نفوس عندما تفيض أنفاسها ينقضي ذكرها ويتوارى عملها خلف أسوار النسيان، ونفوس أخرى، برحيلها يزداد سجل أعمالها سموا، وتصير أفعالها أكثر حضورا وإشعاعا، هؤلاء هم الخالدون في الذكر والذاكرة والوجدان الإنساني الجمعي، لمثل هؤلاء العظام لا نقول وداعا عند تشييعهم إلى مثواهم الأخير، من طينة هؤلاء الطيبة، ينحدر الفقيد السي عبد الرحمن يوسفي، سجله الحافل بالعطاء شهادة حضور، يمنحه امتياز التواجد في حضرة الغياب، مستمدا أريجه من آثار تركها موشومة في ذاكرة الوطن والفرد والجماعة، تلك الآثار التي تناسلت عبرها حيوات متجاورة، يتشابك فيها البعد السياسي بألق نضالي، يتعلق ويتقاطع في مسار معاشه ومعيشه، إنه المقاوم الوفي والسياسي الحصيف والحقوقي اللامع، والمسؤول الحكومي بمرتبة مناضل، إنه رجل المنعطفات المفصلية والمحطات التاريخية والاستثنائية في تاريخ المغرب الحديث، أينما وليت وجهك تجده حاضرا، من مقاومة الاحتلال إلى مقاومة الاستبداد والنضال من أجل الديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية، من تدبير الشأن الحزبي، إثر توليه مهمة الكاتب الأول بعد وفاة رفيقه في النضال السي عبد الرحيم بوعبيد، إلى تدبير الشأن الحكومي، حياة حافلة بالعطاء السخي والتضحيات الجسام ونكران الذات، والابتعاد عن جعل مزاولة الفعل السياسي جسر عبور لتحقيق الامتيازات الشخصية أو الاسترزاق السياسي والمقايضة المنفعية.
إثر توليه رئاسة حكومة التناوب، بادر إلى تدشين أوراش الإصلاح الكبرى في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية، فتعافى قلب الوطن النابض، واسترجع قواه على خلفية تراجع المديونية وارتفاع نسبة النمو وجعل تنمية العالم القروي رافعة لاقتصاد الوطن… إلخ.
كلام كثير قيل عن مناقب الأستاذ عبد رحمن يوسفي وعن تجربة حكومة التناوب التي قادها، يدعو الباحثين والشباب الصاعد إلى أن ينكب بموضوعية على مدارسة تجربة الانتقال إلى الديمقراطية لكي يستفيد مغاربة الغد من مزاياها ومنجزاتها، ومن عثراتها كذلك.
فضلا عما تقدم، إن الموضوع الذي أروم ملامسته والتركيز عليه في هذه الأوراق، يتعلق بالنزعة النسائية عند عبد الرحمن يوسفي، باعتبارها خصيصة مائزة لشخصه، وسمت مواقفه وأداءه النضالي والسياسي، نابعة من قناعته وإيمانه بحقوق المرأة كمكون مركزي أصيل في منظومة حقوق الإنسان، جعلت منه المناصر المساند لقضايا النساء، والمنافح عن حقوقهن العادلة.
وبفراسة السياسي المحنك، المستشرف للآفاق المستقبلية سياسيا، اجتماعيا، اقتصاديا وثقافيا، والمستوعب باكرا للشروط الكائنة، المؤطرة للمرحلة وطنيا ودوليا، وما يمكن أن تسفر عنه من إبدالات وتحولات، كان سباقا في مطلع التسعينيات من القرن الماضي إلى التأكيد في إحدى المناسبات، أن «عقد التسعينات لابد أن يكون عقد المرأة المغربية».
هكذا استجاب التاريخ لحدسه النضالي، إذ شكل عقد التسعينيات بالنسبة لقضايا النساء العتبة الأساس باحتضانه للبوادر الإصلاحية الأولى التي طالت الملف المطلبي للحركة النسائية ببلادنا، ممثلة أساسا في مراجعة مدونة الأحوال الشخصية واستوزار المرأة…إلخ.
وانسجاما مع إيمانه بقضايا النساء ودورها في دعم وتركيز الديمقراطية في المشهد الوطني العام، بادر كوزير أول، ولأول مرة في تاريخ الحكومات المتعاقبة على سدة الواجهة التنفيذية، إلى إدراج قضايا المرأة ضمن التصريح الحكومي الذي قدمه أمام البرلمان للمصادقة عليه، معتبرا إياها أحد تحديات رهان الإصلاح والدمقرطة بالبلاد، مؤكدا أن نجاح أي مشروع تنموي لا يمكن استيفاء شروط نجاحه إلا بالاعتراف بدور المرأة كشريك في الفعل والإنجاز، وتمكينها من مواطنتها الكاملة بإقرار حقوقها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، إذ شكلت مسألة تمثيلية المرأة في مراكز اتخاذ القرار – بالنسبة إليه – مطلبا مبدئيا ورهانا استراتيجيا، يشهد على ذلك حرصه على تمثيلية المرأة الاتحادية في تشكيلة فريقه الحكومي، إذ كان المسؤول الحزبي الوحيد الذي أخذ بعين الاعتبار تمثيلية المرأة المغربية في حكومة التناوب، خاصة، في طبعتها الأولى.
ومع مطلع الألفية الثالثة، وعلى خلفية تضافر الجهود وتقاطع «نسائية» الدولة ممثلة في الإرادة السياسية العليا بالبلاد والنزعة النسائية عند الأستاذ عبد الرحمن يوسفي، انطلق جيل جديد من الإصلاحات في مجال مصالحة المغرب مع نسائه، تجاوبا مع تطلعات التنظيمات التقدمية والحقوقية والنسائية، فكانت البداية بإبداع وتوفير آلية قانونية ترفع من تمثيلية النساء في مجلس النواب، أسفرت عن إقرار «اللائحة الوطنية» مع انتخابات شتنبر 2002، التي شكلت بؤرة ضوء اتسع إشعاعها ليضيء ويستوعب مجموعة من القضايا المتضمنة في كراسة مطالب النساء.
وما زلت أذكر، أنه في أحد اللقاءات الحزبية، تقدمت لتحية الأستاذ السي عبد الرحمن يوسفي، فبادر بسؤالي «كيف وجدت العمل البرلماني، أداؤك يدل على أنك لا تخوضين التجربة لأول مرة؟».
كلامه هذا، لا يزال يتردد صداه في أذني، غمرني بالارتياح والاعتزاز بالثقة التي وضعوها في شخصي الإخوة أعضاء المكتب السياسي الذين بوؤوني رتبة في لائحة النساء الاتحاديات رشحتني للفوز بمقعد بمجلس النواب (2002-2007) وأتاحت لي فرصة ممارسة الفعل النيابي بشغف وحماس.
من المؤكد أن نسائية اليوسفي لم تنطلق من فراغ، ولم تكن مجرد ورقة سياسية كما يتعامل معها البعض، بل كان منطلقها الأساس، إيمانه الراسخ بأن «حقوق المرأة من صميم حقوق الإنسان» لا تقبل التجزيء والانتقائية، وما يؤكد قناعته المبدئية والقيمية بعدالة قضايا النساء، مبادرته منذ سنوات الخمسينيات من القرن الماضي، إثر توليه مسؤولية الإعلام الحزبي «جريدة التحرير» إلى إنشاء صفحة خاصة بقضايا النساء، وعيا منه في تلك المرحلة التاريخية في مغرب ما بعد الاستقلال، بدور الإعلام في التعبئة والتحسيس بأهمية دور المرأة في الحياة العامة، والارتقاء بها إلى مصاف الإشكالات والمواضيع السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يعنى بها.
مواصلا عنايته الرفيعة بقضايا النساء، سيقوم السي عبد الرحمن يوسفي بدعم اقتراح آلية تنظيمية بمثابة «كوطا» تمييزا إيجابيا يضمن تمثيلية المرأة الاتحادية في الهيئات الحزبية التقريرية والتنفيذية، التي صادق عليها المؤتمر السادس، ووقع تضمينها في النظام الداخلي للحزب.
إن هذه النزعة النسائية تؤكد استنارة الأستاذ عبد الرحمن يوسفي باعتباره قائدا سياسيا حمل مشروعا مجتمعيا متكامل الأركان، تشكل فيه قضايا النساء جزءا من الكل، وهذا ما يؤهله لامتلاك وتملك سمة القائد السياسي النسائي والمصلح الاجتماعي بامتياز، المنجز لمبادرات رائدة على المستوى الحزبي وعلى المستوى الحكومي، إذ صار تصريحه الحكومي بمثابة ترسيم لخطاطة تنظيمية تعنى بقضايا النساء، اعتمدها واقتدى بها بشكل مختلف ومتفاوت كل من جاء بعده.
الأستاذ عبد الرحمن يوسفي، هذه القامة السامقة الوارفة الظلال، المتميزة بحبه الصوفي للوطن الذي حمله في القلب والعينين وبنزعته النسائية النبيلة، تسائلنا اليوم وتدعونا إلى التفكير في كيفية جعل آثاره ومنجزاته – وكل الكبار أمثاله – درسا مشعا في الوطنية ونموذجا يقتدي به الجيل الصاعد.