(إلى عبد الحكيم)
(…)
قال لي مْعَيْط مرّة، إن الّذي يُميّز حدثاً عن آخر هو أسلوب روايته؛ أي الطّريقة التي حِيكَ بها. هناك فرقٌ بين حنجرة عطشانة وأخرى مسقية؛ ألا ترى أن «تموايت» هي نداء الماء وهو يصعد من ضرع الأطلس المتوسط مُتسلّقاً حِبالَ الصّوت إلى السماء..
يقول «غوستاف لوبون»» ليست الوقائع بحد ذاتها هي التي تؤثر على المُخيّلة الشّعبية، وإنما الطريقة التي تعرض بها هذه الوقائع».
(…)
اختفى معيط لأكثر من أسبوعين، وَكَمَا نَدْبٌ على جبينِ المَغْرِبِ ظهرَ فجأة، ظُفْرٌ أبْيَضُ يلوحُ عند مُنْحَدَرِ السّماءِ، جهةَ السّاحلِ، يَرْسُمُ فاصلة (دقيقة) في حَقْلٍ سماوي نيلي. أو كما زَغَبَةٌ بيضاءُ سقطت من حاجبِ عجوزٍ على صدر قميصه البنفسجي الفضفاض الّذي يخفي تفاصيل نصفه الأعلى النّحيف، لَمّا حاوَلَ أن يتذكَّرَ من أينَ جاءَ أرْسَلَ سبّابته ووُسْطَاه وحَكَّ حَاجِبَهُ، فرفرفت الذِّكْرَى وطارت، وأطْلَقَ بصره في أثرها وفجأة رأى الهلال.
الهلالُ… ذكَّرَهُ بالتقويم القمري، وأيضا، بحلوى: الهلالية… وسَرَحَ بعينيه الغائرتين في رأسهِ الْقَدِيمَةِ وفي حاشيّةِ الْقَمَرِ الّتي ابْيَضَّت لما لامستها أَشِعَّةُ الشّمسِ الّتي كانت تَغْرَقُ هُنَاكَ، في مُنْحدَرِ اللاّنهايَةِ.
أَهَذِهِ الصوَرُ المركّبَةُ تدُورُ في ذِهْنِكَ آ علال أمْ في رأْسِ العجوز؟ أَهُوَ الّذي تَنَبَّهَ للزَّمَنِ وقال في نفسه مستفهماً: «تْسْهَلْ الشْهَرْ» أمْ أنتَ الّذي تَسْمَعُ العبارة في رأسكَ ولسببٍ غامضٍ نَسَبْتَها إليه إذْ صداها ما زالَ يتردَّدُ في تجاويفِ داخِلِكَ بصوتٍ وَاهِنٍ عجوزٍ بالكَادِ يستذكر ويستفهم عن الوقت وعن الزمن: واشْ تْسْهَلْ الشْهَرْ؟
ذلك الظُّفْرُ الأبيَضُ، الهلالُ، هو علامَةُ مُسْتَهَلِّ كلّ شهر انْبَعَثَ من غِيّابٍ ليَبْدَأَ سفراً جديداً وذاكرة.
هكذا… لَمَحْتُ مْعَيْطْ من النّافذة العريضة، رأيْتُ جانباً من كتِفِهِ ووجْهِهِ وشَعَرِهْ الذي طَالَهُ الْبَياضُ. كان يمشي في اتِّجَاهِ باب المقهى. ولا أعْرِفُ أرآني أم لا؟ بقيتُ أترقَّبُ مجيئه بين الفينة والأخرى؛ يظْهَرُ على حين غرّة، وكما على خَشَبَةِ مسرحٍ يرتجلُ مدخلاً يُلْفِتُ الانتباهَ إلى حضوره في المكان. الظّاهر أنّه تأخّر؛ انْتَظَرْتُ لأكثَر من خمس دقائق فقُمْتُ وخرجْتُ أتفقّدُ الجوار لعله… ولما نزلتُ درجتَيْ الباب، لمحني ونادى عليّ قائلاً، ها أنا: عِيييوْ…
كان يجلسُ في الطرف، في زاوية المقهى ومدخل الزنقة، قَدَمَهُ فوقَ صندوق بْزَيْكَرْ يُلَمِّعُ له الحذاء. لم أنبس بكلمة، نظرْتُ إليه وهَمَمْتُ بالعودة إلى مكاني فقال، خمَّنْتُ أنّكَ لم تَرَني، لكن تأكّدْتُ الآن أنّكَ تنظُرُ حتّى من أذُنِكَ. ضحكَ بْزَيْكَر وضَرَبَ بممسحته على الصّندوق ضَرْبَة تَعْلِمُ بأنْ أنزِلْ قَدَمَكَ وهاتِ الفردة الأخرى. أنزلَ معيط القدم اليسرى ورَفَعَ اليمنى وهو ينظُرُ إلى قُلّةِ بْزَيْكَرْ وهو جاث على ركبتيه يمسح الحذاء، فعلّقَ ساخراً كعادته، هذه الرّأس… وقبل أن يُتْمِمَ كلمته رفَعَ بْزَيْكَرْ وجهه ونظرَ إلى مْعَيْطْ دون أن تتوقَّفَ يده عن المسح، حركةٌ من فَرْطِ ما داوَمَهَا صارت حُجّة يُثْبِتُ بها أنّه بارع في هذه الحرفة البئيسة، رَدَّ على مْعَيْط قائلاً، بلى رأسي هي الصّندوق الّذي تعسف عليه، وما تراه رأسي هو مجرد صندوق «سيراج»…
وصاحَ مْعَيْط في شبه ضحكة وهو ينْظُرُ إلى بزيكر من أعلى؛ يبدُوَانِ كما في لوحةٍ لـ «الْغْرِيكُو» تُمَثِّلُ مشهداً إنجيلياً: الأبُ المُخَلِّصُ ينظُرُ إلى أحد حوارييه المقربين بعين الرّحمة وقال، ها هي المأساةُ ترفعُ وجهها وتُرافِعُ في محكمة الرب.
فَرَدّ بزيكر دُونَ أن يفهمَ ولا كلمة مما قاله معيط، عيناهُ عالقتان بذقن معيط، رَاهْ حتّى حْنَا عَارْفِينْ الأحاسيس. قال كلمته وأنزل بصره وأسرع في المسح وهو يضحك. مسحني معيط بنظرة سريعة ثم ثبّتَ بصره على قُلّة بزيكر وقال بصوت جهوري، أيْنَكَ يا عبد الله راجع، ها بزيكر يقول بطريقته الثورية، «فليشربوا البحارا». وأنتَ يا بودلير، تعال لتشهد، كم هذه الرأس عظيمة الغباء عالية الجهل… سمع خلاّف صوت مْعيط يصدح خارجاً فأطلّ من الباب، أنذاك صعَدْتُ الدرجتين ودخلتُ. فقال معيط وهو يعنيني بكلامه، وتعال يا عُمَر واشهد على غدْرِ الرّفاق… وأخذ يكركر…