نظرات في التصوف الإسلام عشقًا: فرضيّات عامّة في موضوع التصوّف 5-

الحلّاج شخصية إشكالية قدمت ملحمة مأساوية تحيلنا لرؤية غياب العدل قبل المأساة وأثناءها، كما أنها تطرح فهما مغايرا في مسائل عديدة استعصت على الفهم التقليدي ـ الذي يأخذ بظاهر الأمور دون القدرة على النفاذ إلى سرهاـ في معادلة ظالمة تضع منْ لديه القدرة على الطيران في علياء المعرفة، بموازاة منْ لا يمكنه إلا أن يكون زاحفا، بل ترجّح الثاني على الأوّل.

 

– ما هو الابستمولوجي في العاطفة؟ أي كيف تصبح العاطفة طريقا للمعرفة؟
– هناك طرق مختلفة للإجابة عن هذا السؤال. واحدة منها تستحق برأيي المتواضع الصفة العلمية وهي الطريقة التجريبية. أي بالسؤال عن الكيفية التي تتلاحق بها مجريات العملية العاطفية لدى الكائن البشري تجريبيا؟ ويمكن فهم المسألة بمقارنة تلك الطريقة بالطريق العلمي التجريبي، سواء أكان علما ماديا تطبيقيا أم تاريخيا، وهو الطريق الذي يؤدي بالانسان إلى الإحساس بأنه “يعرف” حقيقة شيء ما بعد أن يحلل مكوناته وتأثيراته المختلفة في مخبر، ويشبهه في حقل التاريخ عمل العالم الذي يحس أنه “يعرف” حقيقة تاريخية ما بتحليل الوثائق والآثار المتعلقة بموضوع ما، ثم إعادة تركيبها بشكل قابل للفهم ومتناسب مع طبيعة المرحلة التاريخية المدروسة.. إذن في الطريق العلمي التجريبي تبدأ المعرفة من “مادة ما” تطبّق عليها طرق للتحليل والدراسة لينتهي الباحث إلى “الإحساس بأنه عرف” أو قارب المعرفة بدرجة ما من درجات الخطأ قابلة بذاتها للقياس. أما “المعرفة العاطفية” فتبدأ بالضبط من ذلك الإحساس، ولكنه ليس إحساسا بالمعرفة ولكنّه إحساس بدافع معين هو بتحليله الأخير “دافع اجتماعي” يجعل المرء محبا أو كارها أو خائفا لموضوع ما لعاطفته. وهذا يترجم معرفيا بمجموعة من الصفات لهذه المواضيع وسلوكيا بمحاولات الوصول إليها أو الهرب منها أو القرف، …الخ. إن المرء يحس بأنه “يعرف” أن موضوع عاطفته موجود هناك، وله مواصفات معيّنه تتأثر عادة بطبيعة العاطفة إياها.
وهذا بالذات ما يحدث في العملية الإيمانية التي يبدأ بها كل تديّن. حيث موضوع العملية العاطفية هو المقدس. وهنا نميّز بين عاطفتين أساسيّتين: الأولى هي الحب وهي العاطفة الأساسية في التصوف والثانية هي الخوف وهي العاطفة الأساسية في التديّن العادي. فالمتدين من غير المتصوفة لا يدفعه إلى الممارسة الدينية إلا الخوف من الحساب.ولذلك فهو يقوم بشكل عام بأداء الفرائض، أي ما لا بد من القيام به للنجاة من العقوبة يوم الحساب. فإذا زاد على ذلك فبدافع ليس أكثر نبلا، أقصد دافع الطمع بالأجر، أو بنيل حسنات “يذهبن السيئات”. إنه المبدأ نفسه، مبدأ الثواب والعقاب الذي تكمن في أساسه عاطفة واحدة هي عاطفة الخوف. أما ما يدفع المتصوف إلى التديّن فهو “الرغبة في اعتناق العروة الوثقى. فيتحرّك سيره إلى القدس، لينال من روح الاتصال” بكلمات ابن سينا. أي إنه يبدأ من الرغبة لا من الرهبة. من الحب لا من الخوف. إنه يريد الوصول إلى حبيب لا الهروب من عقاب ما.
إن انطلاق الدافع الديني من عاطفة الحب بدلا عن عاطفة الخوف من شانه أن يفتح الباب إلى دين خال من العنف. إذ أن الخوف يكمن في أصل كل عنف. ليست هذه نتيجة الأبحاث النفسية فحسب، بل نتيجة استقراء التاريخ أيضا.
8
تختلف أسباب الهجوم على التصوف. بعضها جاء من داخل المعسكر الديني، وبعضها الآخر من معسكر “العقلانية”. هاكم مثالين متطرفين. النقد الوهابي ونقد محمد عابد الجابري.تستند الوهابية في هجومها على فهم معين لكن من الدوغما (مفهوم التوحيد) والممارسة الدينية (مفهوم البدع)، ولا شك في التعارض الجذري بين هذا الفهم وما يقوله ويفعله المتصوّفة، والوهابيون أصرّوا لأسباب تاريخية سياسية معروفة ألا يتركوا لأنفسهم هامشا للتسامح مؤصلين لذلك في عقيدتهم المتعصّبة للحرفية النصّية ذات الاتجاه التطهّري ذي السمة القهرية الفسرية بتعابير علم النفس، أما الجابري فمشكلته أنه سجن نفسه في ابستمولوجيا ثلاثية لا تتّسع لرصد خصوصيات التجربة الصوفية باستبعادها البعد العاطفي لما سمّيناه في هذه الدراسة “التجريبية الشخصانية”. .

9
سنتعرّض لظاهرة الشيخ والمريد في ثنايا الكتاب. لكنني أود هنا أن أشير إلى حقيقة أن طغيان شكل الممارسة الشائعة (طريقة صوفية يقودها شيخ له مريدون وخلفاء…) وشمولها إلى درجة القاعدة الواقعية لم يستطع أن ينال من الاعتراف بشرعية بل وباستحسان ممارسة الاتصال الفردي بالمقدّس بسبب استناده إلى القاعدة النظرية-الثيولوجية للتصوف بما أنه كذلك. الأمثلة على هذا الاعتراف كثيرة، لعلّ أوضحها هو احترام “المجاذيب”، وهم مجموعة من “المبروكين”، أي حائزي البركة، والبركة هي كل ما لا يمكن قياسه، أو بمعنى آخر كل ما خرج عن المادّي الملموس (حتى ولو كان سببا لخيرات ملموسة)، إنها بكلمات أخرى فيض المقدّس. أحد أكبر شيوخ التصوّف في السودان الشيخ محمد بن عبد الكريم القرشي المدني المشهور السماني يلخص نظريته الثيولوجية بالشكل التالي: إن الرسول موجود بشكل نور في الحضرة الأحدية قبل خلق آدم وما يزال. ولا يصل إلى الحقيقة المحمدية والتصورات الأحمدية إلا بعد خوض بحر المحبّة؛ وهذا يتم بأمرين أولهما اتباع الشريعة والثاني “معرفة ما هو اللائق”، وهذا بدوره إما أن يدل عليه شيخ مرشد أو بواسطة جناب إلهي كاشف له عن ذلك. ويبرر ضرورة الشيخ المرشد بالطريقة التالية: “وليس لنا مع المجذوب كلام، فلا بد من معرفة الشيخ الذي يوصل إلى الله.” إذن فإما أن يسلك المريد طريق المجذوب من بدايته دون إرشاد، أو أن يوفّر على نفسه العناء ويأخذ الطريقة جاهزة من شيخ مرشد. انظر “الأدب الصوفي السوداني” للدكتور الطاهر محمد على البشير، الدار السودانية، ط1، 1390هجرية، 1970ميلادية. وهذه الخلاصة أوردها المؤلف في الصفحتين 46 و47، أما الاستنتاجات فهي من عندي.


الكاتب : حسين شاويش

  

بتاريخ : 22/06/2020