نظرات في التصوف الإسلام عشقًا: فرضيّات عامّة في موضوع التصوّف 1

الحلّاج شخصية إشكالية قدمت ملحمة مأساوية تحيلنا لرؤية غياب العدل قبل المأساة وأثناءها، كما أنها تطرح فهما مغايرا في مسائل عديدة استعصت على الفهم التقليدي ـ الذي يأخذ بظاهر الأمور دون القدرة على النفاذ إلى سرهاـ في معادلة ظالمة تضع منْ لديه القدرة على الطيران في علياء المعرفة، بموازاة منْ لا يمكنه إلا أن يكون زاحفا، بل ترجّح الثاني على الأوّل.

1
لهذه المحاولة، رسالة هي إعادة الاعتبار إلى اللحظة الصوفية في الإسلام. وأنا أعلن سلفا أن هذه الإضاءة للتصوّف لم تكن غير انتقائية، بل لقد أهملت عامدة متعمّدة الجزء الأكثر بهرجة منه، أقصد أكثر ممارسات الفرق الصوفية بكرامات أوليائها وخزعبلات مشعوذيها… الخ، لتركّز على الجانب المعرفي من التصوّف، انطلاقا من الاعتقاد بأن هذا الجانب هو الجوهر الباقي منه بعد أن يتجاوز الزمن تلك الجوانب الممارساتية التي تنتمي كليّا إلى تقاليد ماض لم يعد يمتلك أية قدرة على مقاومة الحداثة، ويطوّر بعضها الآخر لتناسب عقلية أهل هذا العصر.
ولعل إضاءة هذه اللحظة الصوفية في الإسلام لا باعتبارها إحدى لحظاته فحسب، بل محطّته الروحية الكبرى، هو مهمّة لم يعد يمكن القعود عنها. لقد انقضى الزمان الذي كان يتجاور فيه التصوّف مع العلوم النقلية في أروقة الأزهر، بحيث يجد طالب العلم لا ما يحشو به عقله فحسب، بل ما يدفئ به روحه، ويملأ قلبه بالحب أيضا. فالآن يهيمن النقل على كل من العقل والقلب معا، بعد أن عاش ثلاثتهم صداقة بدأت منذ عهد الغزالي على الأقل.
إننا نعيش أياما اختصر فيها الدين إلى محاكم وقضاة، خارج نفوسنا وداخلها. وتحوّل رجاله إلى شرطة تقرر للناس كيف تأكل وتشرب، تنام وتقوم، تحب وتكره، تحكم وتُحْكَم…الخ. وما كان كذلك، لكننا قوم سريعو النسيان.
إنني أدعي أن التصوّف يتضمّن الأساس النظري لكل ما هو جوهري في أي دين على ظهر البسيطة. فمثلا الجوهري في الدين الذي يفرّقه عن الفلسفة هو أنه يركّز على عاطفية الإيمان والمعرفة الإيمانية، في حين تفهم الفلسفة نفسها على أنها عمل العقل المجرّد عن أي عاطفة. بل والذي يجعل العاطفة التي قد يحس بها هي نفسها موضوعا للرصد والتحليل، إن لم تكن عاملا من عوامل “خطأ القياس” بسبب تأثيرها على موضوعية البحث. والجوهري في الدين الذي يفرّقه عن السياسة هو التركيز على فردانية التجربة الدينية. في حين لا تهتم السياسة إلا بشؤون المجموعة وأشكال سلطتها وتنظيمها… وعلى هذا المنوال يمكن لنا نفرّق الدين عن الفن بأن الأول يدفع الروح إلى علاقة بآخر (المقدّس)، بينما الثاني يجعل الروح تخرج هي بنفسها إلى العلن، وإن كانت تتلبّس أشكالا أو ألوانا أو حركات أو أصواتا ونغمات. فإذا كان المطلق في الدين يستتر في الإنسان، فإنه في الفن ينبثق -بتعبير هيغل- من خلال أقنعة الحسي، وهكذا.. إن هذا النسق من التفكير يصل بنا إلى أن جوهر الدين هو “حركة الروح في نزوعها إلى التواصل مع المقدس”، وليس ذلك شيئا آخر غير ما قاله وفعله المتصوّفة الحقيقيّون، بتركيزهم على أن هدف المتصوّف هو الاتصال والوصول والوصال..الخ. غير أن هذا يعني أيضا أن التصوف يحتوي- في جوهره- الجوهري في الدين بما أنه كذلك. وستكون النتيجة المباشرة لهذا الاستنتاج هي أنه سيحتوي أيضا-واعيا لذلك أم غير واع- الجوهري في كافة الأديان، لا في الإسلام فحسب.
لكن هذا لا يمكن أن يبرز واضحا ما لم نقم بعملية “تنقية” للتصوّف من “شوائب” لا تنتمي لعالم الروح من قريب أو بعيد. إنها انتقائية قصدية، وهي عيب علمي لا شك فيه، ولعل عذره الوحيد هو الرجاء بأن يكون “الراسب” بعد هذه التنقية المضنية ذهبا صافيا لا خلائط جديدة-قديمة.
ولكن لعل الباحث في التصوّف لا يمكن إلا أن يكون انتقائيا، ليس فقط لأنه بشر وما كان للبشر إلا أن يكونوا انتقائيين، ولكن لأن المتصوفة أنفسهم كانوا يحيّرون بانتقائيتهم ربما بسبب مبدأ التقية الشهير، أو لأسباب أخرى خاصة بتجربتهم ذاتها. وبالمناسبة فمبدأ التقية المذكور لم يقتصر تطبيقه في يوم من الأيام على صائغيه أقصد منظّري الشيعة. فيكاد يكون كل من يسكن ديار الاستبداد “تقويّا”. غير أن انتقائية المتصوّفة تستند إلى سبب آخر غير الخوف الذي يكمن في أساس التقية. إنه “مخاطبة الناس على قدر عقولهم”، مما يستدعي “انتقاء” ما يناسب “العامة” وترك ما لا تستطيع فهمه للخاصّة. أخيرا فإن انتقائية الباحث -التي هي بحد ذاتها خطأ علمي لا شك فيه كما اعترفنا أعلاه – ليست بلا مبررات منطقية يمكن تلخيصها بحجتين. الحجة الأولى ترتكز على حقيقة وجود خطابين صوفيين أحدهما للخاصة والآخر للعامة، وهو ما ورد آنفا وما صرّح به أكثرهم. إن حقيقة وجود خطابين لتيّار فكري واحد تجعل من البحث في المشترك بينهما مهمّة شبه مستحيلة، ما لم ينطلق الباحث من فكرة موجّهة تفيد بأن جزءا من مادّة بحثه (أقوال المتصوّفة وأعمالهم) ليس إلا تشويشا على الجزء الآخر الذي يشكّل “الدال” الأكثر أصالة على جوهر الخطاب. أما الحجة الثانية فتستند إلى حقيقة الخلط الكبير في أقوال “الخاصة” نفسها، التي لا يمكن إلا أن تعني أن الثيولوجيا الصوفية تطوّرت مع الزمن وخلال مراحل تطوّرها تلك كانت تتبلور تارة في جوهر خالص لتعود تارة أخرى إلى “سبائك” فكرية يختلط فيها الباطن بالظاهر والحقيقة بالشريعة. ولهذا فلابد على من يهمّه استجلاء ذلك الجوهر أن يحاول تنقية “العناصر الدخيلة” في السبيكة الفكرية، وهو نوع من الانتقاء الإجباري. على من يقوم به أن يعتبره “خطأ قياس” في التجربة البحثية، وهي استعارة مأخوذة من طرق البحث في العلوم الطبيعية كما هو معروف.


الكاتب : حسين شاويش

  

بتاريخ : 17/06/2020