الحلّاج شخصية إشكالية قدمت ملحمة مأساوية تحيلنا لرؤية غياب العدل قبل المأساة وأثناءها، كما أنها تطرح فهما مغايرا في مسائل عديدة استعصت على الفهم التقليدي ـ الذي يأخذ بظاهر الأمور دون القدرة على النفاذ إلى سرهاـ في معادلة ظالمة تضع منْ لديه القدرة على الطيران في علياء المعرفة، بموازاة منْ لا يمكنه إلا أن يكون زاحفا، بل ترجّح الثاني على الأوّل.
7
وباعتبار أن طبيعة هذه العلاقة المباشرة بين المتدين والمقدس عند المتصوّفة هي الحب فلا بد أن نتصدّى لشرح هذه العاطفة وتحديد لا فقط مكانتها في الثيولوجيا الصوفية، بل وما تؤدي إليه هذه المكانة من توصيف ابستمولوجي جديد لطريق المعرفة الصوفي، حيث لا الإيمان ولا العقل هو الأساس الابستمولوجي للدين، بل العاطفة. ومن شأن هذه الأطروحة -إن ثبتت صحّتها- أن تعيد موضعة الدين في الخريطة الكوغنوطيقية (وليسمح لي القارئ باستعمال هذا المصطلح الذي يعني كل ما يتعلّق بالعمليات العقلية للجنس البشري) للبشر. قارن مثلا تلك الموضعة لدى كل من أوغست كومت وسيغموند فرويد. فمن المعروف أن الدين لدى الأول هو المرحلة الأقدم على الطريق الذي اتبعه البشر للوصول إلى حقائق، وهو طريق كانت مرحلته الأخيرة العلم الوضعي. كومت ينطلق من مسلمة ثبت في رأيي المتواضع خطؤها وهي أن التديّن يتبع طريقا ابستملوجيا عقليا محضا. ولو كان الأمر كذلك لاختفى الدين مع اقتناع الناس باكتشافات غاليليه ومن جاء بعده. أما بالنسبة لفرويد فتاريخ الدين لديه هو تاريخ عقدة أوديب الجمعية بما يرتبط بها من قتل الأب ثم تقديسه. وكان من شأن ذلك أن ينتهي بالمحللين النفسيين إلى نفي وجود الدين في المرحلة الما قبل أوديبية للجنس البشري (تكمن في قاعدة هذه الفرضية فكرة ان تطور المجتمعات يشبه تطور الأفراد)، وزواله لدى وعي العقدة الأوديبية وحلها.
ولعل مفهوم العاطفة نفسه يحتاج إلى توضيح ، وخاصة تلك التخوم التي تحدد الفرق بينه وبين “الشيء العاطفي” الذي يكمن في أساس الحياة الانفعالية الدافعية التي هي بنفسها ينبغي أن تكون مادة العمليات النفسية المؤدية في نهاية المطاف إلى قتل الأب ثم تقديسه وطقوس الطوطم وفرض التابوات المختلفة وكل هذا ينبغي أن يكون في أساس ظهور الأديان.
في بعض الفقرات من كتب فرويد يؤكد الرجل أن الحب لا يعرف حدودا وأن تلك الطاقة “أي اللبيدو” هي هي ما نرى آثار عملها في الحب الغريزي وحب الأم بل وحتى حب الأفكار المجرّدة..الخ. غير إنه لا يلبث ان يؤكد الصفة الجنسية لذلك “اللبيدو” العام وبكل أشكاله، وهنا بالذات يكمن الفرق الكبير بين ما نعنيه هنا بالعاطفة بشكلها الأكثر أهمية لموضوعنا أي الحب وما يعنيه التحليل الفرويدي. ومن المعروف من كثير من الدراسات أن فرويد كان من أشد اهتماماته العلمية إيجاد أساس فيزيولوجي للعمليات النفسية، ولا ننس إنه كان طبيبا في الأصل، أي إنه جاء إلى علم النفس من الباب الطبي والأطباء ينزعون بحكم المهنة إلى البحث في الجسد المادي عن أسباب كل ظواهر الحياة. كان ذلك على الأقل هو القاعدة في نهاية القرن التاسع العشر في أوربا، وهو الزمن الذي بدأ فيه فرويد أبحاثه النفسية.
ولكن ما هو الفرق الدقيق بين هاتين المقاربتين لعاطفة الحب؟ ولماذا لا يكون لكل أشكالها أساس واحد هو الأساس الغريزي؟
لا شك أن المقاربة الفرويدية شديدة الجاذبية بسبب بساطتها الشديدة والتي يبدو إنها كافية لتفسير كل شيء برزمة صغيرة من الفرضيات. لكن لعل هذا بالذات هو سبب عدم إقناعها ربما لأنها ترتدي بذلك ثوب الأيديولوجيا التي تصر على أنها صحيحة وقادرة، أو لأنها قادرة، على تفسير ظواهر الحياة كلها. ولكن هل سبب رفضي لها هو التجربة السيئة التي خاضتها البشرية منذ ذلك الزمن وحتى اليوم مع مختلف الأيديولوجيات؟ أم إن الأمر أبعد من ذلك؟
أعتقد أن تعقيد المسألة لا يتعلق بمفهوم اللبيدو فحسب، والذي هو مجرد فرضية طبعا لا يوجد عليها أي دليل مخبري أو تجريبي من أي نوع. إن المشكلة تكمن في طبيعة عاطفة الحب وخاصة بشكلها الديني والذي يجد ذروته في الحب الصوفي. إنه ظاهرة “انثروبولوجية” وهي بهذا المعنى ليست ظاهرة صراع نفسي فردي يجري على أرضية تعلّق إيروسي. الأمر يتعلق بفرد يريد أن يخرج من محدوديته المخيفة وذلك بالاتصال باللامحدود، وهذا بتعابير سلبية. إيجابيا يمكن للمرء ان يعبر عن تلك “العاطفة الانثرولوجية” بأننا أمام فرد يحس بعلاقة ما كعلاقة الاندماج مثلا أو الهجران أو إنه جزء من هذا الكل الكوني، وهو يؤنسن هذا الكل الكوني كما كان وما زال يجسّد أو يؤنسن أي شيء آخر، فيسمع صوته ويرى وجهه ويحس بعاطفته وإرادته..إنها إذن “الدافع الى الاتصال” وليس الحب ظاهراتيا إلا هذا الدافع السلوكي. لا شك أن لهذا الدافع العاطفي فوائد عملية كدفع الخوف مثلا، لأن الاتصال بالآخرين والإحساس بالوجود مع الجماعة الناجم عنه يؤدي إلى الشعور بالأمان. بل إن له وظائف اجتماعية نعرفها من خلال الدور الاجتماعي وحتى الاقتصادي للطقوس الدينية..الخ، وهذا كله معهود تماما في كل ما يدرسه الانثروبولوجيون من ظواهر السلوك البشري منذ ما قبل التاريخ.
ولكن ما هو الابستمولوجي في العاطفة؟ أي كيف تصبح العاطفة طريقا للمعرفة؟
هناك طرق مختلفة للإجابة عن هذا السؤال. واحدة منها تستحق برأيي المتواضع الصفة العلمية وهي الطريقة التجريبية. أي بالسؤال عن الكيفية التي تتلاحق بها مجريات العملية العاطفية لدى الكائن البشري تجريبيا؟ ويمكن فهم المسألة بمقارنة تلك الطريقة بالطريق العلمي التجريبي، سواء أكان علما ماديا تطبيقيا أم تاريخيا، وهو الطريق الذي يؤدي بالانسان إلى الإحساس بأنه “يعرف” حقيقة شيء ما بعد أن يحلل مكوناته وتأثيراته المختلفة في مخبر، ويشبهه في حقل التاريخ عمل العالم الذي يحس أنه “يعرف” حقيقة تاريخية ما بتحليل الوثائق والآثار المتعلقة بموضوع ما، ثم إعادة تركيبها بشكل قابل للفهم ومتناسب مع طبيعة المرحلة التاريخية المدروسة.. إذن في الطريق العلمي التجريبي تبدأ المعرفة من “مادة ما” تطبّق عليها طرق للتحليل والدراسة لينتهي الباحث إلى “الإحساس بأنه عرف” أو قارب المعرفة بدرجة ما من درجات الخطأ قابلة بذاتها للقياس. أما “المعرفة العاطفية” فتبدأ بالضبط من ذلك الإحساس، ولكنه ليس إحساسا بالمعرفة ولكنّه إحساس بدافع معين هو بتحليله الأخير “دافع اجتماعي” يجعل المرء محبا أو كارها أو خائفا لموضوع ما لعاطفته. وهذا يترجم معرفيا بمجموعة من الصفات لهذه المواضيع وسلوكيا بمحاولات الوصول إليها أو الهرب منها أو القرف،… الخ. إن المرء يحس بأنه “يعرف” أن موضوع عاطفته موجود هناك، وله مواصفات معيّنه تتأثر عادة بطبيعة العاطفة إياها.
وهذا بالذات ما يحدث في العملية الإيمانية التي يبدأ بها كل تديّن. حيث موضوع العملية العاطفية هو المقدس. وهنا نميّز بين عاطفتين أساسيّتين: الأولى هي الحب وهي العاطفة الأساسية في التصوف والثانية هي الخوف وهي العاطفة الأساسية في التديّن العادي. فالمتدين من غير المتصوفة لا يدفعه إلى الممارسة الدينية إلا الخوف من الحساب.ولذلك فهو يقوم بشكل عام بأداء الفرائض، أي ما لا بد من القيام به للنجاة من العقوبة يوم الحساب. فإذا زاد على ذلك فبدافع ليس أكثر نبلا، أقصد دافع الطمع بالأجر، أو بنيل حسنات “يذهبن السيئات”. إنه المبدأ نفسه، مبدأ الثواب والعقاب الذي تكمن في أساسه عاطفة واحدة هي عاطفة الخوف. أما ما يدفع المتصوف إلى التديّن فهو “الرغبة في اعتناق العروة الوثقى. فيتحرّك سيره إلى القدس، لينال من روح الاتصال” بكلمات ابن سينا. أي إنه يبدأ من الرغبة لا من الرهبة. من الحب لا من الخوف. إنه يريد الوصول إلى حبيب لا الهروب من عقاب ما.
إن انطلاق الدافع الديني من عاطفة الحب بدلا عن عاطفة الخوف من شانه أن يفتح الباب إلى دين خال من العنف. إذ أن الخوف يكمن في أصل كل عنف. ليست هذه نتيجة الأبحاث النفسية فحسب، بل نتيجة استقراء التاريخ أيضا.