نعمة المحو والنسيان في الشعر والأدب

اِنْسَ ما علِمْتَ
وامْحُ ما كتبْتَ
محيي الدين بن عربي

الذاكرة والشعر، الشعر والذاكرة.. هل للترتيب أهمية زمنية أو مُزَمَّنَة، ودلالة منطقية، وبُعْدٌ أَجْروميّ؟ هل له معنى نفسي وأنطولوجي معا؟
وإذا كان الأمر كذلك، فما الأسبق، إذاً؟، الشعر بوصفه تعبيرا وجدانيا، وفورة شعورية ناطقة ومنطوقة أو مكتوبة، انفعالا بالوجود، وحياة لغوية متوثبة؟ أم الذاكرة باعتبارها آلة وواسطة فسيولوجية وعصبية ونفسية، ترتبط بالحدث والواقع، بما جرى واختفى، وتوارى، أي بما يعتبر موضوعا تَوَسُّطِيًا.
لا اشتغال ولا عمل إلا بموضوعَ، وعن موضوع، وفي موضوع، ومن ثمة كان الشعر هذا الموضوعَ، وكانت الكتابة بعامة، هذه الوساطةَ والكينونةَ المتقدةَ، ما يعني اللغة كمسكن وجودي، وأنطولوجيا قبلية، ومُحايثة، وَبَعْدِية، تصنع الإنسان، تُسَوِّيه، وتميزه ككائن عُلْوي، ومخلوق خالق، يتأرجح بين الحضور والغياب، بين الواقع والخيال والوهم، بين الماضي والحاضر، بين التذكر والنسيان، بين الوجود والعدم، وبين الإِنّيّة والإسمية والصفة والكينونة. وعليه، يكون الشعر/ الكتابة كما الواقع المادي، والمحسوس الفيزيائي، سابقا، وتكون الذاكرة ملحقة وَجَائِيةً. زِدْ على ذلك مسألة الذاكرة الشعرية، وشعر الذاكرة، بما يقود إلى الكلام عن المذخور، والمخزون والأرشفة، والحفظ، والمحفوظ.. إلى غير ذلك، إلى الذهنية التراثية بوصفها علامة لغوية، وأثرا سيميائيا، وذاكرة كينونية، وتنميطا، واسترجاعا، واجترارا، واحتفاء بالسلف، والإقامة في عمارته أو خيمته، تحت وارف ظله، ومرآته العملاقة.
وتِبْعاً لذلك، فإن الأمر يتعلق بالذاكرة الوثّابة، الذاكرة الوقّادة، الذاكرة النقيض للذاكرة الميتة الملأى المنتفخة بقش الماضي: Stuffed Memory. إنها الذاكرة المضادة التي تعقد حِلْفا مقدسا مع العصيان والتمرد لإزاحة «تشيروبْ» الملاك الطاغي كما صوره سِفْر «حزَقْيال»، وتَنْسُجُ رفقة متينة، وصحبة وطيدة مع النسيان، بما هو لا نقطةً، لا ارتكازا، لا منطلقا متعينا في الزَّمَكان، بل امتدادا للغياب الغني العاتي، والحضور الطاغي في آن، لبنية مخترقة، بنية بانية هادمة لها الظلال شناشيل مستطيلات، والبياض الفادح تموجات، والإبداع سِفْراً في المحدود والممدود والمطلق، وعشا دافئا يحتضن مُزْنَ النمل، أي مزن الكلمات، وهي تمتطي المركب النشوان، وتتوشح برداء البهلوان الزاهي، وهو يتلاعب بعشرات الكرات الزجاجية الملونة باليدين، صعودا وهبوطا، علوا وانحدارا، فيما اليد الثالثة تُهَنْدِسَ المشهد جَمِيعَه، وتبهر الشاهد والرائي، وفي مجالنا: المتلقي- المُسْتَقْبِل والقارئ.
الشعر الذي لا يُوهِمُ بالبدء الدائم، والانكتاب المتواصل في الصمت والعزلة، والذاكرة المتوهجة المنقلبة على الذاكرة المسطحة والاعتيادية، شعر لاَ يُعَوَّلُ عليه. تلك الذاكرة هي –إذًا- ذاكرة للنسيان إنْ على مستوى التركيب اللغوي الجديد المستجد، وبناء المعنى، أو على مستوى الرؤية المنفصلة – المتصلة في توتر عجيب لا يَنِي يشد ويرخي، يجذب، ويجبذ، رؤية تهشيم وتشييد، تعتيم وتَضْوِيء، بها ينفتح الشعر – الكتابة الإبداعية على الغمر، وهي توقع بالجسد نشيد الآتي، ونداء المستقبل.
وليس في مُكْنةِ هذا التوقيع أن يرتفع بالنشيد ما لم يُشَّغِلْ الممحاة الوجودية، الممحاة النفسية فيما يُكْتَبُ وَيَنْكَتِبُ. المحو هو مكمن الإبداع، و»موتيفْ» هدم البالي، وتقويض المكرور المعاد. وليس من سبيل إلى ذلك غير الانخراط في المعاناة الفردية والكونية، وإصاخة السمع، وإرهافه إلى دبيب الخسارات التي تَتْرى، والتي تملأ جنبات المعمورة بُثورًا وَدَمَامِلَ. فالمحو –بهذا المعنى- هو طريق إلى الإيناع والإزهار والانشراح.
والكتابة كشكل من أشكال الإبداع، وضروب الخلق والتصيير، هي سؤال المسافة، تتشيد في المسافة المطلوبة والمرغوبة والمفترضة، تلك المسافة التي تبقى وتستمر من أجل العثور على الكلمات «الأمثل»، الكلمات التي تبني مجرى جديدا، وتحقق مسيرا مختلفا، وأفقا مغايرا.
هل يكون النسيان الذي هو سمة كل إبداع حقيقي هو ما عناه الشاعر «ستيفانْ مالارْمِي» من وراء قوله أو طموحه في إنجاز «الكتاب»، «الكتاب» هكذا بأل التعريف الفخمة، بأل الملكية Majescule.
وللإشارة فقد عمل «مَالاَرْمِي» طيلة حياته الشعرية، من أجل أن يصل إلى كتابة «الكتاب». «مالاَرْمي» الذي يقول عنه «رُولاَنْ بارت» متحدثا عن تجربته الشعرية: «لا ريب أن «مالارمي» هو أول من رأَى وتنبأ في فرنسا، بضرورة إحلال اللغة نفسها مكان ذاك الذي اعتبر –إلى الآن- مالكا لها. فالكتابة عند «مالاَرْمي» هي بلوغ هذه النقطة التي تتحرك فيها اللغة وحدها، وتنجز القول، وليس أنا». Eric Benoit = MALLARME et le sujet absolu.
اقتراف النسيان في الكتابة، تحقيقه في المنجز النصي لا يتأتى إلا بدخول مشيمة العزلة منشرحا. فالعزلة شرط ضروري للكتابة فيما يقول «موريسْ بلاَنْشو»، ولا علاقة لهذه العزلة المذكورة والمتوخاة، بالعزلة عن الناس، والزهد في الحياة والمعاش. بل هي اللحظة المشتهاة التي تحف بها الغواية والفتنة، وخطورة الانقذاف في الغياب.
ينتقل الشاعر وهو يكتب، من زمن إلى زمن، من زمن فيزيائي بيولوجي نفسي واع، إلى زمن إبداعي صرف. هذا الزمن الذي ينغمس فيه الشاعر كاتبا، يصبح لاَ زمنيا ما يعني يتوقف هنيهاتٍ لحظةَ الكتابة.. تقف العقارب، يتعطل البندول، ويضرب البياض الهائل سياجا حول الكاتب، ويعم الصمت. في هذا الصمت الذي هو قرين النسيان، ينبثق الشعر، يتَبجَّسُ الإبداع، وتولد الكتابة ضدا على الموت الذي لازم المؤلف قبل حين، زمنا غير معلوم، زمنا انطفأ –كما أسلفنا- في العزلة والصمت والبياض.
وبالمقابل يحضر الغير، يحضر الآخر، كائنات وعوالم وأشياء بطريقة مخصوصة، تحضر مُعَمَّدةً بظلال الصمت، وحبر الدم الأخضر. ووحدها اللغة ما يكشف عن كيفيات هذا الحضور.
«للنسيان فاعلية في وجود ثقافة حديثة، أساسها التحرر من استبداد الذاكرة، بما فيها الماضي، وهيمنتها على إنتاج معنى غير مسبوق. وكل مطلع على الثقافة العربية القديمة، يدرك ما كان لشعرية النسيان من فعل في اختراع الشعر المحدث، وما أولته الكتابة الصوفية من عناية بالنسيان في بناء خطابها». [محمد بنيس – من مقدمة لكتاب «النسيان» لبرنارْ نُوَيلْ]
يقول الشاعر «بِرْنار نويل»، في كتابه: «كتاب النسيان» :
لا تفضي الذاكرة إلى البعيد، أما النسيان فيقود إلى الأبعد، نحو مكان هناك هو بدوره ما يأتي.
تنْأَى الذاكرة عن التجربة، بل تتخيلها.. لا نبدع بالذاكرة، بل بالنسيان.
البقاء الوحيد على قيد الحياة يوجد في النسيان،
لكن الكتابة؟
الكتابة هي تجربة النسيان..
لا أفهم ..
إذًا، اُكْتبْ
في سياق آخر، سياق مُصَاقِب، بمعنىً ما، يقول أدونيس: «أحمل هاويتي، وأمشي، أطمس الدروب التي تتناهى، أفتح الدروب الطويلة كالهواء والتراب، خالقا من خطواتي أعداء لي، أعداء في مستواي. وسادتي الهاوية، والخرائب شفيعتي، إنني الموتُ حقا» (أغاني مهيار الدمشقي).
ولا يعني عطل الذاكرة، أو تعطيلها –بالحَري- واستنفار الحواس المتوفزة والحدوس، مبادهة الكتابة التي يحتفي بها النسيان، بتوقيع الجديد المثال غير المحتذى، غير المسبوق، وغير المطروق. ففي كل الأحوال، يظل أثر الماضين قائما، مندسا في التلافيف والتلابيب، والأنسجة، وتنتصب السرقة الأدبية «البيضاء» مثلما «الكذبة البيضاء» معيارا على الذكاء والألمعية، والجسارة اللذيذة. إذ أن الشاعر الجيد – كما يقول «إليوت» يسرق، بينما الشاعر الرديء يستعير صوت الآخرين، ويُبَوِّقُ به فيما يكتب حتى ولو حاول جاهدا إخفاء ذلك.
التأثر ضرورة لا مناص منها –حسب هَارُولْدْ بْلُومَ-، والبارع من يعرف كيف يخفي مصادره ببعثرتها، وهضمها، وتشكيلها، وإنشائها خلقا جديدا.
هذا الإخفاء الذي عُدَّ من قِبَلِ النقاد والباحثين عيبًا و»لصوصية» بمعنى من المعاني، – ولنا في ما أورده كاظم جهاد بخصوص أدونيس- معتمدا على اطروحة الشاعر التونسي منصف الوهايبي- المثال الأسطع على ذلك، لم يكن كذلك (أي الإخفاء)- للمفارقة- في ناظر القدماء الذين نصُّوا على الإخفاء وتقريظه: «فجمالية المعاني المستعارة، تكمن في نظر ابن طباطبا في «تلبيسها حتى تخفى على نقادها، والبصراء بها». وهذا ما سار فيه ابن رشيق، وابن الأثير الذي يقول في باب السرقات : «الأصل المعتمد في هذا الباب، التورية، والإخفاء». فاستفادة اللاحق من السابق يجب أن تكون «أكتم». ومن عَجبٍ أن يكون «التكتم» الشعري هذا، محور كتاب «هارُولْد بْلومْ» الهام الذي وَسَمُه بـ «قلق التأثر»، وخصصه للشعرية الأنجلو-أمريكية. ومن ثم، فالإخفاء في الشعر، يُسْهِم في تحقيق نصيته أي شعريته.
فالإخفاء ما يختفي، ما ينحجب، ما يتوارى، لا ما يتلاشى، لِيُتْلِعَ الرأسَ آنَ يناديه سياقٌ أو تستدعيه حالة ٌعارضة طارئة، والنسيان كذلك.
فما ننساه لا يتلاشى، لا يتبخر بالمرة، ويموت، بل يظل «هناك»، في منقطة ما من الجسد، في اللاشعور، في اللاعي، في الذاكرة، في الدماغ، أو في الفص اليمين، أو اليسار… الخ. ما ننساه هو أُسُّ الإبداع والخلق، أس الجديد، ومِدْمَاكُ الكتابة الانبثاقية التي تفجؤ الشاعر / الكاتب نفسه.
إن العمل الفني – بحسب ريلْكه- يكون جيدا حين تلده الضرورة، وينشأ من معاناة، أي حين يتربص به النسيان، وتدعو إليه الحالة النفسية، بعيدا عن ضغط الذاكرة المشحونة بأطياف الماضي، وغبار العابرين.
في المنجز الشعري المغربي المعاصر، في بعضه بالأحرى، اختيار واختبار وتمرين لغوي قاسٍ وماتعٌ، تمرين استغواري أنطولوجي أنَوِي لأنظمة المعنى في هذه اللغة التي تتشح وتتوشح بوجع السهر،، واحمرار العينين، ونجم السُّرى في ديجور النفس البشرية، وظلمة القيعان السميكة. إنها الأنظمة اللسانية النفسية، الوجودية، الظاهرة الباطنة الحيية، الميتة، الخفية، المتجلية التي تسائل تجربة الوجود والعدم : تجربة التذكر بما هو تشغيل وتهييج للذاكرة، والصورة القصية، وتجربة مقيمة في الصمت تَحتفي بالنسيان، وتهلل للصمت والعزلة الملكية، ولا مكان لقتل الأب في هذا النسيان، إذ أن من لا أبا له عليه أن يخترعه كما قال «نيتشه».
وتجربة اللغة في المنجز إياه، هي تجربة حضور عدمٍ ما بمعنى ما، أو محو في أقل تعديل. ومن خلال اضطلاع اللغة بهذه التجربة الأساسية، يفضح النص، ويعري سلسلة كاملة من الإحالات التبادلية التي تتقوم ببنية الذات، وإعلاء الأنا لا بالمعنى المرضي التضخمي بل بالمعنى الشعري البحت في ترابطاته، وتعالقاته بالملتمع البعيد في السديم، بالقادم غدا، أو غير القادم البتة، بالمستقبل مسربلا في نداء المجهول.
وما مِنْ لغة، ما من كتابة، ما من شعر، ما من إبداع إلا ويتطلع بحرقة وشوق لاَهب، إلى ما تطلع إليه شاعر الرمزية الأكبر «سْتيفَانْ مَالاَرْمِي»، وهو أن يكتب «الكتاب»؛ هذا الكتاب الذي عكف على كتابته طيلة حياته، ومات دونه. وليس من شك في أن الكتاب إياه انكتب، ولا يزال ينكتب في النسيان بوصفه نقصانا دائما.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 06/11/2025