تعود «الاتحاد الاشتراكي» من جديد لتحيي ذاكرة تاريخية لمنطقة عرفت عبر مراحل تاريخية جد مهمة أحداثا مازالت منقوشة من خلال الآثار الجغرافية أو ما تم تدوينه كإرث تاريخي لعصر اختلف فيه الباحثون، وحوله بعض المؤلفين إلى سيناريوهات بعيدة كل البعد عن الحقائق التاريخية، بل جعلوا منها أحداثا قابلة للفرجة، ولو كان ذلك على حساب تزييف مرحلة تاريخية مهمة .
نعود لنعرض أهم احداث الفترة ما بين (1879-1914) التي وقعت بمنطقة عبدة، والتي عرفت حكم القائد (عيسى بن عمر العبدي)، اعتمادا على كتاب «عيسى بن عمر.. قائد عبدة» لمؤلفه الأستاذ المصطفى فنيتير. وجاء في مقدمة هذا الكتاب التي أعدها الأستاذ ابراهيم بوطالب «أن عيسى بن عمر البحتري العبدي»، رجل سلطة، نشأ بين أحضان السلطة وعاش من ممارستها ومات وهو في حرمتها..
مرت عبدة بتحولات عميقة ، اثرت في طبيعة تركيبها السكاني، خصوصا بعد توافد القبائل العربية عليها، وما صاحب ذلك من اضطرابات أدت في بعض الجهات الى فراغها، واعادة تعميرها، وربما نتج عن ذلك تراجع في النشاط الفلاحي، وظهور انشطة اخرى تتناسب مع طبيعة القبائل الوافدة، فمن المحتمل ان يكون نشاطها قد انصب على نوع أخر من الأنشطة والفلاحية .
لقد تحكمت القبائل العربية في كل مجال عبدة بعصبيتها وشوكتها، وأصبحت تمارس ضغطا، وتثير مصاعب للسلطة المركزية، مما جعلها تسعى لارضائها بالعطاءات والإقطاعات، وهذاما سمح لها بممارسة التحكم في كل ثرواتها.
وقد لاحظ الوزان مقدار هذه القوة، لما كان برفقة الملك الوطاسي محمد الشيخ (سنة 921هجرية/ 1515 ميلادية) الذي كان يدعو بقوله …اللهم أنك تعلم أني ما جئت الى هذا البلد المهجور إلا لمساعدة- دكالة- وتحريرهم من الأعراب المتمردين، ومن أعدائنا الألداء المسيحيين. ذلك يؤكد، حسب موقف الملك الوطاسي، أن عبدة أصبحت تعاني من سيطرة الأعراب الذين بسطوا سلطتهم عليها، وأصبحوا يشكلون قوة من شأنها أن ترعب الأهالي ، ان لم تضعهم تحت رحمتهم.
فلم يستطع الملك الوطاسي أن يجابه قوة الأعراب ، رغم أنها كانت من بين مهامه ، وذلك لأنه لاحظ مقدار قوتهم ، وانبهر بالوفود التي أقبلت عليه لما حل بالجبل الأخضر .
ظهور التجار الأوربيين بسواحل عبدة
عرفت عبدة انطلاقا من القرنيين الخامس عشر والسادس عشر معطيات جديدة، تتجلى في وصول التجار الأوربيين الى سواحلها، وبالأخص إلى مرسى أسفي. فما هو أثر ذلك على عبدة ؟
لقد استفادت عبدة من الظرفية الاقتصادية العامة التي عرفها القرن الخامس عشر، بعد أن تحولت الطرق التجارية الداخلية نحو الموانئ الأطلسية، التي لم تسقط بعد في يد البرتغاليين، ومنها ميناء أسفي، الذي أصبح من أكثر الموانئ المغربية استفادة من التيارات التجارية الجديدة، التي انفتحت على المحيط، وبذلك فتحت أفاقا جديدة أمام منتجات عبدة الفلاحية وغيرها، وربطها بالتسويق الخارجي، إذ أصبحت.. السفن البرتغالية المتوجهة إلى الموانى الإفريقية، تتوقف بأسفي للتزود بتلك الأمتعة الصوفية، وبالحبوب، والخيل… وذلك على الأقل سنة 1455م .
لقد أدى الرواج التجاري الذي عرفته عبدة وأسفي خلال هذه المرحلة إلى انتعاش اقتصادي، واستفادت منه بعض الفئات الاجتماعية التي احتكرت تسويق المنتوجات الفلاحية وغيرها، وبذلك ظهرت فئة ارستقراطية تجارية، كانت تقوم بدور الوساطة، بين المنتجين من فلاحي عبدة والتجار الاوربيين البرتغاليين على الأخص، وبعد اخلاء أسفي، برزت اضطرابات داخل مجال، عبدة أدت الى اختلال التوازن وفقدان التماسك بين مكونات عبدة. فقد كانت عبدة تشكل كتلة متماسكة، الا انها بعد ذلك تفتت الى فروع كأل غياث بأسفي.. وبسبب النكبات التي اجتاحت عبدة، من جراء الجفاف، وما تلاها من قحط وفتن بسبب مجاعة (1651-1652) ميلادية (1061- 1062) هجرية، التي أدت الى الى اخلاء البلاد، وضياع الأعراب ورحيل الكثير منهم عن عبدة… قام أل غياث من عبدة، وطمعوا في المدينة، وصاروا يقطعون السبيل ويخطفون الناس من جانب السور.. حيث لم يكن لأسفي أنذاك حماية لتوالي الموت والقحط، فكتب اهلها الى السلطان محمد الشيخ الأصغر ابن زيدان، مستغيتين به. فخرج من مراكش …فوافى أل غياث يوم الجمعة 9 جمادى الأولى عام1062هجرية… 1651 ميلادية، فأوقع بهم وبمن حذا حذوهم، وانتشف اموالهم وأفسد مساكنهم، ودخل أسفي في اليوم المذكور، وعقب رجوعه لمراكش، أرسل حامية وقوافل من الجمال تحمل المؤن، كما رتب لغالبية السكان المئونة مرتين في السنة، واستمر في ذلك إلى سنة 1064 هجرية، 1653ميلادية، حيث كان الخصب ونزل المطر .
وعادت الحياة من جديد لمرسى أسفي، وانتعشت عبدة بعد أن استقر السعديون بمراكش، واتخذوها حاضرة ملكهم، واصبحت بذلك منفدا بحريا، يتقاسم مع أكادير وسلا كل النشاط البحري المغربي، وعن طريق أسفي، كانت البعثات الدبلوماسية، من سفراء ومبعوثين لتقديم أوراقهم للبلاط السعدي .
ولم يستمر الانتعاش طويلا، اذ بانتهاء الدولة السعدية، تقلص من جديد دور مرسى اسفي الذي عاد الى ركوده، وكان لذلك تأثير كبير على كل مجال عبدة. وسيظهر من جديد مع فترة عبد الرحمان بن ناصر العبدي .