نص سردي .. أرقام تشبهه

يضع يده التي لا تستقر على سكون أو حركة في جيب سروال بذلة العمل الأنيقة، يغادر عمله مطأطأ الرأس، خطاه المتثاقلة لا تكاد تطاوع الوجهة التي اختارها تفكيره ..
«أُفَضل زراعة الفرح بدل انتظار موسم حصاده»
بترتيب أبجديات هذه العبارة بوعيه، يبدأ تعبيد الطريق إلى ما تبقى من تفاصيل يومه.
الهاتف يرن، أحد يطرق الباب، نشرة الأخبار الزوالية تنذر بوقوع كارثة بيئية بالشواطئ، لأن الرمال بها باتَتْ مااصَبْحااتْ ..
متصفحا الجريدة الملقاة في ركن من أركان الصالون على الأريكة، يلقي نظرة خاطفة على العناوين البارزة، ريثما ينهي ارتشاف قهوة ما بعد الزوال، عند عنوان ناقش الكثير من ملامحه مع أصدقاء في العمل وآخرين بالمقهى، يتوقف:
وطن يستهان فيه بقطاعي التعليم والصحة..شهادة وفاته تكتب قبل الدفن ..
عنوان أحمر بالخط العريض يتصدر الصفحة ويقفز قفزا إلى عيون تفكيره المنهك .
يزيل نظارته الطبية من على عينيه، بمنديل ناعم يمسح ما علق بها من غبار، ثم يعيدها إلى مكانها، يفتح هاتفه الذكي، وعلى صفحته بالإنستغرام، يلقي بتدوينة علقت بحلقه شوكة « نحن مجتمع، الكثير منه يهوى الاحتماء بالفزاعات، بدل مواجهة مخاوفه بشجاعة، قد لا يجيد البعض منا وصف أطوار مباراة في كرة القدم، وقد لا يفلح الكثير منا في تشخيص تداعيات حمى الانتخابات على الساحة، لكن أظن أن ما على الكل أن يجيده ويجتهد في القيام به هو حب هذا الوطن ..»
في الصالون، يمشي نحو وجهته حافي القدمين، يرى في انتعال الحذاء، أو ارتداء الجوارب حواجز تعطل لغة الحواس والأحاسيس لديه، كما أنها تخفي حقيقة الأرض وتُبعدها ..
مزاولة عمله بالبنك وانغماسه في عالم الأرقام، لم تنسِه هوسه بالقراءة والكتابة، إذ يرى الكلمات أرقاما تتجاوز جميع العمليات الحسابية في العمق والشساعة..
فما يكتب، لا بالمتى ينشغل، ولا عن الأين يتساءل
ما يكتب، يبعده عن الكثير، ويقصي من أجندته الكثير، ويأخذ منه الكثير
ما يكتب، يملؤه به، ويفرغه من المحتلين
ما يكتب، بنقاط الحذف، يحلو له التأويل، وبين السطور، وخز المخاض مقامه يطيل
ما يكتب، يستعيد الألم من المنفى، ويعيد الفرح إلى نصابه
ما يكتب، على صدر القلق يضع رأسه مطمئنا، لكنه لا ينام
هكذا كان يجيد إحاطة انتصاراته- رغم هشاشتها أحيانا – بهالات من الاعتداد
رغم أن سقوطه، له الفضل الأكبر في نهوضه، أقوى مما عهد نفسه عليه ..
السقوط يذكره وسيذكره أيضا بالزلزال الذي هز أركان بيته المتواجد بالطابق الأول

يقول لنفسه:

النجاة مناسبة سأجيد من خلالها التمسك بي حد التحرر من الآخر
هي عيد يطرق كل الأبواب
لكنه لا يدخل كل البيوت
ومع ذلك، بخزان القلوب، سيرة العيد، من منسوب الفرح تزيد..ما أكتب، لا يتوسل إعجابا ولا اندهاشا
ما أكتب، صوت فيّ من ينصت إليه، يرجو صدى
أدخل يدي الفارغة في جوف الحياة
أملؤها بابتسامات صغيرة، بتنهدات تلملم السائل من الذكريات
وبأشياء أخرى تقلص مساحة الموت بالنظرات، وتزيح حجر عثرة من أمام الخطوات
لا أدري أين سأخبئ تلك الأشياء، لكني أعرف أن كل الأماكن بي آمنة.. وأن الباب بي من الداخل يفتح
لا وقت لدي
القطار واحد
الاتجاه أيضا واحد
أنا المسافر ..أنا الحقيبة، ..المحطات غد بالذاكرة تستقر، وظلها بي ومعي السفرَ تواصل
Haut du formulaire
تهب الرياح بما لا تشتهي السفن، أحيانا بدور الرياح أقوم ، وتارات السفن أكون، الأرقام تطرق رأسي كلما استغرقت في قراءة رواية أو كتاب، لكن الطرق سرعان ما يخف وقعه حين أجمع وأطرح وأقسم .. فيما أقرأ.
ما أكتب وما أقرأ يذيب أثر الأرقام فيه ويجعلها تلين وإلى ما أرنو إليه من حياة حقيقية أميل .. Bas du formulaire

محظوظ أيها البنكي الذكي، تلهي الأرقام بصدى الكلمات، فتنجح في إذابة ما يلفها من جليد
يخاطبني بسخرية زميلي في مقر العمل
الحظ يستغرب من إلحاحي، وأنا أتذمر من تعنته، لا أثر للبوصلة بين ريشاته الخفيفة
وأنا أمتطي القطار، لا أنتبه إلى ما تقوم به قدمي، كل ما بي من عيون على نتف ريشات الحظ تحط
يدي وكل عيوني تتوقف عن ركوب الحظ وعد ريشاته، الريشات، أرقام متطايرة، من قبضة الجمع، الطرح، والقسمة تنفلت .. لتلتحق بقدمي في ركوب القطار
علي أتكئ وليس على الحظ، ومن تمايل الجدران حولي، أتوجس
نعم حسن الظن يقصر المسافات ويقرب البعيد
لكن ليس على حساب كبريائي
أين أضع خطاي، أضع كلي
حسن الظن يقصر المسافات
وكبريائي خط أحمر
من صلصال سأنحت فرحا عابرا، أتَّخِذُه قِبلة
ثم أشرك بك أيها الحزن

اختيار طريق المحبة حلا، لا يعني حرصي على أن أكون محبوبا .. بل هو أقصر الطرق إلى الذات وليس إلى الآخر، لذلك فأجمل النوافذ، ليست التي تطل على البحر
بل تلك المطلة على المحبة
الكلمة وطن في زمن المنافي الملونة، بهذا الصدى كان يؤكد انتماءه إلى ملامح العلم وما يرمي إليه القسم..

المحبة ليست ساطعة، لكنها جميلة.
«العيد من اختراعات الفرح»
أقولها وأنا أتأمل زحف التجاعيد على وجه الأيام
لا وقت لدي
لسماع صوت وخزات الروماتيزم بالعظام تئن
لا وقت لدي
لندم أو عتاب إلى الأبواب المسدودة يقود
لا وقت لدي
لزرع الألغام، وإشعال نار يلفها الدخان
لا وقت لدي
لإلقاء سمكاتي في ماء عكر
لا وقت لدي
لعَدِّ نجوم خارج النور تلمع..
ما تبقى مني ولَدَي، وقت، فيه سأغرسني حديقة حب عارية من ورق الهدايا
في سمائها أخضِّب بدمي كف غيمة صغيرة مثقلة بدموع الفرح
قبل أيام، سمعنا هديرا ينبعث من تحت أقدامنا، كان يبدو في بدايته
بسرعة، نزل كل سكان الحي صغارهم وكبارهم إلى الشارع، بعيدا عن بيوتنا الإسمنتية التحفنا العراء، ليصبح هذا الأخير هو المأوى، وتصبح بيوتنا الخطر، منطق الأرقام يتلاشى ويخبو ليرتفع مكانه صوت منطق التشبث بأهذاب حب الحياة..
كان مصدر الصوت هدير محركات سرب من الطائرات عبرت المنطقة الجوية التي تعلو رؤوسنا
يا الله ظلال الخوف، أفدح من الخوف نفسه
من شدة الألم، نحاول اقتلاع قطعة زجاج طائشة انغرست بقدمنا .. ما يحصل أثناء ذلك أن قطعة الزجاج تتوغل في الجرح وتجهز علينا بألم أكبر
أتدري لم يحصل ذلك يا صديقي؟
لأن حرصنا في التخلص من ذلك الألم يكون أكبر من حجم الألم مما يجعله ينفلت من قبضتنا ويطيل مدة الاستقرار بنا …
أعتى القيود، ما ندرك قسوتها ونحن لأوامرها نَمْتَثِل
بتلميعها نبادِر، وإلى تعبيد طريقها نحونا نسارع، قد يكون الْمُلَمِّعُ حبا جارفا، وقد يكون الْمُعَبِّدُ مصالح ضعيفة النظر تُلْبِسُنا الْمَهانَةَ وأَسْمالَ الذل ..
حين يستوطن الحزن مسام الجلد، أخرج من بابي الخلفي ..
بعيدا عني، أشارك القطط المشردة في اللعب، أغرد مع العصافير المجتمعة بحديقة الحي، أقبض على ابتسامة منعشة، من طفل يعبر الطريق، متمسكا بيد أمه ..
كطائرة ورقية ملونة، أقبض على الابتسامة، أربطها بخيط طويل، أصعد على متنها، ونحلق معا في حضن رياح مسالمة ..
دعنا نسخر من زحام بنا، يمد الفراغ بالمفاتيح ..
دعنا نسخر من أصوات تنادي بالحب، وتحجز الصفوف الأمامية لرشق العشاق بالإدانات ..
دعنا نسخر من شارع طويل يعدنا بالوصول في الوقت المناسب، وهو مع الحفر ضدنا يتآمر
دعنا نسخر من أنفسنا، ونحن نتعلق بأهداب حياة، لنا تحفر القبور
لا نتعلم الدين لنصبح أولياء صالحين
لا نتعلم الفلسفة لنصبح حكماء
نتعلم لنحسن جودة حياتنا بهذا العالم ..
صار الكل يفرغ في سلتك أسباب السعادة
أربعة أشياء تخلصك من جلدك الميت
عشر وسائل تمكنك من مفتاح» باص بارتو»، لتسمع كل الأبواب تقول لك: أبرا كادابرا
شبيك لبيك العالم كله بين يديك ..
فقط اضغط على الزر ..
جرب جودة تلك السعادة حين ينقطع التيار الكهربائي
هاتفك المحمول سيصبح جثة هامدة.. عاجزة أزرار ه على اقتناص مسببات السعادة
سأجرب معك ..وسنعد إلى ثلاثة ثم ندخل أيدينا في قلب السلة
لدغات عقارب الوقت تثبت أن السعادة لا تعرض بأجنحة الأسواق أو رفوفها
بل تؤخذ أخذا ولا تعطى
العالم من حولي يستيقظ
الليل ما زال في بداياته
حزمة من المفاتيح لا تغادرني، كتلك الأرقام التي لا تتوقف عن طرق رأسي.
مفتاح البيت مفتاح غرفتي مفتاح «الكاراج» مفتاح خزانة الملابس وأشياء أخرى، مفتاح السيارة ، لا أؤمن لا بالمفاتيح الأوتوماتيكية ولا حتى بالأقفال الأوتوماتيكية.
المفاتيح التي أثق بها تلك التي لا تكاد تغادر حزام السروال، تحدث صوتا يحيلني على أبواب وأرقام مختلفة الأنواع والأشكال …
حين أهم بفتح الباب، يعرف من بداخل البيت، أني الفاعل
نعم هم أيضا يحبون مفاتيحي، طبعا الدم لن يصير ماء، وحتى لا تنزل من على قمة ذلك الحب، .. كل يوم أتحدث لهم عن مفاتيحي ..


الكاتب : سعيدة لقراري

  

بتاريخ : 20/06/2025