نزهة القراءة في «بستان السيدة» لعبد القادر الشاوي

توطئة
عنت لي نزهة القراءة ورحلتها، عبر ممرات «بستان السيدة» للكاتب عبد القادر الشاوي، بالعديد من الأسئلة ذات الصلة بالكتابة الروائية، عموما، وبروايته هذه أساسا نجملها في:
سؤال الجنس الأدبي باعتباره محددا للهوية الأجناسية للنص – سؤال هندسة النص اي معماره وبعده التشكيلي – سؤال حضور اللسان الدارج -سؤال مقامات السجع – سؤال اللغة الواصفة -سؤال الجسدالافتراضي – سؤال الترجمة باعتبارها فعلا ارجائيا حتى لا نقول مستحيلا.

 

أولا: سؤال
الجنس الأدبي :

إذا كانت الهوية الأجناسية l identite generique للنص الادبي، هوية مركبة يؤثثها كل من الكاتب والنص والقارئ (2 ) على حد سواء، منطلقها ميثاق أو عقد قراءة، باعتباره فاتحة لأفق انتظار أجناسي محدد، فإنه قد يحدث أن يكون ورود اسم الجنس على كل من الغلافين الخارجي والداخلي للعمل الأدبي، فعلا يتأرجح بين الضرورة والاختيار، كما هو الحال بالنسبة لرواية « بستان السيدة « .نقرأ في هذا الإطار، على لسان شخصية سعد ما يلي : «….. وأقول هذا كله إلا لأن انتحار حنان الداودي التي ارتبطت بها في هذا العمل ( سميه رواية إن أحببت ) ….. « ص 55 .
فشخصية سعد، وعبرها الكاتب نفسه، غير مصرة، عبر لغتها الواصفة على الإقرار والجزم بالهوية الأجناسية لعملها، بقدر ما تتركها قدرا غير محتوم، بالنسبة للقراءة والقارئ معا. نطرح من ثمة التساؤل الآتي : لماذا والحالة هذه يتم تصدير عنوان العمل الأدبي باسم جنس أدبي معين : «رواية» أو «قصة « أو «شعر»، فهل يعزى الأمر إلى تقاليد وأعراف النشر المصرة على تصنيف العمل ضمن خانة جنس قول معين؟ وهل يمكن اعتبار النص، غير المصنف أجناسيا، نصا يتيما، أو بالأحرى عاقا فاقدا لخاصية النصية textualite ، وبالتالي هو ضرب من اللا نص واللاثقافة (3 ) ؟
يفضي بنا سؤال الجنس الأدبي في رواية «بستان السيدة» إلى الحديث عن خاصيته الهندسية والمعمارية، أقول التشكيلية. يؤسس نص عبد القادر الشاوي لهندسة فضائية، نميز داخلها بين ما قبل الرواية، وما بعدها، أي ما بين يمين العمل من جهة، ويساره من جهة أخرى . تتضح هذه المسألة أكثر، لما نفتح الرواية على الصفحة 76 بحيث نكون تقريبا عند مصرعها، وكأننا تشكيليا أمام إطار لوحة، يستغرقنا بسمكه، من جهة، وفضائها من جهة أخرى، إطار هو من السمك بمكان ! ( ص 117….. ( .

ثانيا: الاحتفاء بهندسة النص السردي وبعده البصري :

تنبغي الإشارة، قبل الخوض في موضوع حضور البعد التشكيلي في رواية « بستان السيدة»، إلى أن بحثنا في هذه النقطة، هو محاولة للإجابة عن السؤال الآتي : كيف احتفى نص « بستان السيدة « بالمستوى البصري التشكيلي، وكيف يتحول فعل القراءة ، بين هنيهة وأخرى، الى فعل مشاهدة، وكيف كذلك يأخذ البناء السردي الروائي شكل أو هيئة لوحة تشكيلية، حيث بدل الحديث عن «زمن القبل» و «زمن البعد « سنتحدث عن جهة اليمين وجهة اليسار، ومواقع «الفوق» و»التحت» و» الأعلى» و»الأسفل»، وبالتالي نميز قراءتنا عن قراءات نحت منحى مغايرا في رصد العلاقة بين التشكيلي والأدبي ( السردي والشعري على حد سواء ) من زاوية تحويل مشاهد أعمال تشكيلية إلى سرود روائية، كما حدث مع واسيني الأعرج في « البيت الأندلسي» (2010) وربيع جابر في «كنت أميرا» (1997 ) ومهنا عبداللطيف في «العوسج» ( 2020) ( 4 )، حيث يجد القارئ نفسه يتنقل جيئة وذهابا بين اللوحة التشكيلية المعروضة والنص الروائي .
إذا كانت تجربة القراءة، مع النصوص السردية قد عودتنا على الشروع في قراءتها منذ الصفحات الأولى مباشرة بعد كل من العنوان والإهداء وشاهدة النص ( epigraphe (التي أصبحت في رواية « بستان السيدة « جزءا من العمل ككل ( ينظر ص42 (، فإن الامر هو مختلف، بالنسبة لهذا النص السردي الذي لا يشرع القارئ في قراءته إلا ابتداء من الصفحة 77، بحيث أن جميع العناوين الواردة قبل ذلك هي عناوين ذات حمولة لكسيكية ( معجمية ( :
ـ « الأجفال» ( النفور والابتعاد من مكان ما(
ـ « قبيل الأجفال» (قبيل الابتعاد من مكان ما )
ـ « اللهفة « ( تكون تجاه موضوع ما في مكان ما حيث الرغبة في طي واختصار المسافة (
ـ « القرب «
ـ « قبل التباعد»
كذلك فإن غلاف الرواية يمارس ضغطا على القارئ، ويجعله يتوقف مليا عند ألوانه وأشكاله ونتوءاته، بحكم الخاصية الطباعية المعتمدة، غير مبال بالحضور الباهت لاسم الجنس الوارد باللون الأسود وببنط رقيق . كما أن العنوان الذي يلى مباشرة بداية الرواية : «قرب النهاية» يجعل مقولة النهاية مقولة مكانية ـ فضائية اكثر منها زمنية . إننا أمام احتفاء بالفضاء والتشكيل. كذلك فإن مفهوم ) الهامش) باعتباره كتابة ترد في أسفل الصفحة بعيدة عن انشغالات العين، على خلاف (المتن ( قد تحول الى متن ( ص 73. 74 .124 . 126 . 127 . 132 . ) الشيئ الذي يجعل الكاتب يراهن على فضاء الصفحة برمتها . ان الكاتب يكتب ويرسم على نحو متزامن، حيث يرد على لسان شخصية سعد، ومن خلالها الكاتب، في الصفحة 19 :
« …. عادة ما يبدأ الكاتب من نقطة معينة، ثم يتنزل الموضوع تدريجيا في خضم التفكير الذي ينصب على ادارة المواقف ….» . كلام يجعلنا نستحضر تجربة تشكيلية عرفتها الثقافة الغربية، خلال منتصف القرن 19 وبداية القرن العشرين، تحت اسم le pointillisme (5) ، ثم تضيف نفس الشخصية على الصفحة 20 : « على أن هذا الخلود الذي يكاد يكون بياضا مفزعا، يجب ….. «
ونقرأ على الصفحة 21 :
« …. الذاكرة إذا خانتك لا تنكتب مع خيانتها رواية ولا أي شيء …. « . كما أن الشارع يتحول إلى لوحة تشكيلية :
«… بدا لي، لأول مرة، أن الملونين يحتلون جميع الفضاءات، مجرد وهم ربما، ولكنهم كانوا كذلك …» ( ص 67 ) . لغة واصفة موضوعها الكتابة كتجربة وفعل لغويين :
«…. ليس في روايتي والحق يقال …. « ص 27. كما تعمل اللغة الواصفة على استحضار مقولة التناص على لسان شخص ( الناصري):
« … ما إن شرعت في قراءة الصفحات الأولى التي تقدم فيها الروائية سيلبيا جويس البطلة ساندرا، وهي تحاور مونيكا باهتمام، حتى تبين لي، في آن….. « (ص 37 – 39) .
وكذا شخصية حنان: « … أعيد قراءة مارسيل بروست هذه الأيام، ويبدو لي أن عباراته الطويلة تذكرني تماما بمثيلاتها التي تجوب في توتر عالم الكتاب الذي أترجمه ..قبلك …» (ص 160)، حيث ننتقل من مستوى تناص النقد إلى مستوى تناص الإبداع ، أي من تناص محافل النقد الى تناص تتم الإشارة إليه بين ثنايا النص الإبداعي ذاته.

ثالثا: سؤال
اللسان الدارج

تحضر عبارات وصيغ لغة الحديث اليومي، في هذا العمل الأدبي كما نتبينه من خلال المقاطع الآتية سواء كعنوان :
« ….. انتحرت حنان ها ….. ها…. ها…… « ص 10
أو كمتن :
« ….يبالغ في تحطيمها برفق ههههه……لكي يتخلص منها ….. « . ص 86
« ….وااااو….. « . ص 118
فنكون، إذن، أمام تأثيرات التواصل الالكتروني الميال الى الاختصار السمج والفج، إذ نستعيض عن عبارة « أضحكتني « بصورتها السمعية « ههههه.. « و « وااااو « بدل « مذهلة « كما نعتمد أيقونة وجه باسم أو سبابة (اللايك ) للإشارة الى إعجابنا، حيث عدوى مواقع التواصل الاجتماعي، تتسرب، كأنساق سيميائية، الى ثنايا الكتابة الابداعية .

رابعا: سؤال السجع والاشتغال على الدوال
تحضر

العبارات المسجوعة على نحو :
« …. كانت في العلاقة إشارة، وهي الآن في النفي خير عبارة …. « ص 14 .
« … كنت قادرا على الإجفال، كما كنت من قبل قادرا على الإقبال … « ص 71
« … مسلوبة الاختيار فاقدة القرار …. « ص 74
« …. استذوق غنته واستطاب بيانه …. « ص 106
كما تم اللجوء الى استغلال ممكنات الدوال اللغوية عبر توظيف تقنية الاناكرام :
بالابدال : «….. الارتباط الارتباك في الواقع ….» « … انا نفسي على لا أعرف على وجه ( كدت أكتب على وجع) … « ( ص 85 و 101 ) .

خامسا: سؤال الجسد الافتراضي ( الرقمي أو الافتراضي )

إن مجمل العلاقات القائمة بين شخوص نص «بستان السيدة « والمتحركة داخل بستان السيدة أو السيدة كبستان، هي علاقات افتراضية، حيث نقرأ مايلي :
« … رأيت في هذه الذاكرة، إذن، أن المرأة التي تراسلت معها شخصيتي عبر البريد الإلكتروني أزمانا لا تريد أن تغادر بتاتا المنطقة التي استوطنتها …. « ص 21 .
« ….علاقة حب وهمية قامت على التراسل الإلكتروني هو لقاء من نوع خاص، وماذا يكون هذا الخاص في غياب الجسد والتوترات أو الاندفاع والرغبات ….» ص26 .
« …وهكذا انطلق القرب المفترض أقول المفترض لأنه ظل كذلك ….» ص 56
« … حين كان اللقاء الموهوم …. « ص70.
« … الأسرار ليست من بنات المراسلات الالكترونية ولا العلاقات الافتراضية …» ص 85
«… من بعيد تراقبه … « ص91
«… وحين يتدافع الناس لا يتلامسون وهو أمر غريب بطبيعة الحال ….» ص 101

سادسا: سؤال الترجمة أو الفعل المرجأ

تحتل موضوعة « الترجمة» موقعا رئيسا في نص « بستان السيدة «، فهي الخيط الناظم لشخوصه، أعني «سعد» و»حنان» و»مريم» ( ص 55 و 120 و 131 و 139 و 142 و 143 و164 و 165 ) . يتحول فعل الترجمة الى تعلة لنقل المشاعير والأحاسيس :
« … ولكني أريد منها أن تكون أيضا مترجمة للأشواق التي يمكن أن تنمو بيننا، أنا من هنا وهي من هناك، إلى أن يحين ….» ص 55 . فعل ما ينفك قائم، حاملا لسرمدية دائمة:
« … وسأقول لها في رسالة بعد أن أخبرتني من قبل أنها شرعت في ترجمة الكتاب، وأن عليها أن تفي بوعدها في ترجمة القسم الأول … « ( ص 132 ) .
« … حنان إذن تترجم الكتاب وأنا على اتصال مستمر بها …» ( ص 143)؛
« … أما من جهة أخرى، فإن النص الذي أقوم بترجمته يجب أن أفرغ منه … « ص146

على سبيل الختم :

إننا أمام تجربة روائية، احتل فيها المكون البصري حيزا مهما، مؤسسا لتقليد مغاير في التلقي والقراءة، حيث المشاهدة والإبصار تتمازجان مع خطية الدال، فيتراجع النظامان الزمني والمنطقي ordre logico temporel لصالح النظام الفضائي، ordre spatial ( 6 )، وحيث امتدادات العين ووقع المجاورة الفضائية. كما أن العلاقات بين الشخوص، أصبحت علاقات قائمة على المسافة والتباعد واللا مساس، باعتباره ناموس العالم الجديد ، وحدها الترجمة، باعتباره فعلا ما ينفك يتحقق، قد تكون قادرة على التقريب بينها (حالة حنان الداودي وسعد ومريم ) كما أصبح الجنس الأدبي مقولة واختيارا في التلقي، أكثر منه نابعا من قناعات ومقاصد الكاتب، على نحو ما رأينا، من خلال هذه القراءة المختزلة.

هوامش :
1 ) عبد القادر الشاوي ( بستان السيدة ) 2022 منشورات دار الفنك الدارالبيضاء .
2) يعتبر jean marie schaeffer من بين نقاد ومنظري الادب المعاصرين الذين أولوا اهمية قصوى للعلاقة أو العلاقات الممتدة والممكنة بين النص وجنسه، بدءا بمقاله الصادر تحت عنوان : «من النص الى الجنس»، ووصولا الى مؤلفه « ما الجنس الأدبي « . ينظر في هذا الإطار :
J M schaeffer « du texte au genre «article ouvrage collectif ( theorie des genres ) 1986 ed seuil coll point essais
J M schaeffer ( q q genre litteraire  ) 1989 ed seuil coll poetique paris
3 ) يرى عبد الفتاح كيليطو أن العلاقة بين الكاتب والنوع الادبي، الذي يكتب فيه، علاقة امتثال وخضوع :
ينظر مؤلفه ( الادب والغرابة ) منشورات دار الطليعة بيروت الطبعة الاولى 1982 ص 35 .
( 4 ) ينظر: مريم غسان سامي ياسين ( جماليات الفن التشكيلي في الخطاب الادبي )
2022 جامعة القدس المفتوحة ، كلية الدراسات العليا والبحث العلمي، برنامج ماجستير .
باللغة العربية .
(5 ) هي حركة فنية تشكيلية برزت في أواخر القرن 19 ومن أشهر ممثليها نذكر :
Georges pierre seurat ; paul signac حيث اعتبرت ( النقطة) المكون الغرافي الاساس، في الفعل الإبداعي التشكيلي، إذ النقطة لوحة بالقوة، واللوحة نقطة بالفعل .
(6) يعتبر النص الشعري نصا أدبيا، قائما على النظام الفضائي، كنظام تحكمه المجاورة، ينظر :
O ducrot et t todorov ( dictionnaire encyclopedique des sciences
Du langage ) 1972 ed seuil coll point p p 377 ; 378


الكاتب : د. محمد الشنقيطي

  

بتاريخ : 22/09/2023