– ألو… أنا أدعوك… هل تسمعني؟
– أحسك… و لا أسمعك… و بعد؟
أما بعد، يا أمير الأيام الخالية، ضع في الاعتبار بأنه طلقني شهراً واحداً على وصولي، قبل أن تنمحي خطوط الحناء من كفيّ المرفوعتين إلى العلي القدير، يريني فيه يوماً أسود من الأيام التي أعيشها في هذا البلد الأبيض، والد وما ولد…
أخبرك ولا تخبّر أحداً أبداً: انتهت مدة صلاحية التأشيرة، ولم يصرح بي رسمياً كزوجة ملتحقة ببعلها في ديار المهجر، يعني أوراق الإقامة: لا شيء.
خيرني بين المغادرة الطوعية وبين الأكل وشرب البيرة والذهاب في السوبر مارشيات، وفي الليل هيّ إليّ يا ليلى المريضة في بروكسيل من غير علم زكي مبارك، زكاه الله و بارك في عمر ليلاه المريضة في العراق من غير علم ابن الزانية عدَلي. قال ماذا؟ قال: إن صاحبته هي الأولى وأنا الأخرى، هي الظاهرة وأنا الباطنة، هي الأشقر والأجدر والأقدر على البقاء… وأنا جئت – إلى هنا – طلباً في سَعة الرزق وستر المستور عن عيون الشامتات من بنات بلدي وبنات أفكاري، والشامتين من بني جلدتي وبني آوى… نْدير لي زوج فرانك وأعود صيفاً مع العائدين، أقيس طول الشارع الرئيس بمهل وآكل الآيس كريم على رصيف الحياة الحارة، ومت وانطعن يا البايت بلا عشاء…
وكّلت عليه الله و مسيو جون، وعدني بالخير وأكد أن القانون – عندهم – لا يضيّع حق المظلومين، تماماً كما أن الله – عندنا – لا يضيع أجر المحسنين والله يحسن إليه (وخا نصراني وكافر بالله) كما سيحسن إلي. أنا يا خويا غريبة وبرانية واللغة على قد الحال والحيلة ما خفاتك حال، واعمل شي حيلة وأخرجني أطبّ على وجه الدنيا، لقد مللت العيش في باطنها، ويحسن عونك يا يوسف، ما حس بالظلام غير المكفن به… الله ينجيكم من الحوت وبطن الحوت والحوت الذي يمشي على اثنتين تحديداً. أما إذا كان أكحل الرأس فذلك ماتش آخر.
أيامي يا مسيو جون كحلاء في كحلاء، أشتغل في الأسود والحجرة التي تأويني مؤجرة في الأسود، ولا أخرج رأسي من بعضي إلا لما يصبح البوليس عاجزاً عن تمييز الخيط الأبيض من الأسود، وها عار مولاي عبد السلام بن مشيش ومولاي عبد الله أمغار، أما إذا وقفت معي يوقفوا معك.
ويلي؟ أش نكول ليهم إذا أرجعوني إلى بل… ؟ بلدي؟ أش من بلدي؟ أنا بلدي هي هنا: آكل وأشرب وأخرج رأسي من قوقعتي وأسوق السيارة بيد وأمسك السيجارة بأخرى، وعيني على القرص، البق ما يزهق، كلي نظر وكثيرهم قليل النظر، والله يجعل الغفلة، علاه غير أجي ودير لاباس؟ (الأورو) يفرض على (العورو) يكون حذقاً وراد البال، ولن يهدأ لي بال إلا لما يخرج لي جون أوراق الإقامة من خرم القانون الاجتماعي. عندما كنت في الصفوف الأطول من لسان بني آدم، أمام قنصلية بلجيكا في الدار البيضاء، سمعتهم يقولون ويؤكدون على أنه قانون يضع المرأة في منزلة أعلى من منزلة الشهداء والصالحين، وأنا الآن في انتظار جون وفي انتظار أن يصدق القول…
ثيابها أنظف من ثياب الممرضة، تطوف بالمشروب في الصبح أو في المساء؟ إذا حضرت حضر الجوكير وحضر الفرح والسرور. وإذا غابت تتبعها البهجة والحبور وشعاع النور الذي ينبعث من معطفها الأبيض الأنظف من معطف الممرضة، وتنتحر الفراشات ويهجر الشذى ألحانه، ويبقى الغصن مقطوعاً من شجرة، وتصبح المقهى مجرد كراس وطاولات وقتلة وقت… وينبئني نصفي الآخر بأنها ستلفّ الأركان كلها وتعيد وتكرر ثم تعود إلي.
وتكون سرعة الدوران قد خبت، وأكون قد رممت نفسيتي المشقوقة ولممت ارتباكي وقلت لها:
– أنت لي وأنا ليك…
و لن تجد ما ترد به على جسارتي غير قول الفنان الشعبي:
– شحال تسنيتك ما جيتي… ولما جئت افعل ما بدا… ما بدا لي؟ هذا كله حظ عند الفقيه أبي عسرية؟ و ماذا سيبدو لي؟ هي كتاب مغلق وليس في متناول اليد، فكيف لي أفك أزرارها؟ اسأل ولن تتوه، نعم افعل، خذ الورقة والقلم الرصاص واشرع في فك الخطوط:
– لم يحصل قط أن قدمت لي خدمة والابتسامة تخاصم فاها، ابتسامة ولو في طبعة صفراء وذلك أضعف الابتسام…
– عندما أتقدم إليها بعبارات الشكر عقب تسلم الطلب ترد بأحسن منها.
– كثيراً ما أضبطها تتحدث إلى البارمان وهما يختلسان النظر إلي، ولن يكون هذا لله في لله. الأكيد أن في الأمر علامة…
– مرة خرجت، قبل إتمام قهوتي، تبدو على خطواتي علامات الانزعاج، ولم أعد إلا بعد ساعات، فكان منها أن استفسرت لتطمئن…
لعل كل الإشارات والعبارات تقف في صفي، و لم يبق إلا قطع الشريط بمقص الجرأة والشجاعة للإعلان عن النفس…
– من يكون الأخ؟ أقصد الاسم/ السن/ الحالة الاجتماعية/ السكن/العمل/والذي منه…
– محسوبك حميدو ولد بوعراقية، أما السن فإن خبره عند ضابط الحالة المدنية، والحالة الاجتماعية كما ترين، يعرف المرء من صباطه، وأنا حذائي واضح وبائن. أسكن داخل نفسي، أي مكوم داخل سوق رأسي. أما العمل – و قل اعملوا- فأعمل كل ما في حجمي لأصبح أستاذاً (مع التنفيذ طبعا)…
– هذا فقط؟ قلها من الصبح. بعد كل هذا المخاض ولدت أستاذاً. تقولها بوجه أرجواني… ليس في علمك أن الشغل هنا، في المقهى، يكسب أكثر؟ شف لك طريقاً أخرى يا كبدي. يسهل الله…
خرجت ولم أعد، وفي نيتي التخلص من لعنة الأستاذية التي لا أعرف كيف ألمت بي، وأبحث عن مسلك آخر أصبح معه رجلاً وسيد رجال ونساء، أجعل بنات حواء يأتينني حبواً.
الحياة امرأة يا ابن نفسي، لأن الدنيا أنثى، و العملة أنثى، و التفاحة أنثى. و تفاحتي نضجت في أعلى شجرة، يصعب الوصول إليها بالقلم والمسطرة وما يسطرون، فقط أبحث لي عن طائر طيار، أو طائرة تطير بي إلى تلك البلاد، حيث التفاح بالعرام: كل وغبر به الأرض، سر أيها البحر المنتصب أمامي، الله يعطيك نشفة، وأطلق ساقي للريح الشرقي، ولن يوقفني غير شجر التفاح في البلاد التي على البال…
ويلي… ما صدقت خرج من شرنقة صمته و دق باب ودي. تسرعت يا ليلى إذ أعطيته ظهرك في أول ظهور. وما أدراني أن ليس وراء الرجل ما يسر المرأة ويكفيها؟ ثم أن صفة (أستاذ) تشرف، حتى و إن كانت لا تؤكّل البغار… وماذا أقول لصاحب BMW؟ رمى علي اليمين وحلف بحلوفه حتى يسفرني معه إلى بلاد البلاجكة.
لو صدق الزماكري الوعد وحصل الذي في بالي أكون قد حققت الحلم الأكبر وركلت هذه الدنيا الكتاب وأنا فيه سيدة الرجال لأنني أخدمهم صباح مساء في المقهى وخارج المقهى. الأستاذ طائر في يدي وكلامه لذيذ ويهز الوجدان. ومول البلاكة الحمراء طائر نادر فوق شجرة مباركة تفصلني عنها مسافة رصاصة، وإن كل تصويبة خاطئة يضيع معها هذا وذاك، وأبقى طوافة مثل ساعي البريد في هذه الدنيا الدوارة. وما العمل يا بنيتي يا ليلى؟ أضع رجلاً هنا ورجلاً هناك حتى يعمل الله شي تاويل خير…
– إيه، لو نبقى وفيين لهذا الفراش الأحادي، يا ليلى… إن كل حياتي اختزلت فيك. لا تضيعها ببشاعتك، أرجوك…
– لو يقص الله من أحد لسانيك ويزيد في مخك لتفهم أني أحلم بالعيش في الأعالي، أدرك العمر الذي ضاع مني، أريد مسح صورة الخادمة في البيوت والنادلة في المقهى التي تستبد بدواخلي وتقوض فيّ الإحساس بالتحتية. افهمني ولو مرة. أنا يا ابن آدم أحبك ولم أفتح أبوابي لمخلوق قبلك. والوقت الذي أقضيه برفقتك أحسه غير منقوص من عمري. ولكن شراع حلمي أكبر من بحرك. ابق مع أستاذيتك ودعني أبحث لنفسي عن الذي يرضيني ويكفيني، ولك عندي أحفظ ذكراك في العزيز الكريم. أنت – زعما – فاهم وقاري، أحيانا تجري الرياح في اتجاه لا يغري السفن، لكن قد تفتح شهية القوارب. سأغامر وأقامر بالروح والدم لتحقيق الذي نفسي فيه هائمة. أعيد وأكرر أم تراك بدأت تفهم؟
لا زلت أزور المقهى المعلوم. أطلب شاياً أسود بدون سكر. أسبح في المجهول، الدنيا بدالة يا أخي يا أنا. ذهبت فرح ونزيهة إلى حيث لا أعلم، وركبت صاحبتي البوغاز وسارت في إثر حلمها وجنونها، ولم يبق إلا الطاولات والكراسي والأكواب المفرومة وقتلة الوقت وبعض من ذكرى حبيب. لا أنا اشتغلت أستاذاً كما أحببت ورضيت، ولا ليلى بنت بطوطة حققت حلمها في الغابة البعيدة. كله تبخر مع أوراق الكالوندريي. سأبقى أنا حالماً بالأستاذية وستبقى هي خادمة في البيوت أو خارج البيوت. أنا هنا وهي هناك، وبيننا الماء والخبر والحجر ورمل الذاكرة…
هل يستعمل الكاتب سلطته المطلقة و يصدر أمراً مطاعاً يقضي بربط الحكاية بقزيبتها، أي يفرض على السارد إرجاع مياهه إلى مجاري ليلى، ويا دار ما خرج منك خير؟
– لا أظن المرء يحب مرتين.
* (قاص من طنجة)