الرواية تتماشى وتتأقلم مع الوسط الشعبي المكسيكي، ولقد حصل هذا الفيلم على جائز غويا السينمائية الإسبانية، وهي أعلى وأرقى تكريم يمنح في عالم الفنّ السابع في هذا البلد. كما كان المخرج المكسيكي أرتورو ريبشتاين كذلك قد نقل عام 1993 رواية نجيب محفوظ بداية ونهاية إلى السينما أيضا.
وقد ترجمت إلى اللغة الإسبانية في إسبانيا وأمريكا اللاتينية ما ينيف على ثلاثين رواية لنجيب محفوظ، منها: السّراب، بداية ونهاية، خان الخليلي، بين القصرين، قصر الشوق، اللصّ والكلاب، وأولاد حارتنا، خمّارة القط الأسود، زقاق المدقّ، حبّ تحت المطر، القاهرة الجديدة، ليالي ألف ليلة وليلة، السماء السابعة، رحلة ابن فطّومة، حديث الصباح والمساء، المرايا، مقهى الكرنك، ميرامار، همس الجنون، صباح الورد، وسواها من الروايات والأعمال الإبداعية الأخرى.
ونختم هذه العجالة عن أديب مصر الكبير بالتساؤل النابه العميق الذي طرحته الكاتبة الدكتورة أماني فؤاد فى مقال قيّمِ لها عن ذكرى رحيل هذا الرّوائي المبدع نشرته بتاريخ 04-09-2020 صحيفة «المصري اليوم» حيث جاء فيه : «في الذكرى الرابعة عشرة لوفاة نجيب محفوظ، علينا أن نتساءل لو أن ما تركه من أدب وسرد بما احتواه من حراك فكري ووجداني يعيش بأذهاننا وذائقتنا، ويتجسد بحيوية فى التعليم الأساسي هل كان بإمكان المنظور الواحد، بكل ما ينتج عنه من عيوب، أن يسيطر على الأذهان ويأكلها؟ أم أن تدريس ومناقشة تلك النصوص عالية القيمة الفنية والفكرية لمحفوظ ولغيره من مبدعين كانت ستفتح أذهان قرائها ودارسيها على الحياة بمعناها الشامل، المتعدّد الرؤى؟ .

*****
* كاتب من المغرب ، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية لللآداب والعلوم، بوغوطا كولومبيا.

** كاتب إسباني من مواليد ألكلا دي إيناريس قلعة النّهر وهي المدينة التي وُلد فيها كذلك ميغيل دي سيرفانتيس صاحب الرواية الشهيرة دون كيشوت، اسمه الحقيقي خوان رويث واشتهر ب: أرثيبريستي دي هيتا. مؤلّفه الوحيد الذي يحمل عنوان «كتاب الحبّ الطيّب» يعتبر من أهم الأعمال الأدبية التي كتبت في القرون الوسطى، ليس في إسبانيا وحسب، بل في أوروبّا كذلك.


الكاتب : د. محمّد محمّد الخطّابي *

  

بتاريخ : 23/09/2020