لا يمكن اليوم مقاربة إشكالية تراجع القراءة الورقية لصالح القراءة الرقمية دون التطرق إلى سؤال المقروئية في إطاره العام خاصة في بلادنا، حيث يواجه رهان النهوض بالقراءة عدة إكراهات تجعل جميع المبادرات التي انخرطت في هذا الرهان محدودة الأثر، خاصة في ظل المد الرقمي والثورة المعلوماتية التي أحدثت تغييرا شاملا على مستوى أدوات القراءة والتلقي. فأين يكمن الخلل إذن في القارئ أم في المقروء؟ وهل يمكن ربط القراءة فقط بالحامل الورقي ؟ وهل يتم هذا الانتقال على مستوى السند فحسب أم يهم انتقالا آخر يتم من زمن الوقع إلى زمن الافتراض؟ وهل يمكن اليوم الحديث عن أدب رقمي بالمعايير المتعارف عليها؟
تلكم بعض الأسئلة التي حاولت ندوة»التحولات القرائية من الكتاب الورقي إلى الكتاب الإلكتروني: رهانات وآفاق» الإجابة عنها ومقاربتها، والتي نظمتها جمعية شتلة للثقافة والفنون والمركز الثقافي كمال الزبدي بابن مسيك، يوم السبت 7 ماي الجاري، وعرفت مشاركة كل من الناقد ورائد البحث الأكاديمي في مجال الأدب الرقمي الأستاذ سعيد يقطين والباحث الدكتور إبراهيم أزوغ والصحافية والشاعرة حفيظة الفارسي، والتي أدارتها باقتدار الشاعرة والقاصة ورئيسة جمعية شتلة للثقافة والفنون كريمة دلياس.
لفت الناقد المغربي والباحث في مجال السرديات العربية القديمة، ورائد البحث في الـأدب الرقمي،سعيد يقطين، وهو يقارب موضوع التحولات القرائية اليوم وما طرأ على القراءة من تحولات بسبب الانتقال من الورقي إلى الرقمي، الى أن القراءة سابقا، كانت عمودية وخطية، تتطلب من القارئ، لكي يتفاعل مع أي نص أن يقرأه من البداية إلى النهاية، وأن يتوقف بين الفينة والأخرى، أمام جملة، أو فقرة، معيدا القراءة، ليتمكن من فك شيفرة ما يختزنه النص، أو يضمره، أو أنه يؤشر أو يكتب على هامش النص ملاحظات، في حين أن القراءة الأفقية التي يفرضها الوسيط الرقمي هي قراءة مختلفة تجعل المتلقي ينتقل بين العُقد التي يقدمها له النص المترابط، أو قد يظل تائها حتى يغلق النص الذي يتفاعل معه. وأشار يقطين إلى أن التفاعل مختلف بين القراءتين العمودية والأفقية، لأن لكل نص شروطه وإكراهاته. ولا يمكن للمتلقي أن يتفاعل بصورة إيجابية مع أي نص ما لم يكن قد اكتسب عادات قرائية تتلاءم مع النص المتفاعل معه. وعلى هذا الأساس نبه الى أنه لا يمكننا هنا أن نفاضل بين الورقي الذي يقوم على أساس الخطية، والرقمي الذي يتميز بطابعه الترابطي لأن لكل منهما خصوصيته التي تتلاءم مع الوسيط الموظف في إنتاج النص وتلقيه.
وأشار سعيد يقطين الى أن التفاعل مع المقروء الرقمي لا يتحقق إلا بتطوير علاقتنا بالوسيط الجديد.
واعتبر الناقد سعيد يقطين في مداخلته التي عنونها بـ» العصر الرقمي والقراءة التفاعلية» أن القراءة عملية جوانية يعوض بها القارئ الجانب الناقص فيه بالتفاعل مع إنتاجات الآخرين عبر الاحتكاك بالثقافات الأخرى والنصوص التي أنتجتها البشرية، لافتا إلى أن التكنولوجيا اليوم، تقدم لنا وسيطا جديدا يمكننا من التفاعل مع الآخر عبر ما يطلق عليه بـ»الكتاب الرقمي»، وهو ما ولد لدى البعض مواقف متضاربة من هذا الكتاب بين مؤيد ومعارض، مؤكدا أن هذا الوسيط أصبحت له جاذبيته بين القراء دون أن نغفل إكراهاته أيضا.
ونبه يقطين الى أن أيا من الوسائط التي ظهرت من قبل لم تلغ ما قبلها بل على العكس مارست دورها في التواصل، فالشفاهة رغم ظهور الكتابة والطباعة مازالت مستمرة لأن الإنسان يظل في حاجة الى كل هذه الوسائط، التي يأخذ الجديدُ منها أهم ما في القديم لتوظيفه وتكييفه مع الفضاء الجديد الذي يتجسد فيه.
يقطين الذي يؤمن بأن العصر الرقمي وفر ما لم يكن بالإمكان توفيره من نصوص مكتوبة ومرئية وسمعية، يرى أن المعرفة لا تتحقق بالمكتوب فقط بل بكل الفنون التي أنتجتها البشرية من سينما وموسيقى ورسم ونصوص مكتوبة، وهي المعرفة التي لا يمكن أن تتحقق بدون التوصل إلى الإجابة عن أسئلة من قبيل: ماذا نقرأ وكيف نقرأ وكيف نستفيد مما نقرأه ؟ وهي من صميم الأسئلة التي تطرحها اليوم التحولات القرائية التي يجب التمييز فيها بين القارئ الذي يغوص في النصوص وغيره الذي يكتفي بالتزحلق على السطح، وكيف يمكننا تكوين قارئ يجمع بين الاثنين، يقرأ النص الواحد كل مرة بطريقة جديدة ووعي جديد ورؤية لا تكتفي بالتلقي فقط لكن بالتفاعل أيضا.
من جهته، تناول الناقد والباحث المغربي إبراهيم أزوغ في مداخلته المعنونة بـ «رقمنة الكتاب باعتبارها حاجة وضرورة»، مسألة التحول من الكتاب الورقي إلى الإلكتروني، منطلقا من مسلمة كون القراءة حاجة إنسانية اجتماعية وحضارية، مما يجعل الخوف ورهاب فقدان الكتاب الورقي السائد في مجتمعاتنا غير مفهوم، مؤكدا على أن عدم الانخراط في رقمنة كل مجالات الحياة الإنسانية بما فيها المعرفة، من شأنه أن يزيد من الفجوة الزمنية والمعرفية التي تفصلنا عن الأمم والحضارات المتقدمة وأن ذلك يزيد من فصلنا عن العام. وأضاف أزوغ أن ما نعتبره اليوم رقمنة للكتاب في مؤسساتنا هو مجرد صور للورقي لأنه مازالت تفصلنا عن الرقمي بمعناه الحقيقي الذي تحتكم إليه المجلات العلمية المرقمنة في العالم، اجتهادات وجهود فردية وجماعية. وأكد الباحث أن الرقمي هو ما يمكنه في المستقبل أن يوقف سيل الرديء من المنشورات والمسروق والمنتحل، وتوحيد صيغ النشر وقوانينه وحفظ حقوق الناشر والكاتب، وأن يحل مشاكل التوزيع للكتاب في العالم، وفي العالم العربي على وجه الخصوص ، ليخلص الباحث في مداخلته إلى التأكيد على أنه في الوقت الذي تبذل فيه أمم ودول كثيرة جهودا واجتهادات في سبيل تعليم الباحثين والمدرسين والتلاميذ والطلبة، استعمال الرقمي ورقمنة المعرفة، ننشر نحن أفكار ترهب الأطفال وترعب وأوليائهم من التكنولوجيا، في الوقت الذي علينا أن نجتهد في تعليم الناشئة استعمال التكنولوجيا في المدارس والتوعية بضرورة تقنين وترشيد استعمالها في البيت والأماكن العامة.
في ورقتها «القراءة: الرابح الأكبر»، تطرقت الصحافية ورئيسة القسم الثقافي بجريدة «الاتحاد الاشتراكي» حفيظة الفارسي، في مقاربتها لموضوع الندوة ، إلى أن التحولات التكنولوجية المتسارعة فرضت اليوم نقل النقاش الدائر حول أزمة القراءة إلى مستوى ثان يتعلق بالصراع الصحي والضروري بين الحامل الورقي والالكتروني، أي الانتقال من السند الورقي إلى الكتاب الالكتروني ، حيث أصبحنا أمام من يقول – أمام ما يقدمه هذا الوافد الجديد من إمكانات – بموت الكتاب الورقي لصالح الكتاب الالكتروني، وهنا يمكن ان نطرح السؤال: إلى أي حد تستقيم هذه المقارنة والمقاربة؟
ولفتت المتدخلة الى أن الإنسانية في تاريخها الطويل ابتكرت العديد من الوسائط وبالتالي أشكالا جديدة من التلقي دون أن يلغي الجديد منها القديم حتى قبل اختراع الطباعة، مستدلة على ذلك بتعايش الكتابة مع الثقافة الشفهية دون أن تلغيها، مشيرة الى أن الرقمي سيتعايش مع المكتوب دون ان يلغي أحدهما الآخر لأن المطلوب اليوم ليس تأجيج الصراع بين مؤيدي الحامل القديم ومعارضيه بقدر ما يتطلب الأمر الارتقاء بفعل القراءة للانتقال من مستوى معرفي وثقافي الى مستوى أعمق للتفاعل مع ما راكمته البشرية من معارف لأن تعدد الوسائط وتطورها عبر التاريخ ، أيا كانت طبيعتها سمعية، بصرية، قرائية، هو ما يساهم في الارتقاء بالوعي الجماعي. المهم هو تربية جميع حواسنا على طريقة تلقي المقروء والتفاعل معه والوصول الى مستوى نقده وهذا التلقي يبقى هو صمام الأمان لمواجهة هذا المد الهائل من المعلومات الذي تطرحه الثورة المعلوماتية التي لا تني تتوقف، وهو ما يستوجب أن نجعل من القراءة، أيا كان حاملها ورقيا أو إلكترونيا، طقسا يوميا يتم التأسيس له في سن مبكرة، وهي مسؤولية جماعية تتداخل فيها أداور المدرسة والأسرة والمحيط والجهات المنتخبة والمؤسسات الاقتصادية والفضاءات الثقافية، انطلاقا من سياسة ثقافية تضع نصب أعينها مهمة صناعة الإنسان الواعي والمتملك لكل أسباب التقدم.
الجمهور الذي حضر اللقاء، والذي جمع كل الأجيال من مهتمين بالشأن الثقافي وكتاب، بالإضافة الى طلبة كلية الآداب ابن مسيك والحضور المتميز للتلاميذ أعضاء نادي القراءة بالثانوية الإعدادية ابن حزم، أضفى على اللقاء بعدا تفاعليا تقاطعت تدخلاته بين المتخوف من هذا الوافد الرقمي الجديد وبين المؤمن بتكاملية الحوامل الرقمية والورقية، إلا أن حب القراءة المتجذر في روح التلاميذ الذين حضروا اللقاء يضخ نفسا جديدا وأملا كبيرا في أن جيل القراءة لن يفلت المشعل من يديه، سالكا نحو المعرفة التي تنير طريق المستقبل.