نحو قراءة نوعية في الزمن الرقمي

سبق للأديب المصري عباس محمود العقاد، أن أطلق عبارة بليغة، يُفسِّر فيها شغفه بالقراءة، ويُبيِّن أهميتها في تكوين الإنسان المعرفي والنفسي معا، حيث قال: «لست أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى العمر لأزداد عمرا في تقدير الحساب، وإنما أهوى القراءة، لأن عندي حياة واحدة، وحياة واحدة لا تكفيني، والقراءة هي التي تعطيني أكثر من حياة، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق».
وكلنا ندرك أن مصطلح القراءة، قد حظي باهتمام بالغ في الحقل النقدي، خاصة بعد بزوغ نظرية التلقي الألمانية، في ستينيات القرن العشرين، على يد رائديها ياوز وإيزر، اللذين أعادا الاعتبار للمتلقي، الذي ظل مُغيّبا في الدراسات النقدية فترة طويلة، منذ ظهور المناهج النقدية الحديثة والمعاصرة، بدءا من المنهج النفسي، مرورا بالمنهجين التاريخي والاجتماعي، ووصولا إلى المنهج البنيوي، الذي اقتصر على دراسة النص الأدبي، ولا شيء غيره، وفق ما كرّسه المُنظِّر والناقد الفرنسي رولان بارت.
وبالنسبة إلينا، فلسنا هنا لنخوض في التطور التاريخي، الذي عرفته المناهج النقدية، على حد ما ألّمَّ به كثير من الباحثين العرب في العقود الأخيرة، بل لنطرح إشكالات حقيقية ورؤى وتصورات، ترتبط براهن القراءة ومستقبلها في العالم العربي.
إذا قمنا بتقييم وضعية القراءة في دول العالم العربي، منذ بداية الألفية الثالثة إلى الآن، أي خلال عشرين سنة، سنجد أن معدل القراءة للفرد سنويا قد ارتفع نسبيا، مقارنة مع ما سبق بسبب تزايد النشر، والإقبال الكثير على معارض الكتاب، واحتضان كثير من المؤسسات للفعل الثقافي. وحسبنا هنا، أن نشير إلى الدور المهم الذي لعبته بعض المؤسسات الرسمية، في بعض الأقطار العربية.
ونحن نعتقد أنه من الوَاجب الانتقال من سؤال: كم حجم ما يُقرأ؟ إلى: ماذا يُقرأ؟ أي الانتقال من الكم إلى الكيف، وأيّ قراءة نريد لأطفالنا؟ وكيف نُحقّق الأمن الثقافي لهم؟
هذه الأسئلة وغيرها، هي مدخل التفكير لبناء مواطن عربي، بمواصفات معينة، تجعله قادرا على رفع التحديات، والانخراط إيجابيا في قاطرة التنمية والبناء والتشييد والإبداع، سواء على مستوى الصعيد الإقليمي، أو على الصعيد الدولي.
والحقيقة إن ما دفعنا إلى طرح هذه الأسئلة، هو المتغيرات والتحولات التي يشهدها العالم، في خضم الثورة الرقمية. ففي مجال الأدب مثلا، ظهر نوع جديد من الأدب، ارتبط بالثورة الرقمية، واتخذ أسماء عديدة، من مثل «الأدب التكنولوجي» و»الأدب الرقمي» و»الأدب التفاعلي».. وقد توزع النقاد والمبدعون تجاه هذا الأدب، إلى ثلاث مجموعات: مؤيدة، ومعارضة، ومحايدة. وواضح أن ذلك، يستند إلى اختلاف الأجيال، والتصورات النقدية، والذائقة الإبداعية.
ولعل هذا الاختلاف يعد شيئا بَدهيّا. فهو يرجع إلى خصوصية المجتمع العربي، الذي يتصدى في البداية عادة، لكل جديد بالرفض، قبل أن يتقبلَّه، لهذا يحتاج الأمر إلى سنوات، بل إلى عقود من الزمن، قبل أن يصبح ظاهرة مُستساغة لديه.
إن العالم يتغير باستمرار، وبإيقاع مذهل وسريع جدا، ولا خيار لنا إلا الانخراط في دورة الزمن هذه، إذا أردنا فعلا الدخول إلى الزمن الرقمي. وفي تقديرنا يظل الإشكال الحقيقي، ليس في النقاش الدائر حول الأدبين الرقمي والورقي، ولمن ستكون الرّيادة مستقبلا، بل إن الإشكال الأساسيَّ، يتحدد في الأسئلة التالية:
ما هو محتوى القراءة الذي يجب تفضيله من طرفنا كبارا وصغارا؟
وهل هذا المحتوى قادر فعلا على نقلنا من مرحلة الاستهلاك إلى مرحلة الإنتاج؟
ثم، ترى أيُّ جيل أعددنا لهذا الزمن الرقمي، الذي نُقِّر به وندافع عنه باستمرار؟
إن من يتأمل المشهد النقدي في العالم العربي، يجده بات مُنشغلا أكثر، بالدفاع عن الأدب الرقمي، والتبشير به. طبعا، إننا لا نُجانب الصواب، إذا قلنا إن الأدب الرقمي قد فرض نفسه، أي أصبح حاجة مُلّحة، لا محيد عنها. وهنا نتساءل:
ماذا عن طبيعة القراءة في الزمن الرقمي؟ وهل تواكب القراءة المرحلة الراهنة، في تحولاتها وتبدلاتها واحتياجاتها؟ أم تراها ستقتصر حصرا على الأدب الرقمي فقط؟
طبعا، الجواب لا.
إنَّ سمة الرداءة، التي تطبع بعض الإنتاجات الورقية والرقمية معا، في العالم العربي، أيا كانت الوسائط المستخدمة في هذا المنتوج القرائي، تجعلنا أمام ضرورة إعادة التفكير في مستقبل أجيالنا الصاعدة، ذلك أن القراءة المُتوخّاة، هي القراءة المُنتجة، التي تمتلك سمة الإبداع والتجديد، والتي تطرح الأسئلة المعرفية، وتُخلخل التصورات الجاهزة النمطية، وتبني فكرا علميا جديدا، قائما على الملاحظة والاختبار والاستدلال ثم الاستنتاج. فالقراءة المُنتجة هي التي تقود الفكر نحو الإبداع. وهي الرؤية المُتجدِّدة للفكر العربي، لذلك فإنَّ السؤال الذي ينبغي الاشتغال عليه هو: كيف ننتقل من مرحلة الاستهلاك إلى مرحلة الإنتاج، في زمن الثورة الرقمية؟، وإلا سنبقى شعوبا ودولا غير فاعلة في مُجريات التحوُّلات العالمية، نجترُّ الخيبات والهزائم، ونُحمِّل مسؤولية تقهقرنا وفشلنا للآخر، تحت ذريعة نظرية المؤامرة الغربية. على أن الحقيقة تقول: إننا نتحمَّلُ الجزء الأكبر من المسؤولية في هذا الفشل. والحال، أننا نملك القدرة على تجاوز كل العثرات بتوحيد الجهود، وبلورة استراتيجية ثقافية شاملة وتسطير برامج تعليمية رقمية، تنبثق من احتياجاتنا المجتمعية الراهنة من أجل بناء المستقبل الرقمي، حيث أبانت أزمة كورونا العالمية عن الفجوة الرقمية في نظامنا التعليمي العربي بل الدولي، لولا أن هذه القدرة مُعطَّلة للأسف.. فأكيد أنَّ العصر يُوجب علينا، أن لا نبقى خارج الزمن الرقمي، خارج اللحظة التاريخية. في حين نشهد العالم الآخر يتغير رقميا، بإيقاع سريع ومذهل، وبصورة يعجز عقلنا عن استيعاب حجم منجزاته الباهرة، حيث نكتفي بالوقوف موقف الدهشة والانبهار والاستهلاك.
وهنا يجب التساؤل: أيُّ قارئ عربي أعددنا لهذا المُنْجز الخارق، من أجل مسايرة ما استجدَّ من ذكاء اصطناعي، مُتجاوزٍ لمقاييس تفكيرنا كإحداث طرق ذكية وسيّارات بدون سائق واللائحة طويلة؟ لذلك، ينبغي أن يتوجه تفكيرُنا إلى الاستثمار في الإنسان، إلى جانب الاستثمار في التكنولوجيا. ومثل هذا الاختيار، هو بمثابة الخطوة الأولى في الألف ميل، لجعلنا إقليميا ودوليا في قلب المشروع التنموي، وتمكيننا من امتلاك الأهلية في جميع المجالات، ومن القدرة على التنافس، وغزو السوق العالمية، ولا يمكن أن يتحقق ذلك، إلا إذا أعدنا النَّظر في مفهوم القراءة ونوعيَّتِها وآلياتِها.

* أستاذة باحثة 
صدر لها مؤخرا كتاب «الرواية التجريبية التشّكلُ والسّماتُ»


الكاتب :  مريم دمنوتي *

  

بتاريخ : 24/07/2020