نحو تقليص الهوة السحيقة بين التنظير والممارسة في فصول محو الأمية

احترافية المكون(ة)هي الرهان الذي سيغير مسار البرامج

 

يعد التعلم في مجال محو الأمية وتعليم الكبار”نشاطا يتم بين مكون(ة) ومتكون(ة)، وبما أن القدرة على التعلم هي ملكة من الملكات العقلية، فإن حصول هذه الملكات وترسيخها يحتاج إلى صناعة لابد لها من صانع ماهر على حد تعبير ابن خلدون في مقدمته، يقصد به “المعلم”. هذه الصناعة التي يصطلح عليها اليوم بالاحترافية في مجال تعليم الكبار بشكل عام و محو الأمية بصفة خاصة، والتي يعتبر المكون(ة) أو المنشط(ة) أو المدرب(ة) أحد أقطابها الأساسية. فالمكون(ة) إذن لبنة أساسية في العملية التعليمية التعلمية. ومن أبلغ ما قيل عنه إنه شخص واحد في عدة أشخاص حسب منظرين في المجال.
هذا الاخير يجد نفسه أمام فئات غير متجانسة من مراهقين وشباب وكهول وشيوخ…وأمام تجارب وخبرات متنوعة كذلك وحاجيات ومراكز اهتمام مختلفة. مما يتطلب منه دراية كبيرة بهذه المواصفات التي تميز الكبار في تعلمهم على حد تعبير “مالكوم نولز” سواء السلبية منها والمرتبطة بالخصائص البيولوجية والسيكولوجية والسوسيولوجية و التي تعيق عملية التعلم( مثلا التقدم في العمر- نقص في السمع والنظر- بطء الحركة بالنسبة للكبار – المراهقة بالنسبة للفئة ما بين 15 و 18 سنة والشعور بالدونية والاقصاء الاجتماعي مثلا….)؛ أو الإيجابية والمرتبطة بخبرات وتجارب المتعلم(ة)أو المتكون(ة) الكبير التي تعتبر تراكما هائلا يتمثل في الاستعداد للتعلم والنضج والقدرة على توجيه الذات. مما يدل بالملموس، أن تكوين الكبار “مهنة” تتطلب مهنية عالية، ومعرفة عميقة. ويعتبر الرهان على تكوين المكونين ومتابعتهم وإيصالهم إلى الاحترافية معرفيا وإجرائيا من الرهانات التي ستغير مسار منظومة محو الأمية.
وقبل الخوض في تحديد ملامح مكوني الكبار، لا بد من الإشارة إلى أن حركة تعليم الكبار العالمية، وانطلاقا من مؤتمرها الأول المنعقد بالدنمارك سنة 1949″ من قبل منظمة اليونسكو”، أكدت ” أن تعليم الكبار ليس حكرا على رجال التربية فقط، مما يعني تنوع هيئة التكوين موازاة مع تنوع فئات الأميين و انتمائها القطاعي؛ (مدربات ومرشدات المراكز النسوية، معلمات ومعلمو التعليم، مؤطرو المؤسسات السجنية، مكونو الجمعيات وهم من حاملي الشهادات المعطلين، مرشدات وواعظات المساجد..).ويمكن الاستعانة بفئات أخرى كالمتقاعدين باعتبارهم أطرا متفرغة، كما يمكن الاستعانة بالطلبة في إطار الخدمة الاجتماعية قبل التخرج، ويستحسن أن يتم اختيار المكون (ة) من بيئة المتعلم(ة).
لذا يجب أن تتوفر في مكون(ة) الكبار مواصفات محددة ليتمكن من أداء الأدوار المنوطه به على أكمل وجه، وحتى يتمكن من تمركز الفعل البيداغوجي حول متعلميه الكبار، تُترجم هذه المواصفات إلى مجموعة من الكفايات يمكن إيجازها كالآتي:
كفايات ذات صبغة اندراغوجية تنطلق أساسا من خصائص الكبار النفسية والجسمية والثقافية، وكذا حاجاتهم وقدراتهم ودرجة تطورهم؛
كفايات متعلقة بالمحتوى والأنشطة والتي تتطلب تحيينها باستمرار وإثراءها بخبرات متجددة والتركيز على المهارات الحياتية والناعمة في إطار المستجدات الوطنية والدولية والمحيط الثقافي والتجارب الحياتية؛
كفايات ديداكتيكية من تخطيط للأنشطة وتنظيمها وتقويمها وتكييفها وفق وضعيات تعليمية مع مراعاة الفروق الفردية ومساعدة المتكون(ة) على استكشاف مؤهلاته ورصد الصعوبات التي تعترضه وتمكنه من منهجية العمل؛
كفايات تواصلية وعلائقية تتعلق بتدبير وتيسير التعلم بشكل دينامي يستهدف إشراك المتعلم(ة) في سيرورة تعلمه ونسج علاقات منسجمة بين أعضاء االفريق، بالإضافة إلى القدرة على التموقع داخل الفريق والتمكن من فن القيادة؛ Leadership وامتلاك قدرات التنظيم وكفاية الإصغاء والمساءلة واحتواء الصعوبات وتسوية الخلافات والتحلي بقواعد العمل الإنساني إزاء المجموعة ؛
كفايات ذات صبغة سوسيو ثقافية ومهنية والتي ترتبط أساسا بتنمية ملكات الانفتاح على الآخر واحترامه والإصغاء إليه، وتقبل الاختلاف وتنمية المواقف الإيجابية لدى المتعلم(ة)، ودفعه لتحمل المسؤولية في بناء مشاريعه الشخصية والمهنية ثم الوصول به إلى نبذ كل أشكال التمييز والعنف وتنمية المواقف ذات الصلة بالتربية على القيم (التسامح والسلام والديمقراطية…).
كفايات رقمية تساعد على الانخراط في عالم التكنولوجيا السريع الانتشار والتطور والذي أضحى ضرورة ملحة لتحسين التعلم عن بعد والتعلم الذاتي باعتبارهما مدخلين أساسيين للتعلم مدى الحياة.
إن الرهان على تكوين المكونين والرفع من المهنية والاحترافية داخل مراكز التعلم، سيساهم، بدون شك، في تقليص الهوة السحيقة بين ماهو نظري وما هو تطبيقي، وذلك من حيث:
حسن تدبير التفاوت في مستويات المتعلمين والذي يعتبر عائقا حقيقيا يؤرق مكوني الكبار، ويؤثر على السير التربوي، فعدم دراية المكونين بتدبير الفروقات الفردية وبناء الاختبارات مثلا، في بداية التكوين وخلال سيرورة التعلم يحول دون تدبير محكم للفصل المشترك أو غير المتجانس الذي تتعدد مستوياته (أولئك الذين لم يلجوا المدرسة مطلقا أو أولئك الذين يتوفرون على مهارات دنيا…)، بحيث تؤدي هذه الوضعية إلى تسرب إحدى الفئات(الضعيفة أو المتفوقة) التي لا تجد الحافز أو الدافع للتعلم.
حسن تدبير الغلاف الزمني بشكل محكم يتلاءم ومستويات المتعلمين وفق استراتيجية تواصلية تراعي مواصفات الكبار وانتقاء ما يلائم الوضعيات التعلمية وفق المحيط البيئي المحلي وقدراتهم.
القدرة على تدبير التعلم بالتناوب Apprentissage alterné في كل صيغه وأنماطه.
الابتعاد عن إسقاط بيداغوجيا الصغار على الكبار لما للمقاربتين من اختلافات وخصوصيات مميزة، كما أسلفنا سابقا، على مستوى المعارف والخبرات والتجارب والفضاءات، حيث تسود ميدانيا محو المية المدرسية في غالبية المراكز؛
إعادة النظر في وظيفة التفتيش، وتحديدها في الاستشارة الاندراغوجية (Conseil Andragogique)، ويمكن الاعتماد في ذلك بالإضافة إلى المفتشين، على المستشارين التربويين التابعين كذلك لقطاع التربية.
وتأسيسا على الأدوار التي يجب أن يضطلع بها المكون(ة) ولتجاوز الصعوبات المنهجية والمعرفية التي تعتبر من بين العوامل الأساسية في فشل برامج محو الأمية وتكرار التجارب، ولضمان استقرار هذه الفئة نفسيا واجتماعيا، يجب التفكير بجدية في كيفية تحسين ظروف اشتغالها بدءًا من الرفع من أجورها وانتظامها وتزويدها بالكفايات اللازمة ومدها بالمستجدات في عالم التربية والتكوين بشكل عام وقطب تعليم الكبار ومحو الأمية بشكل خاص.

(*) إطار بوزارة التربية مهتمة بمجال تعليم الكبار


الكاتب : n فاطمة ياسن (*)

  

بتاريخ : 14/09/2020