نص : عبد السلام الطويل : عازف الماء «إلى عبد السلام البقالي وماجدة ختوتة»

 

منذ أن عزفها ماء والنوتات تملأ كتبه متربعة سلمها الموسيقي. هذا الابن العاق للفلسفة الذي ما انفك يخون الأدب مع الموسيقى والفكر مع الشعر. سليل نيتشه ومريد هيدغر، مدمن دولوز ومجرة فلاسفة 68، خصيم بورخيص مذ أن نكث مترجم لئيم عرّة الصداقة. كتب القصة ليتبرأ من شوائب السرد، و كتب الرواية ليتخلص من أردان الفلسفة. عبد السلام الطويل ليس كاتبا مهادنا وإن بدا هادئا، بل هو نحات موسيقى مزعج ببوحه الضاج بأسئلة أفعمها هيامه لفاغنر في أزمنة الالتباس الإيديولوجي والاحتباس الرومانسي.
عبد السلام الطويل مشاء طرق، مذ أن ألقمته مدائن الشمس فَيْح أكاديميات أرخميدس وهو يحرس الغابة من مختطفيها والموانئ من مفسديها. كفكاوي الهوى، نفري الروح، يمشي الدهر كله؛ لا يمل من قطع المسافات ذاتِها مع بزوغ أول الطريق ذاته، لم يختر الكتابة التي حلت عليه قدرا، من يختار قدره؟
هو لا يتطلع إلى قمم الأدب بل فقط يكتب مادام في الذات حياة. يكتب كما الشجر يستنشق ثاني أوكسيد كاربون برئتي روحه ليؤكسَجن الكتابة.
مع الزمن تراكمت العناوين وتناسلت المواجع عبر كتابة انسابت آلاما التأمت لها الجراح وإن لم تشف الروح، لم يكتبها برؤية الذي رأى وإنما بجسد من قاوم راح الأيام بعصفها العاتي. يكتب حروبه في سلم آمن مستعيضا عن السرد المنمق والمؤسلب المنظوم بحكي نيء يقتطعه تقطيعا من لحمة تجربته القصوى، وكأني بالنفري يستهديه العبارة: «كلما اتسعت التجربة ضاقت الرواية». لم يَصْبُ قط لأن يصنع من الذات محكيا فحسب، بل ليجود بها قربانا لمحكيات قضاياه اليومية التافهة منها والوجودية المتأبهة. من الذات ينطلق وإليها يعود بحيث يصبح السارد والمسرود ذاتا متوحدة في انصهار مطلق. عنوة يتجاوز الطويل أناه إلى آخَرِه مقتفيا خطوات سارق نار أرتور رامبو وقد أضرمها حداثةً في مراسلات ماي 1871 ما انفكت شرارتها تلهب الأفكار إلى عصور غابرة في المستقبل: «ذلك أن الأنا آخر. و إذا ما أفاق النحاس ووجد نفسه بوقا، فماهي بخطيئته. ذلك بديهي عندي: إنني أشهد تفتح فكري: أتملاه وإليه أصغي: أحرك القوس، فتتعالى الموسيقى في الأعماق، وبقفزة واحدة نأتي إلى الخشبة.» أنا الآخر هي ذات الشرارة التي تلاقاها عبد السلام الطويل لإنضاج آلامه على نار أناه التي نخالها هادئة غير أن تأججها يشعل دواخله احتراقا. يتخذ من محكياته استقراء ذا هرمونية سوسيوثقافية، فهو لا يجلِد الذات بل يعزفها حكيا على مسمع عالم لم يعد يعبأ بفردانية الفرد في تشظيها. يأبى أن يضرم النار في جثامين شخصياته على ضفاف نهر الموتى وقد غذاها احتراقاته وأحال رمادها محكيات ذاتية لا تروم حكي المجتمع من خلال الذات بل حكي الذات من خلال المجتمع. إنه يعمد عمدا لتكسير المرآة وشرخ بلورها حتى تبدو إثره صورةُ أناه انعكاسا لآخره مشروخا على صفحة مجتمع تمكن منه الوباء فأضحت الكتابة لديه مرآة محكياته.
تلك مرايا حكاياه، قد يحدث وأن يقتطف منها واحدة يحكيها لي بانشراح في اتصال هاتفي صبيحة عيد فطر. يحلو له أن يحكي لي عن قطط المركب السكني حيث يقطن في طريق تطوان، ظل يلاعبها أطفال الجيران طيلة صبيحة العيد إلى أن هدها التعب واستبد بها نهم الجوع. ولأن القطط من الجنس الوديع والمسالم فهي من فطرتها عدم الانزعاج حتى و إن لحقتها الإساءة. فالقطط من طبيعتها عدم الانزعاج و الغضب ممن أساء إليها المعاملة. تبدو على الدوام راضية ومطمئنة، بيد أنها اعتادت على أن تخونها ملامحها للتعبير عن رضاها بابتسامة متسامحة، فهي وبكل بساطة لا تبتسم. بعد أن خلقها إنسانا لم يقتصر الله على مسخها إلى قطط بحرمانها لذة الابتسام بل وسلط عليها عقاب المشي الدهرَ كلَّه حافية القوائم بلا أحذية. لذلك واستجداء للقمة تسد بها رمقها ظلت القطط طيلة يوم العيد تنزل درج المركب السكني وترتقيه بقوائم حافية. يومها تفقد عبد السلام حي المغوغة الصناعي بأزقته ليكتشف أن جلها مقفول. كلما صعد درج المركب السكني أو نزله تواكب خطواته الصاعدة أو النازلة نظرات القطط التي تتملاه «بشي شوفات ف شي شكل» يحكي بانتشاء. نظرات القطط إليه ذكرته بجان بياجي ومرحلة المرآة من حياة الإنسان الطفولية كما أسس لها هنري والون وجاك لاكان. فكر في أن يخرج مرآة و يجعل القطط تنظر إلى وجوهها على صفحتها العاكسة، لاحظ أنها لا تبدي اهتماما لصورتها المنعكسة على المرآة، كما لو أنها لا ترى نفسها. حاولتُ أن أجاريه اللعبة منبها إياه إلى أن القطط شفقية الرؤية، أي أن نظرها يتقوى عند الضحى وأناء الغروب لذلك فهي ترى أفضل في الظلام. ظل يضحك وهو يردد لازمته المعهودة «داك الشي… داك الشي» بينما سرح تفكيري في شرود صامت: « هي ببساطة لا تأبه لصورتها… الإساءة الوحيدة التي قد يكون الإنسان أساء بها لنفسه كونه انشغل بصورته عكس القطط التي لا تنشغل بصورتها انشغالا مرضيا.» لحظتها جاءني صوت عبد السلام على الطرف الآخر من الخط معرجا بالمحادثة من قطط الجوار إلى ما حدث له مؤخرا مع الجارة، مبديا انزعاجا حادا من نفسه. منذ أيام و الرغبة تحدوه في التحدث إلي عن سخطه على نفسه جراء معاملة وقحة صدرت منه قدَّرَها مسيئةً لجارته جعلته «يكفر» فيه «كفرتْ فيا» قالها مشددا على نطقها وكأنه متربص بتوجيه لكمة إلى وجهه بقبضة يده. لا يتردد في أن يبوح لي على الهاتف ساخرا: «لو كانت هناك كوميسارية قريبة من الحي حيث أسكن لتوجهت توا إليها للتبليغ عليَ أنا الذي بالغت في معاملة جارة طيبة وودودة معاملة قاسية و مجردة من أي حس إنساني».
هي مراياه تلك الحكايا التي يستجمعها من عيشه اليومي في خضم حياة مقصوصة على مقاس تحركاته المحدودة في الزمان والمكان. من خيوطها ينسج بوحه على مشارف دير الكتابة، يفرد لها شبابيك اعترافاته يشرعها شباكا شباكا لرياح تُدخل الراحَ على الروح. لا يستجدي استشفاء لروح أو تصالحا مع الذات، هي فقط لوثة الكتابة تمتد فيه متمكنة من كيان كينونته. ككل الممسوسين بلوثة الكلمة منذ الأزل لا يحتاج عبد السلام الطويل لأن يسمع شارل بوكوفسكي في واحدة من تصريحاته
«J’écris probablement trop. Mais c’est plus fort que moi. Je suis accro» «ربما أكتب بإفراط. إنه لأمر يتجاوزني. فأنا مدمن»، فقد خبر الطويل كما بوكوفسكي إدمان الكتابة منذ وعيه الفطري بقضايا الذات والوجود.
لوجودياته يعيش وإليها يؤوب بعد تغرب في اليومي السحيق، يفلسف آلامه ليطفو على سطح الحياة مرة تلو المرة، وما أن ينزل إلى مساقط تيهه بين منعرجات المدينة، حتى تتلعثم خطواته فيتعجل العودة إلى صمت يومياته التي يفرد لها نصوصا مترعة بالأسى الأسيان، أو رسائل يبثها البوح للقاصي والداني من الأصدقاء، كتلك التي بعثها لي عام 1997 إلى باريس ، والتي لم أتوصل بها إلا بعد مضي سنوات إذ سلمها لي صديق استمر يقطن ذات العنوان الباريسي بمجرد رجوعي إليها في ربيع 2011. قرأت الرسالة كما لو كنت توصلت بها في حينها. تذوقت مرارتها طرية، طازجة أعادت لي حلو مذاق عهدنا الفتي إذ كنا نرتجل تسكعاتنا بين دروب وأزقة المدينة على إيقاع القراءات ومشاهدة الأفلام والمسرحيات ودفء المعارض وصخب الندوات على قلتها في أماسي طنجة التي ولت. يحدثني عبد السلام في الرسالة عن مستجدات روايته «أرخميدس» التي لاطالما انتطر صدورها بصبر أيوبي : «أما عن روايتي، فلم تصدر إلا بعد أن كدت أيأس (منتصف أو أواخر شهر مارس، بداية شهر أبريل، شهر الأكاذيب) وحضر محمد شكري (تصور!) لـ «حفل التوقيع» (حينما التقيته في اليوم التالي لم أستطع أن أصافحه، كنت في حالة نفسية مزرية، و أنَّبْتُ نفسي كثيرا.)
ظل عبد السلام الطويل عنوان مرحلة ما انفك يجثم بعنفوان انكساراته على نص الحساسية الجديدة بالمغرب، دونما ادعاء الانتساب لشجرة إدوارد الخراط. في واحدة من لقاءاتي بهذا الأخير في صيف 1998 كنت قد حدثته عن كتابات الطويل الشذرية التي تجد لها انتماء متجذرا في الحساسية الجديدة كما بشر بها في كتابه «الحساسية الجديدة: مقالات في الظاهرة القصصية». ولست أذكر كيف تدبر عبد السلام أمره في الحصول على نسخة من مجموعته القصصية «مدائن الشمس» التي نفدت ليس من المكتبات فحسب، بل ومن خزانة ناشرها اتحاد كتاب المغرب بالرباط أيضا. سلمت النسخة لإدوارد الخراط وكأني أعيد إليه مومياء من مومياءات الفراعنة التي أشبعتها نهبا جحافل نابوليون بونابارت العسكرية والعلمية.
لعبد السلام الطويل في ركن التعارف والتواصل بالشخصيات الأدبية طقوس، واحتراما لهذه الطقوس تحضرني الذكرى أنني أبلغته رغبة إدوارد الخراط في التعرف عليه بعد أن اطلع على مدائن شمسه. لم أعد أذكر إن كنت قد توفقت في تحقيق هذا اللقاء بين الكاتبين، بيد أني أذكر جيدا أن إدوارد ظل كلما التقيته في طنجة، أصيلة أو القاهرة يسألني عن جديد عبد السلام الطويل ويفرد مساحة هامة من دردشاتنا للحديث عنه وعن نصوصه. ولطالما ذكرته أن الطويل لم يكن راضيا بالمرة عن التجنيس (مجموعة قصصية) الذي وضعه الناشر لإصداره الأول «مدائن الشمس» بحيث أن الطويل ما فتئ يردد كلما أثير هذا العنوان، أنه يكتب نصوصا مفتوحة غير خاضعة لأي تجنيس، وأما وإن كان لابد من تجنيس يوضع على الغلاف، فلعله يفضل عبارة «نصوص مفتوحة» لأنها الأقرب إلى مفهومه الأدبي وتصوره الفني في هذه النصوص على الأقل.


الكاتب :  الزبير بن بوشتى

  

بتاريخ : 02/02/2018