في أكتوبر من عام 2002، أجرى محمد علي الأتاسي مقابلة مع الدكتور نصر حامد أبو زيد في دمشق، وقال عنه «محنة نصر حامد أبو زيد هي محنة الثقافة العربية في عصرنا الراهن. وكرامة استاذ الجامعة الجريحة هي كرامة البحث العلمي واستقلاليته المستباحة على مذبح الإيديولوجيا القروسطوية بمكونيها الرئيسين: السلطة السياسية المستبدة والسلطة الدينية المتحجرة». في ما يلي نص الحوار:
في كتابك الاخير، “دوائر الخوف في خطاب المرأة”، نلاحظ تداخل الهم الذاتي مع الهم الجماعي. ترى هل أثرت الازمة التي اصابت زوجتك ابتهال يونس وإصابتك في مسارك الفكري؟
الهم الذاتي كان دائماً موجوداً في أبحاثي، لكنه في هذا الكتاب أصبح مفصحاً عنه في شكل أوضح، وخصوصاً أنه كتاب عن المرأة. الأزمة التي تعرضنا لها، زوجتي وأنا، لا تزال تسمّى قضية نصر حامد أبو زيد. حتى القوى الثقافية والوطنية التي تعتبر نفسها تقدمية في مصر، تناولت القضية على أنها قضية رجل تعرض للاضطهاد، مع أنها في الاساس والجوهر ظلم فادح أرتكب في حق امرأة. نحن هنا امام شرف امرأة امتهن وهي لم تؤلف اي كتاب عن الإسلام، ومع ذلك لا تزال القضية تُطرح في الخطاب العام على أنها قضية نصر حامد أبو زيد وحده، وهذا دليل على أننا نعيش داخل ثقافة ذكورية. السؤال هو لماذا لم ينفذوا في حربهم ضد أبحاثي، إلا عبر الحلقة الضعيفة التي هي قانون الأحوال الشخصية والطلاق؟ ولنفترض جزافاً ان ذلك المسمّى نصر حامد أبو زيد يجب أن يعاقب لأنه حسب ما يقولون اقترف منكر الردة. حسناً ليعاقب! لكنهم، كما قالت ابتهال، يتعاملون مع المرأة على أنها دمية الرجل، وافضل عقاب له هو حرمانه دميته، مستغلين وجود جناح ضعيف في المجتمع والمؤسسات والقوانين. رغم ذلك كله لا أريد أن أتعامل مع هذه القضية على أنها قضية شخصية، فأنا لو عشتها على هذا الشكل وعشت آلامها فردياً لكنت انتهيت منذ زمن.
بالتوازي مع قضية الطلاق والتفريق، هناك قضيتك كاستاذ جامعي ومكانتك داخل الجامعة، وكأن معركتك الأساسية هي أيضاً دور الجامعة المصرية ومكانة الأستاذ الجامعي وحريته داخل هذه المؤسسة المدنية؟
(صارخاً) طبعاً، هذه قضيتنا كلنا. وقد كتبت في مقدمة “التفكير في زمن التكفير” عن دور الجامعة والأسباب التاريخية التي أدت بهذه المؤسسة، المفترض أنها مدنية وعلمانية، إلى أن تصبح ضعيفة وهشة وأن تستسلم منذ بدايتها أمام أي هجوم تشنه عليها المؤسسة التقليدية.
وعلى الرغم من عدم وجود عائق قانوني يحول دون عودتي الى مصر، فأنا لم أعد حتى الآن، وقلت في شكل صريح أني لن أعود ثانية إلى مصر إلا كعضو في لجنة مناقشة رسالة ماجستير أو دكتوراه من الجامعة المصرية. لكن الواضح أن الجامعة وصلت إلى درك باتت لا تتحمل فيه حتى هذا الطلب لأستاذ لايزال مسجلاً كعضو في طاقمها التدريسي. وفي المناسبة، حتى جامعة دمشق لا تتحمل ذلك، فقد حاول الدكتور صادق جلال العظم أن يدعوني كعضو في لجنة مناقشة رسالة ماجستير أو حتى للمشاركة في أسبوعها الثقافي وفشل في ذلك.
يقول البعض إنه لو كان لبيروت دورها الثقافي والجامعي الذي اضطلعت به في مرحلة الستينات لاستضافت الدكتور نصر حامد أبو زيد في جامعاتها، بدل أن يذهب إلى هولندا. ما رأيك بهذا الكلام وهل أنت مستعد للعودة إلى العالم العربي إذا عرض عليك التدريس في إحدى جامعاته؟
أنا في انتظار دعوة من الجامعة المصرية أولا، ولكن أيضا من أي جامعة عربية. ولو عُرض عليّ منصب أستاذ في أي جامعة عربية، فسأترك هولندا في اليوم الثاني، لأني سأكون مع ناسي وأهلي. لكن إذا تحقق هذا، فمعناه أن الجامعة مختلفة والمكان مختلف، لأنهم لن يدعوني لاصمت ولكن لأعبّر بحرية عن خطابي وتفكيري.
هل تعتقد أن هناك أملا في أن تربح معركتك داخل الجامعة المصرية؟
يعني إيه اربحها؟ أنا اليوم داخل على الستين وسأحال قريبا على التقاعد بحسب قوانين الجامعة المصرية. يعني خلاص مفيش معركة، وعلى الأجيال الجديدة أن تخوض معركتها. الجامعة المصرية خربت بفعل عوامل الفساد المنتشرة في المجتمع ككل، والفساد يسند بعضه بعضا. أنا لا أتوقع أن تقوم قائمة للجامعة المصرية في المستقبل القريب، ولا حتى للجامعات العربية، فالوضع ليس أحسن حالا هنا في دمشق. والمفارقة أنني هنا في سوريا بمعنى أن المجتمع قبل بي وحتى السلطة السياسية ليست ضدي والدليل أنها سمحت بقدومي، بما يعني أن الجامعة أكثر تخلفا من السلطة السياسية المستبدة، والإثنان أكثر تخلفا من المجتمع. هذه ظاهرة خطيرة، فالمفروض أن تكون الجامعة هي رأس رمح التقدم في أي مجتمع. الأمر أصبح عندنا مختلفا. في السابق لم يكفّر طه حسين داخل الجامعة، أنا كُفّرت في الجامعة وحوكمت خارج الجامعة.
هذا يقودنا إلى سؤال عن الواقع الثقافي المتردي في مصر. فأين نحن اليوم من ذلك البلد الذي شهد ولادة فكر النهضة وحضن كبار كتابها؟
دعنا من الكلام بمنطق الحنين. الواقع أن انهاك مصر لم يكن فقط لأسباب اقتصادية أو عسكرية، إنما حصل استنزاف للعقول خلال الحقبة النفطية نتيجة التحالف المصري – السعودي – الأمريكي والهيمنة السعودية على المؤسسات الدينية، فتحولت المؤسسة الدينية في مصر إلى مؤسسة وهابية بعدما كانت اشعرية. حدثت هجرة للمصريين بأعداد كبيرة جدا إلى دول النفط فعادوا بعقول تم غسلها بمنطق إيماني مختلط بالثراء. وإذا كان مفهوم النفط نفسه كبنية اقتصادية، معناه أن تتحقق الثروة من دون عمل، أي أن الثروة موجودة تحت الأرض ولا يحتاج استخراجها سوى إلى الحفر، فإن هذا ساهم في ترسيخ بنية معرفية تعتقد أن المعرفة موجودة في الماضي وهي لا تحتاج إلى أعمال العقل للوصول إليها، بل تحتاج فقط إلى نبش الماضي بحثا عن حلول للحاضر. سيطرة هذه البنية المعرفية المنبثقة من ثقافة البترول، جعلت العمل والتفكير بلا قيمة. حركة المد التي كانت تخرج من مراكز الحضارة إلى مراكز البداوة، انقلبت بفعل البترول وأزمات الحروب، وأصبحت البداوة وقيمها وفقهها تزحف على الحضارة. وهذا في رأيي ساهم في التفكك الثقافي الذي نشهده اليوم، ليس في مصر وحدها، بل في الكثير من البلدان العربية، كسوريا مثلا.
من يتحدث معك يشعر أن لديك قلقا أن لا تعود إلى مصر؟.
آه طبعا. ليس القلق بل الحزن. كنت اتصور أنني تجاوزت هذا الموضوع، لكني صرت أفكر فيه كثيرا. هو ليس الحنين إلى مصر أو القاهرة أو حتى إلى الجامعة، ولكن رغبتي ان أزور قريتي والتقي إخوتي الذين لم تتح لي الفرصة حتى لوداعهم. عايز أروح اسلّم عليهم وأمشي. لكن لن يكون هناك زيارة للقاهرة في برنامج الرحلة. أروح القاهرة اعمل ايه؟ لو كانت الجامعة دعتني، كنت نزلت القاهرة برايتي كأستاذ جامعة. الوطن انحصر في مكان الميلاد، أما الوطن الواسع فلا احد يستطيع ان يحرمني منه غير انني بتّ احمله داخلي.
في الحفلة الغنائية التي قدّمها الفنان محمد منير في دمشق ضمن مهرجان دار المدى الثقافي، كنت جالسا في الصف الأول ولاحظ الجميع أن دموعك انهمرت فجأة، ما السبب؟
أريد أن أقول لك شيئا، لكن لا أعرف كيف أقوله! أنا شخص عاطفي، ولا أخجل من ذلك. عندما شاهدت فيلم “المصير” وسمعت لأول مرة أغنية “علّي صوتك بالغنى”، وجدتها طريفة وضحكت. لكن عندما غنّاها محمد منير هنا في دمشق، ولحظة قال: “لسه الأغاني ممكنة”، انتفضت ولم أعد استطيع أن أتحكم بدموعي، ورحت اسأل نفسي: أفعلا هي ممكنة؟
مرة دعتني جمعية أهلية اسمها “فضاءات ثقافية” إلى مدينة طنجة في المغرب، وفي ليلة الوداع أقيم عشاء وراح بعض الأصدقاء يغنّي للشيخ أمام فانهمرت دموعي، فتوقفوا عن الغناء وأخذوا يعتذروا متخيلين أنهم جرحوني. فقلت لهم: لماذا تتصورون أنه الألم؟ استمروا في غنائكم، ودعوني في دموعي، هي بمثابة غسيل لي.
ما سبب إصرارك على زيارة قبر الشاعر نزار قباني في مقبرة باب الصغير بدمشق؟
أن موت شاعر كبير كنزار قباني في انكلترا، بعيدا عن وطنه، وعودته في نعش ليدفن فيه، وما حدث في لندن عندما رفض بعض المتطرفين ادخال جثمانه للصلاة عليه في الجامع، كان له أثر في نفسي، فحدث نوع من التماهي تخيلت فيه أن الأمر نفسه يحدث مع زوجتي إن هي قررت أخذ جثماني ألى مصر. طبعا، هناك أيضا الألم لفقدان شاعر كبير أغنى وعينا بشعره الإنساني العميق جدا والبسيط جدا. شاعر عظيم عاش في الغربة وعندما مات باتت السلطة مهتمة بالجثمان وعرضت طائرة عسكرية من أجل نقله إلى وطنه. هذه الحادثة أيضا مست الما في داخلي.
زرت أيضا قبر ابن العربي وقبر صلاح الدين في دمشق، ولم استطع أن أتوقف من مقارنة تواضع قبر صلاح الدين بأبهة الأضرحة لبعض القادة العرب. لا أنكر أني في الآونة الأخيرة رحت أتأمل في مسألة الموت ومعنى القبر وقيمته. وكما قلت سابقا، تمنيت على زوجتي أن تدفنني حيث أموت، ولا تتجثم عناء نقل جثماني إلى مصر. الأرض كلها أرض لله، ولا أريد لزوجتي إلى جانب الحزن الذي ستعيشه، أن يقول أحدهم كلمة أو يكتب مقالا، يجرحها ويزيد عناءها. وحتى إذا عدت إلى مصر ميتا واحتفي بجثماني، فما معنى ذلك إذا كنت سأموت وحيدا وبعيدا عن وطني؟!
هل أنت مجروح من وطنك؟
نعم، بمعنى الغضب، ولا أخجل من ذلك. فمن حقي أن أكون غضبان. أعتقد أن غضبي أحيانا يحميني، وهو لم يقل منذ لحظة مغادرتي قبل سبع سنوات. أحب مصر إلى درجة أني لا أريدها أن تكون مقبرة لي. مصر وطن حرمت العيش داخله فلماذا أدفن فيه. إذا كان وطنك لا يريدك حيا، يجب أن تحرمه منك ميتا.
أنا أميز بين مصر الناس ومصر المؤسسات، لكن مع ذلك هي علاقة غريبة جدا. أحيانا أفكر بمصر وكأنها أمي، لكنها أمي التي رفضتني ونبذتني. هذا آلمني جدا إلى درجة أني، وكنت لم أغادر مصر بعد، قلت لها: يا مصر أنا عاوز أفتح للضوء كوة وأنت مش عايزة، فبخاطرك يا مصر.
أنا بعيد عن المكان وليس عن الناس، أحمل حبي للمصريين وغضبي من مصر… الجامعة. الجامعة جرحي.