الــدّيــفــا بحق وحقيق
خرج الغناء من المعابد والهياكل والأديرة، وتبَجَّسَت الموسيقا من الطبيعة.. من الأعالي، ومن الصحراء أيضا. أجَّجَها وأوْحى بها الفضاء الشاسع المترامي، والكثبان الموحشة، والوحدة في القفر والفيافي التي تلد صاحبا رفيقا أنيسا يطرد شبح الخوف والوحدة والوحشة والقلق. وهذا الأنيس هو الأنا الآخر اللصيق مخاطبا أناه الأول العطشان اللهفان على إنجابه. ولعل الطرب كان وسيلة التخاطب والتحاور مع الإله، مع الأرواح المحلقة والما وراء. لذلك عندما ندرس الطرب أو نستمع إليه مليّاً بكل جارحة فينا، وكل نبض يسعه كياننا، ينتابنا إحساس خاص، إحساس غريب وعذب وروحي نعجز عن وصفه وتحديده. سر الأسرار هو: ينبثق ويخترق ويسري علوّاً وهبوطا، سطحا وعمقا، ليأخذك منك إليك، ومنك إلى ما لا ينتهي.. إلى المجهول الغريب الحبيب. الإنسان مقياس كل شيء بحسب الفيلسوف بروتاغُوراسْ، وبحسب الاختبار والاستخلاف. عظمته تكمن وتتجلى في السيطرة على النفس، وعلى ما حواليه. على إبداع ما لم يكن منتظما في معنى سابق، وخلْق فائت؛ ما يستوجب الدهشة والإبهار. بالعقل والقلب، وجميع الفؤاد، يتحقق الابتكار والخلق، ويثب الخيال محلقا بالواقعي، بحياة الفرد المبدع إلى ذُرىً تتواثب فيها نيرانٌ زُرْقٌ، نيران مجوسية باردة وحارة تُلْهب الكَلِمَ، وتشعل الرؤية والرؤيا. المهن والحِرَفُ والوظائف والخِدْمات التي اخترعها وأوجدها الإنسان، لينظم وفقها مجالات ومرابع وأرضيات عمله وشغفه، وطلبات طموحاته، ويتحكم في مسعاه ومرماه ومرعاه، إنما هي مشتركٌ إنسانيّ عام، إنتاج وإنجاز آدمي في كل المعمور، باللغات على اختلافها، والأجناس على تعددها، والجغرافيات على تقاربها وتباعدها. الطب والصيدلة والهندسة والرياضيات والفيزياء والتدريس: مشترك عام، لا يَنْماز فيها أحد من أحدٍ إلا بالمُدارسة والذكاء والنبوغ، وتوافر الإمداد والشروط. لكن الغناء والموسيقا، والتشكيل، والفكر الفلسفي، والإبداع الشعري والروائي، ليس بالمشترك الموطوء العام. فليس كل الناس أو غالبيتهم شعراء ولا روائيين، ولا فلاسفة، ولا فنانين تشكيليين، ولا مسرحيين، مثلما هي الحال في شأن المهن اليومية التي ذُكِرَتْ، والتي يتطلبها العيش وتطوير حياة الناس إلى الأحسن والأفضل ماديا واجتماعيا ومعيشيا. الطب والصيدلة والهندسة والتعليم .. الخ، مهن إنسانية مطروحةٌ ودانيةٌ تكتسب بالدراسة والعكوف والاجتهاد. لكنما الإبداع والفن والفلسفة والغناء هنَّ عطايا فردوسية، وأُعْطيات عُلْوية. هُنَّ من هِبات الاصطفاء الطبيعي والروح الإلهي. وتلك أُعْطيات غير عشوائية تماما كالنبوة. فالنبي واحدٌ في الأمم الغابرة، أو فينا. وعلى تعدد الأنبياء في فجر التاريخ، فهم أُحادى، كل واحد منهم أرسل في البرية يكرز بدينه الجديد.. برسالته، وبدعواه إلى جادة النور.
في العالم العربي الذي تُعَدُّ ساكنته بأكثر من 450 مليون نسمة، لا تتعدى نسبة المغنين فيهم مئة مغن ومغنية، وبالإمكان إحصاؤهم. وفيه قلة من المفكرين والمبدعين والأدباء والفلاسفة والموسيقيين، لا يربو عددهم على ألفيْ كاتب وفنان ومبدع وأديب، إذا تسامحنا، وإلاَّ فإن النقد والميزان يقلصان العدد إلى النصف أو أدنى. وفي جميع الدنيا: عدد المبدعين والمفكرين لا يزيد على بورصة في وسط يهدر ويغلي بالملايير. الطبيعة ملهمة، بما لا شك فيه، ولكن إلهامها لا يمنح نفسه لكل من تسعى به قَدَمٌ في هذا الكون. والموهبة هي إحدى أُعطيات الإله / الطبيعة، والحظ الميتافيزيقي، والمصادفة الغامضة، ليست وحدها بالكافية، بطبيعة الحال، لتهَبَنا شاعرا أو موسيقيا، أو مغنيا.. أو .. أو. إنها بحاجة إلى صقل وتحكيك، ما يعني إلى تعهد ورعاية وتهذيب، وشقاء وألم. الأرضية قائمة وموجودة، سوى أنها ظمأى إلى سقيٍ ورَيٍّ للإنبات اليانع الجَمِّ، والناضج الطَّمِّ. ولربما، يكون الإيقاع الذي تحدثت عنه مرة في مقالة لي، وترجمتُ مقالة في خصوصه مرة ثانيةً ( نُشِرَتا )، هو سر الأسرار، وريح الروح، وقبس الجوهر الإنساني المستوحى من مادة الإنشاء البدئي، والخَلْق الأول. « الإيقاع هو وقع الدهر علينا، قلبنا يضرب بإيقاع مُدَوْزَن مدروس. والشمس والقمر وسائر الكواكب والمجرات تجري بإيقاع دقيق مذهل، قد تنقلب أرضنا إلى جمرة منطفئة لو تزعزع الإيقاع. الفصول الأربعة تأتي بإيقاع، وتغادر بإيقاع.فالإيقاع سارٍ في الوجود ، والكون نغمٌ كما قال الفيلسوف فيثاغورس ، لأنه روح هَيْمى، نغم عُلْوي قدسي يغرد ولا يُرَى.
وما دمنا أثَرْنا الإيقاع، فلْنَفْتَحْ صفحة الطرب الذي هو أحد أقسام الإيقاع الهامة، وإحدى الهبات والأعطيات الربانية. إن المطرب (ة) الحق ذو حساسية عالية وبالغة تجاه الإيقاع، وذو استجابة قوية، وتَلَقٍّ روحي للموسيقا طبوعا ومقامات وموازين، وأنغاما وأصواتا، ولغة عبقرية ناطقة من غير نطق، وذو إحساس خاص بالكلمة المغناة فهما ومعرفة ودلالة. فالشهرة التي نالتها كوكب الشرق العظيمة أم كلثوم، واسمهان الملكة برغم مرورها السريع بدنيانا، وليلى مراد الشادية المغردة، ونجاة الصغيرة القيثارة السماوية، وسعاد محمد المصرية الهائلة، وفيروز الملاك الأرضي، وصباح الشحرورة، وماجدة الرومي الرقيقة المرهفة، وذكرى محمد التونسية الرائعة، وأصالة نصري الكروانة الصادحة، وأخريات؛ إنما نِلْنَها لأنهن حلَّقْنَ بأفئدتهن وجماع مشاعرهن وأحاسيسهن، وعقولهن ـ عاليا.. عاليا، من منطلق انصهارهن مع ما غَنَّيْنَه، فأثبتن جدارة واستثناء إنسانيا، وتفردا بشريا، ونبوغا مخصوصا، جعلنا نذوب وتغشانا رهبة وخشوع ودمع وحزن وفرح، واندماج وتفاعل مع ما أدَّيْنَهُ ببديع أصواتهن، وبهيّ توقيعهن، وفسحة ورقة حناجرهن، وذوب عسلها فينا.
وإذا كان إخواننا في المشرق والشام والعراق، يباهون بهن وبغيرهن بما هن فنانات من عيار ذهبي وازن، وقياس ألماسي ثمين بما لا يقاس، فإن لدينا، هنا، في المغرب ما نباهي به ونفاخر سِواء أتعلق الأمر بالمطربات الرائدات ( اللاتي طواهن النسيان أو كاد)، أو تعلق بالمطربات العصريات اللواتي أبدعن ما يطرب ويُرَقِّص ويُشْجي ويسمو بأرواحنا وقلوبنا فإذا نحن ـ آدميين ـ حقا، يحق فينا ما قاله بروتاغوراس بأن الإنسان هو مقياس كل شيء، « لا يحيا بالخبز وحده» على حد قول المسيح عليه السلام. لنا رواد ورائدات في مجال الغناء والطرب والموسيقا والفن، ك: حسين السلاوي، وعبد الوهاب أكومي، وأحمد البيضاوي، ومحمد فويتح، ومحمد المزكلدي، والمعطي البيضاوي، إسماعيل أحمد، والمعطي بلقاسم، وعباس الخياطي، والعربي الكواكبي، وبلعيد، ومحمد رويشة، وغيرهم. ولنا رائدات، ك: بهيجة إدريس، وأمينة إدريس، ولطيفة آمال، ولطيفة الجوهري، وشمس الضحى، وعتيقة عمار، وأخريات. شيدوا، كل بأسلوبه وصوته، وجمال أدائه، وطريقته ـ عمائرَ الأغنية العصرية المغربية بهويتها الغنية المركبة ، وروافدها المغذية المتعددة : من أندلسي، ويهودي، وأمازيغي، وإفريقي، وعربي مغربي، ومشرقي. ومهدوا الطريق وعبَّدوه ـ كما ينبغي ـ للجيل اللاحق حيث شرعت مواهب بديعة في ترسيخ ذاتها، وحفر مجراها، ورسم خطاها، وعلائمها المائزة، وآفاقها المشرقة، مثل المغنين المطربين الأفذاذ: عبد الوهاب الدكالي، وعبد الهادي بلخياط، ومحمد الحياني، ومحمود الإدريسي، وأحمد الغرباوي، وعبد الحي الصقلي ( المظلوم)، وعبد المنعم الجامعي، والطاهر جيمي( المظلوم كذلك)، وغيرهم، مع تفاوت في الحضور الراسخ والتكريس، والحظ والنجاح. كما لمعت مطربات ذوات عذوبة صوتية، ورقة أدائية، وإبهار غنائي، ورخامة حنجرة، وأبهة حضور. ظهرْنَ سبعينيا فما بعد، تلك السبعينية البهية الانعطافية المنفلتة من عِثار السياسة، ومُضْطَرب العيش، ونكوص أحلام وأمانٍ كثيرة. سبعينية بهية بالغناء والشعر والمسرح، ونشوء المجموعات الغنائية، وبِمَنْ سبق ذكره من مطربينا، ومن نسائنا الرائعات: نعيمة سميح، وسميرة سعيد، وعزيزة جلال، ورجاء بلمليح، وفاطمة مقدادي ( المختفية فجأة )، ولطيفة رأفت، وغيثة بنعبد السلام ( المختفية بدورها )، وسمية قيصر ( الغائبة من زمان )،ورذاذ لوكيلي، وماجدة عبد الوهاب، وكريمة الصقلي، وأخريات لا يسمح المقام بإيراد أسمائهن كلهن.
في السبعينات المشتعلة إبداعا وفنا ومسرحا وغناء، وظهور مجموعات: ناس الغيوان، جيل جيلالة، لمشاهب، تكادة، أوسمان، إيزانزارنْ، وغيرها، الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس، سكنَ المغاربة قاطبةً، صوتٌ جديدٌ ناعم بديع قوي في رقة، رقيق في قوة، مبحوح يجرح الإحساس ويُشْجي، يُبكي ويُفرح، يرفع إلى الأعلى ويدعك مخمورا تحلم وتترنح: صوت نعيمة سميح. وحسبك أن تعلم أنها بصوتها المغربي الماسي الأطلسي الأمازيغي والعربي، رسخت منزلتها، وضمنت استمرارها وسْط أمواج هادرة من الغناء شرع تلاطمها وفوَرَانُها، و»جنونها»، يَتَسيَّد الساحة مكانا وفضاء، أقاصي وادانيَ، والناجي هو من يعرف العوم في ذلك البحر اللجي وافر الغنى والغنيمة عل كل حال، ويعرف كيف يواجه التيارات والعواصف المختلفة، يصل إلى الضفة الأخرى، إلى بر الأضواء والتداول والانتشار، والدخول ناعما سمحا سميحا إلى قلوب الناس؛ إذْ أن كثيرا ممن بدأوا الغناء في الفترة إياها وقبلها، انطفأوا، أو اعتزلوا، لظروف شخصية أو أُسَرية، أو حفاظا على سمعتهم ( سمعتهن )، وقليل من أمجادهم ( أمجادهن ).
سَمَتْ نعيمةُ وبرزت كنجم الفجر الطالع من بين سحب الفضة، وأشعة الشمس الأولى، ومن شقِّ زمنية كنا في حاجة إليها، لنتحدث، بكل اطمئنان، عن سيدة الطرب المغربي، الدّيفا بحق. الفنانة الخجولة العملاقة في آن. ذات الإحساس الخاص وهي تغني، وتؤدي بكامل جوارحها، وبذوب شعورها، وبكل روحها ورقتها، وهشاشة بنيتها. ومن يحس بما يغني ـ كما أم كلثوم أو فيروز أو نجاة الصغيرة تمثيلا ـ ينتشي بجمال الكلمة ومعناها، ويشتعل باللحن البديع وهو يسري في جماع كيانه ودمه، لا اختلاف في أنه ينجح و «يتسلطن «، ويحلق مستمتعا محترقا بجمر ما يغنيه، مُمْتعا ـ بالتلازم والاندغام ـ من ينصت إليه، ويرهف السمع له، ويجاريه في ذوبانه واحتراقه. ولم يكن يقدر على ذلك ويستطيعه، ويصل إلى ما أسميه ب « حالة النيرفانا « الأطلسية القصية لا النيرفانا البوذية الهندية، أو هي هي مع الأخذ بالنظر اختلاف الثقافة والهوية. لم يكن يصل إلى الحالة تلك إلا القليل.. القليل، إلا الراحلة الأثيرة، الديفا بحق: نعيمة سميح. يخرج من صوتها العذب الشجي، وبحتها الطبيعية الساحرة: أنداء سماوية بلورية، تلج القلب والفؤاد، تنعش الروح، وتُذْهِبُ خواءها إذ تملؤها بالعذوبة واللذاذة والأطياف والألوان والتغاريد، ولو لهنيهةِ.. للحظة.. للحظاتٍ هُنَّ ما يلهث الإنسان وراءها طالبا وساعيا. هنَّ ما يسْتَطِيبه ويستَعْذِبه، وينتشي به لينسى ماديته القاتلة، ويعانق روحه المستعادة، منشرحا، مؤمنا بأن في الدنيا ـ كما في السماء، ملائكة تشدو وتداوي، وتملأ الملكوت بهجة وحياة. حنجرة وبحة نعيمة سميح المتميزة، هِبَةٌ من السماء، منحت أغانيها شجواً، واضفت عليها شجاً وسحرا، فكأنها مزمار من مزامير داوود. بحةٌ لا تمنح إلا لمن اصطفاه الله، اصطفته الطبيعة ليكون شُحْرورَها، ونسيمها وهواءها، خادما وحارسا وناشرا لأسرارها لما فيها من جمال وروعة وبهاء. هي الهلال والبدر والمُحاقُ، أيْ: هي القمر المغربي كاملا ومكتملا. وهي واحدة من أجمل وأعذب الأصوات في تاريخ الأغنية المغربية العصرية، والعربية بالتلازم والنسب. من الحِلاقة: مهنة الجمال والعناية والتصفيف والتسوية، حلَّقَتْ، بعد أن شعَّتْ باقتدار ونار في برامج تلفزية وإذاعية، فتمَّ تعهدها من قِبَلِ ملحنين بل موسيقيين كبار، ك: عبد النبي الجراري، ومحمد بنعبد السلام، وعبد القادر راشدي، وعبد الرحيم السقاط، وعبد القادر وهبي، وعبد الله عصامي، وأحمد العلوي، وإبراهيم العلمي. عكفوا مشتغلين على أشعار غنائية رفيعة وَقَّعها الشعراء الغنائيون المبدعون: أحمد الطيب لعلج، وعلي الحداني، والطاهر سباطة، ومصطفى بغداد، ومحمد البتولي، وفتح الله لمغاري، ورابح التيجاني. فكأن ما كتب من شعر غنائي كان لها تخصيصاً. معانيه ومضامينه استُقِيَتْ من حالها وانتظارها، ووضعها الصحي، ونبوغها الغنائي، وصوتها العذب الباكي المغرد. هكذا حلقت بها وبنا، أغانِ خالدة: ( فتّحْ الوردْ )، و( البحارة )، و( غاب عليا لهلال )، و ( شفت الخاتم وعجبني )، و ( أحلى صورة )، و ( هذا حالي )، و ( على غفلة )، و ( أمري للَّهْ )، مرورا وليس انتهاءً بالرائعة التي طارت في ربوع المغرب والمغارب، والعالم العربي، وهي ( ياكْ جرْحي جريتْ وجاريتْ ). أبدعتْ وأطربتْ، أفرحتْ، وأبكتْ، وغردتْ فأشْجَتْ. عبرت عن وجداننا جميعا باستدراج الهواء النقي، والماء الصافي، والعذوبة الرقراقة النابعة من جبال الأطلس الشماء، وأرض المغرب المعطاء، إلى أرواحنا العطشى، وأفئدتنا اليابسة.
ابنة الحياة لا ابنة المدارس الفنية، والمعاهد الموسيقية، والمؤسسات الرسمية. وهذا سر فرادتها وتلقائيتها وتواضعها، وخجلها النبيل. ومن هنا: واحدية صوتها، وسحر بحتها، ورخامة صوتها مع قوة وتفاعل سلس مع الطبوع المغربية، والمقامات الشرقية التي يوقعها ويبدعها موسيقيون مغاربة أفذاذ، ويكتبها، كأنَّما لها، زجالون مبدعون شاهقون.
هي الدّيفا بحق وحقيق لا غيرها، إذا فهمنا معنى الديفا من أنه يعني الحضور القوي في الساحة الفنية، وضمن المشهد العام، كما يعني جمال الصوت وروعته، وعديد التلقيات والتفاعلات مع صوتها. تلقيات هنا وهناك وهنالك، لا تُحْصى. وبكثير من المحبة، يمكن عدّ الفنانة الكبيرة سميرة سعيد: ديفا ثانية.
صوتٌ سيَحْيا أبد الدهر، قَدَّرَهُ المغاربة والعرب حق قدره، على اختلاف مواقعهم، ومستواهم الثقافي، وشرائحهم الاجتماعية، وأصولهم الجينالوجية: عرب وأمازيغ، ويهود مغاربة، وتوانسة، وجزائريون، وليبيون ومشارقة، وشوام، وخليجيون. وكان أعلى تقدير حظيت به الديفا الكبيرة نعيمة، احتفاء المغفور له الملك الحسن الثاني بها، تقديرا لصوتها، وتوسيما لمسيرتها، وإعجابا ببحتها وغنائها، وتنويها بأصالتها ومغربيتها. والتقدير ذاته، حظيت به من عاهلنا محمد السادس الذي توَّجَها بأرقى وسام في العام 2007، ما لم تخني الذاكرة. وإِنْ كنت أنسى لا أنسى التنصيص على حظوة مسرح الأوبرا بباريس وهو يستقبل نعيمة سميح ذات عام، إِسوةً بكوكب الشرق الخالدة أم كلثوم، وبسفيرتنا إلى النجوم: فيروز، وبديفا أخرى مغربية متعددة: الفنانة لطيفة آمال التي غنت الشعبي والعيطة، والأغنية العصرية بصوت عبقري أخاذ، فبرعت وسمقت، ما أهلها وأوصلها إلى مسرح الأوبرا بباريس. وإذاً، ثمةَ ما يدعو إلى التفاخر والتباهي بكبار وكبيرات مغنينا ومغنياتنا المغاربة: شعبيين وعصريين، عربا وأمازيغ. وإذاً، فنعيمة سميح أعقبت لطيفة آمال في الوقوف على مسرح الأوبرا، والغناء فيه، الذي لا يفتح أبوابه إلا للكبار المكرسين والاستثنائيين. وقد كانتا المغربيتين الكبيرتين من بين المحتفى بهم وبهن، واللتان حلقتا ـ بكل تأكيد ـ بالحضور، إلى الأجواز العليا، إلى السحاب حيث يندى فيغدق رذاذا وحنواً، وخشوعا يلف الجميع، كما اعتاد أن يلفنا، مشكلا خارطة شاسعة تُمْطر مغربا أصيلا جوادا، غنيا بتاريخه، ورجالاته، ونسائه، وأمجاده. غنيا بفنه وغنائه وشعره وموسيقاه، وفكره، ورقص جهاته، وثقافته، وحضارته الضاربة ماضيا وحاضرا وآتيا.