نحو الحماية الأجنبية: كيف تغلغلت أوربا داخل المغرب من بوابات عديدة؟

ورث مغرب القرن التاسع عشر وضعية مركبة عن قرونه السابقة؛ فبعد مرحلة قصيرة من الانفتاح القسري، اضطر هذا البلد مرة أخرى إلى الانغلاق على ذاته. حينها كانت تحولات الضفة الشمالية لحوض البحر الأبيض المتوسط هنالك قد فرضت واقعا جديدا لا يمكن تفاديه بأي سياسة ظرفية. إذاك لم يجد المخزن أمامه غير العودة إلى سياسة تجريب أوراق أخرى. ناور من أجل تغيير المسار عبر تغيير التكتيك، ووجَّه نظره صوب الشرق مع المولى سليمان، جريا على سير سابقيه مع أحمد المنصور الذي كان قد وجه نظره صوب الجنوب بعد انغلاق المتوسط عليه.
والحال، ما كان لمناورة المخزن السليماني إلا أن زادت في تعميق صورة المغرب المتآكل عند الآخر، في الوقت نفسه لم ترحم طبيعة البلد ساكنته (جفاف، مجاعة، كوليرا، جراد، طاعون، تيفوس…) فرضت على ساكنته النزوح من الداخل نحو المدن الساحلية التي ظهرت بها أحياء “النوايل”.
خلال هذا القرن أيضا، بدأ يرتسم الحد الفاصل بين اقتصاد القبيلة واقتصاد الحاضرة، الأول اكتفى بذاته، قدَّم منتوجاته دون أن يستفيد شيئا، والثاني ربط علاقات تجارية مع الخارج، واستفاد من حيوية الموانئ، ومن تغير بعض عادات الاستهلاك عند المغاربة.
قادت موجات الأوبئة والمجاعات الناتجة عن سنوات من الجفاف نحو حدوث أزمة سكانية نهاية القرن الثامن عشر فرضت على القبائل أن تزحف على بعضها البعض، من الجنوب إلى الشمال، ومن الشمال إلى الجنوب في إطار البحث الدائم عن العشب الهارب والماء الوفير. وبخاصة قبائل الأطلس الكبير. النتيجة اتساع دائرة التوتر بين القبائل من جهة، وبينها وبين المخزن.
في سياق ذلك، يُطلعنا المختار السوسي في ” المعسول” عن حقيقة الوضع العام: “…وفي عام خمسة وتسعين ومائتين وألف وقع الجوع الشديد والقحط العجيب…وعدم القوت والزرع، وقحلت النواحي مع سائر البلدان والأقطار من حد الصحاري وسوس وحاحة وبلدان الغرب ومراكش والأحواز إلى حد مدينة وجدة وطنجة والأجبال والأوطان كلها. وماتت البهائم من عدم المأكول وعدم المطر حتى ما كان الحرث في جميع ما ذكرنا من البلدان. ولم يحرث الناس في ذلك العام شيئا. وهربت الناس للأجبال وإلى حيث مياه العيون تم يبست العيون ولم يبق إلا القليل. وبلغ الزرع بالثمن لحساب خمسة وعشرين أوقية لمدّ…والقمح بأكثر من ذلك، مع الفول والبشنة. ومات جل الناس بالجوع، يأكل الناس الجيف وخساس الأرض كخشب النخل والعشب. واشتد الجوع والغلاء على الناس، ويأكل الناس بعضهم بعضا ويتهاجمون بينهم ويقطعون الطرقات ويموت الناس في الطرقات ما يدفنهم أحد، فتأكلهم الوحوش ولا يلتفت الأحباب لأحبابهم ولا الأولاد لآبائهم. وذهل القوم بالجوع حتى لا يعرف بعضهم بعضا. وكل واحد لا يعرف إلا نفسه دون والديه وأولاده. ومات جميع الناس وما بقي إلا القليل…وتمادى الجوع كذلك إلى عام ستة وتشعين فأمطرت… ”
في نفس السياق، تفصح رسالة بعثها السلطان الحسن الأول إلى مولاي مصطفى القاضي في مراكش سنة 1893 عن حقيقة الوضع “…وصل كتابك بأن البلوى عمَّت باغتصاب أحرار المسلمين من الجبال ما بين نساء وصبيان وبيعهم على سبيل الاسترقاق لكثرة رغبة أهل الجاه ومن اتصل بهم في ذلك، وبذلهم فيه الدراهم الكثيرة…إذ استرقاق الحر حرام بالإجماع…وكل من ثبت عليه ذلك يعاقب بالضرب والسجن مع فسخ عقدة البيع… “. في وقت تزايد تغلغل أروبا في المغرب على أشكال متنوعة: عسكرية، قانونية، واقتصادية..


الكاتب : مولاي عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 10/01/2022