« يكتب الشعر الموزون بعد استحضار حياة المرء بأسرها، وليس عن طريق تصيد التفاعيل والبحور»
ماياكوفسكي
«النار لا تنال من أجنحة الشعر، الكتابة ريش أقوى من الهواء»
قاسم حداد
مَنْ يتحدثُ عن إيقاعِ الشعر، من زاوية البحورِ والمجاري والأغراضِ، وهلمَّ رعودٌ وصداعٌ ميكانيكيٌّ للسياراتِ القديمةِ، لا يمكنُ أنْ يشعرَ بموسيقى الذات، في انفجارِها وألمِها، في ارتخائها، واستمتاعِها بإيقاعاتِ الأقدام، والأيدي، دقاتِ النبضاتِ وأرواحِ الموسيقى.
يمكنكَ أنْ تسمع الشعرَ، بصوتِ ممثلٍ مسرحي أو سينمائيٍّ، بحركاتِه، بنظراته. يقرأ بصوتِ شاعرٍ يغازلُ امرأةً مازالتْ تؤمنُ بالحبِّ العُذريِّ. أو بصوت شاعر يطرق بقدميه على الأرض، وهو يصعد جبال المكسيك، وفي يده قصبة سكر تتضمن قصيدة طويلة تحكي حياته بين الناس باستعارة الطماطم.
الشعر موسيقى بالصور وبالأفكار أيضا. الموسيقى ليستْ دغدغةَ عواطف، أو انجذاباً رومانسياً، ولكنها تعذيبٌ نفسي، كلماتٌ تتنفس بصعوبةٍ في زنزانةٍ، أو تحت قصف تنهدمُ تتحه الطبقات والأدراج والأرواح؛
تموتُ لتَحيا
الندوبُ أنغامٌ لا تندملُ
جرح يتهدَّم، يتذكرُ صوتَه كل جيلٍ
حضنٌ يحيا في حِمم الأنفاسِ
يسخرُ من هدأةِ البحارِ
وينام تحتَ رماد المِدفأة.
مِنْ أجلِ الحياة
يجب أن نقرأ الشعرَ، في الشارع العام، في الميدان، وبين أنقاضِ الحروب الوحشية، حيث مازالتْ هناك أرواحٌ لمْ تستسلمْ بعدُ. ثمة أنفاسٌ لا تخنقُها السطورُ والأوزان في الحلَبات!
الشعر صمتٌ على طاولة في مقهى، في غرفةٍ، أو على رفوف مكتبةٍ منسيةٍ في بيت، أو في دير في جبلٍ. طفلٌ يرسم في شارع سوريالي، أو في لوحة فنان يطل من نافذة بمخيلةٍ متمردة، تنسى وتضعُ لثمةً على خدٍّ جافٍ. العِشقُ لا يحتاج إلى أدواتٍ. وحده يتحدثُ بدلاً عنّا.
في الشعر لا نسمع الموسيقى فقط، في أمواج أو حروف، أو في كلمات تتردد من قواميس «فاست فود»، ولكننا نراها في كل لوحة، في حديثٍ يتعثرُ في الشارع، يضع نقطةً، ولكن!
الموسيقى لونُ الغروب، في تدرج الألوان والكلمات، في استرخاء بين ضفتين. في السطح صورٌ، شاشاتٌ غير واضحة، أصابعُ تتحرك بين الذاكرة وأجسادٌ تنظر بعيدا، تسمع حوارا داخليا، ولا تجيبُ..
ثمة صمتٌ يمحو آثار العابرين، يسمع دبيبَ رمل الرغبة واحتراقَ الأعماق. كمينُ الكمان في مقطعٍ أو دهشة، ترتعشُ وحدها في نايٍ، يبحثُ في معجمٍ على سريرٍ. شعاعٌ يعبر ولا يراه أحد. صلاةٌ في الظلام، لا أحد يعرف طقوسها بالضبط. أغصانٌ مثقلةٌ بالحيرةِ، تلوح لطفلٍ يبتسم لتغريدِ العصافير.
الشعر نقطةُ ضوء، بُؤرة حركةٍ تتمدد في دوران الكلمات، ومن تفجُّرها، كمجرَّةٍ في فضاء تضيء في الفراغ.. تتحرك في شظاياـ، في موجات واندفاعات في تصاعد مياهٍ مُتبلِّرةٍ، أو في حِممٍ تُغذي جسدَ الأرض، وتتسلل كثعبانٍ يُغضبُ الآلهةَ.
في دورانها ضوءٌ، وفي تشتُّتها بدءُ الخليقةِ وعودُها الأبديُّ. أحيانا تلقى صداها في جِلدٍ مُبقَّعٍ بالوعودِ، وأحيانا تضيعُ في لا زمنِ الأسرارِ..
موسيقى الشعر شكلٌ ومضمونٌ ليسَ أكثرَ
نعيشها واحدا، اثنانِ، ثلاثة، جميعا أقلَّ..
نعيشُها، ببطءٍ، معا،
نروحُ إليها، تروحُ إلينا
معا في الكتابةِ، معاً في الصمتِ..
في موسيقى الشعر لا ظلَّ لنا، لا صدى إلاّها.. رقصٌ، صخبٌ هادئٌ. في مسرحٍ طلقٍ، مع لا أحد، حيثُ الكلمة تتحركُ في إحساسات مختلفة. حكايةٌ تبحث عن عُقدتها، في مساحةٍ بين شجرةٍ وجِذرِها. بين الخطوةِ وظلِّها. في نفَسٍ يُسمع بين ثنايا الفجواتِ، ويقطر غريباً كدمعِ العنبِ.
مراكش-اكتوبر2025
نفَسٌ يقطرُ كدَمعِ العِنب
الكاتب : جمال أماش
بتاريخ : 25/10/2025

