نقد النقد العربي يفتقر إلى مشاريع متخصصة تسعى إلى تطوير آليات اشتغاله

 

معظم النقاد العرب الذين درسوا التفكيك قاموا بتقويمه على ضوء خلفياتهم النقدية الناجزة

 

بمناسبة وصول كتابه «هجرة التفكيك إلى النقد العربي» إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب/فرع والدراسات النقدية/ 2022/2023، كان لنا هذا الحوار مع الناقد أحمد الجرطي، الذي يتطرق الى الحديث عن نقد النقد باعتباره ممارسة إبستمولوجية تستهدف مساءلة آليات ومفترضات ومبادئ الخطاب النقدي الأدبي، مع ما يكتنف الأعمال النقدية العربية من معضلات منهجية وإبستمولوجية، كما يتناول الجرطي مسار تلقي التفكيك في الفكر العربي، والمقاومات التي واجه بها بعض النقاد العرب هذا الخطاب، خاصة أن الصورة الغالبة على تفاعل النقد العربي مع التفكيك تظل صورة قاتمة، لأن معظم النقاد العرب الذين درسوا التفكيك قاموا بتقويمه في ضوء خلفياتهم النقدية الناجزة.

 

 

نبدأ حوارنا من الإطار العام الذي تندرج فيه اهتماماتكم وكتاباتكم وهو نقد النقد باعتباره ممارسة إبستمولوجية تستهدف مساءلة آليات ومفترضات ومبادئ الخطاب النقدي الأدبي، هل يمكن الحديث عن مشروع عربي في نقد النقد بالنظر للتراكمات المنجزة في هذا المجال، أم أن هناك مجرد أشكال متعددة تتخذ من النقد مجالا لاجتهاداتها؟

اهتمامي بنقد النقد هو وليد قناعتي بأن السبيل المنتج نحو تحقيق خصوصية نقدية عربية لا يتم فقط عن طريق الوعي بالمناهج النقدية الغربية، واستيعاب ما تتشربه من خلفيات فلسفية، والنجاح في إعادة استزراعها خلال الممارسة النقدية وفق ما تكتنز به النصوص الأدبية من خصوصية في أنساقها الفنية والدلالية، بل أيضا يمكن لنقد النقد أن يسهم بشكل فعال في تحقيق هذه الخصوصية من خلال تتبع ما يكتنف الأعمال النقدية العربية من معضلات منهجية وإبستمولوجية، سواء أثناء التمثل لهذه المرجعيات الغربية على صعيد المستوى النظري، أو على صعيد الممارسة، وفي هذا الاتجاه أنجزت بعض الدراسات المندرجة في حقل نقد النقد مثل «تمثلات النظرية الأدبية الحديثة في النقد الروائي المعاصر»، و»أسئلة نشأة السردية العربية الحديثة بين سوسيولوجيا الأدب وخطاب ما بعد الكولونيالية، و»النقد الروائي عند يمنى العيد من الواقعية الجدلية إلى سوسيولوجيا النص» و»هجرة التفكيك إلى النقد العربي بين الكونية والتحيز» والتي كان الرهان المعرفي وراءها هو توصيف واستبطان ما صاحب العديد من المشاريع النقدية العربية من معضلات منهجية في المثاقفة مع الغرب، وما حبلت به من عمق معرفي وتحليلي على صعيد تطويع مفاهيم النظرية النقدية للاستجابة لخصوصية النصوص الإبداعية العربية.
أما بخصوص الشق الثاني من سؤالكم حول إمكانية الحديث عن مشروع عربي في نقد النقد، أم أن الأمر لا يتعدى بعض الاجتهادات المتفرقة التي تتخذ من النقد مجالا لاشتغالها، فإني أعتقد أنه من الصعب جدا الحديث عن مشروع عربي في نقد النقد لعدة اعتبارات، أهمها أنه لا يوجد عندنا نقاد متخصصون في هذا الحقل المعرفي، وأقصد بذلك تخصيص مسارهم النقدي لنقد النقد، ومراكمة العديد من الأعمال الهادفة إلى تطوير ضوابط وآليات اشتغاله، والسبب في ذلك أن معظم المشتغلين في نقد النقد يتوزعون بين عدة مجالات معرفية كمتابعة الإبداع الأدبي بمختلف أجناسه، أو الكتابة في المجال الفكري، كما هو الشأن مثلا مع الراحل جابر عصفور، ونبيل سليمان، وحميد لحمداني، وسعد البازعي، وعبد السلام المسدي، وعبد الله إبراهيم، وسعيد يقطين، ولهذا يفتقر نقد النقد العربي إلى مشاريع متخصصة، تجعل رهانها تطويرمنهجيته وآليات اشتغاله، كما أنه مما يضاعف من عدم مردودية نقد النقد العربي أنه بسبب غياب هذه المشاريع المتخصصة، تظل العديد من الكتابات النقدية في هذا الحقل المعرفي غاصة في دائرة العرض والتلخيص لما تدرس من أعمال نقدية دون الانتقال إلى مرحلة المساءلة والتقويم لما يتخللها من مواطن قصور وفوضى منهجية، أو ما تكتنز به من إضافات منتجة تنظيرا وإنجازا.

هناك علامات فارقة في نقد النقد في المشرق العربي، بدءا بمحمد مندور مرورا بيمنى العديد التي خصصت لها دراسة متميزة، وكذلك جابر عصفور، دون أن ننسى إدوارد سعيد الذي طور هذا الحقل في اتجاه متجدد، ماذا عن الميتانقد المغربي؟

بخصوص الميتا نقد المغربي أعتقد أن وضعه لا يختلف كثيرا عن حال نقد النقد في المشرق العربي، حيث هناك غياب لمشاريع نقدية متخصصة بما يعنيه المشروع من تراكم على صعيد الإنتاج، وتطوير آليات الاشتغال سواء على مستوى التصور والإنجاز، وإن كنت لا أغيب بعض الإسهامات المثمرة في تطوير آليات وضوابط اشتغاله، أذكر منها كتاب محمد الدغمومي «نقد النقد وتنظير النقد العربي» الذي أصبح مرجعا لا يمكن تجاوزه في هذا المجال، إضافة إلى مشروع حميد لحمداني الذي أعتبره أهم مشروع في حقل نقد النقد بالمغرب لكونه اشتغل في ضوء منهجية ناظمة ومتجانسة مع مساءلتها وتطعيمها بآليات جديدة وهي منهجية ناتالي جوهانا، إضافة إلى مزاوجته بين التنظير والممارسة من خلال الاشتغال على عدة دراسات نقدية في النقد التاريخي والسوسيولوجي والنفسي ، والموضوعاتي ، كما لا أستثني أيضا بعض الاجتهادات المشرعة على آفاق معرفية منتجة عند كل من عبد الواحد المرابط، ومحمد بوعزة، وعبد الرحمان التمارة، وادريس الخضراوي.

ننتقل إلى كتابكم الأخير «هجرة التفكيك إلى النقد العربي» الذي تناولتم فيه أوجه القصور المنهجي والمعرفي في معظم الكتابات العربية التي استقبلت التفكيك وأطروحاته المركزية، مما جعل حضور أطروحاته في الثقافة العربية باهتا وأحيانا يتسم بالتعسف والغموض. أين يكمن الخلل بالضبط؟

بالنسبة لكتابي «هجرة التفكيك إلى النقد العربي بين الكونية والتحيز» فقد استطعت من خلاله أن أميز بين عدة أنماط من تلقيه في النقد العربي، وخلصت إلى أنه باستثناء بعض الجهود المتميزة في تلقي التفكيك مع عبد الكبير الخطيبي وعلي حرب في مجال الفكر العربي، وكمال أبو ديب في مجال نقد الشعر، وجابر عصفور وسعد البازعي في نقد النقد، تظل الصورة الغالبة على تفاعل النقد العربي مع التفكيك صورة قاتمة، لأن معظم النقاد العرب الذين درسوا التفكيك قاموا بتقويمه في ضوء خلفياتهم النقدية الناجزة، مما جعل عملية التقويم والمساءلة تكون مغرضة وغير علمية، وأعطي المثال بنموذجين أولهما عبد العزيز حمودة الذي رسم للتفكيك صورة مرعبة ومخيفة، وقدمه باعتباره قاد النقد العربي إلى التيه والتغريب وغموض اللغة النقدية، والتفريط في سلطة النصوص وقصديتها، دون أن يكلف نفسه عناء الرجوع للمتون النقدية العربية التي تبنت آليات التفكيك وتجسدت فيها أحكامه واستنتاجاته، ويرجع هذا التلقي الإيديولوجي الذي قدمه حمودة لإبدال التفكيك إلى اتخاذه منطلقا للدفاع عن شرعية انجذابه لمفاهيم النقد الجديد لكون قراءاته الفاحصة للنصوص تتعارض مع إفراط التفكيك في متاهة التأويل ولانهائية الدلالة، والمثال الثاني هو عبد الوهاب المسيري الذي اتسم تلقيه للتفكيك بدوره بالتحامل واللاعلمية، لكونه لم يتعامل معه باعتباره استراتيجية قرائية تشدد على تعدد مداخل فهم النصوص وتأويلها بحكم تعدد وتباين المراكز والبؤر المشيدة لتركيبتها الداخلية، بل اكتفى بتوصيف إبداله بأنه حالة من السيولة الكاملة والعلمنة الشاملة التي انتهت إليها الحضارة الغربية، وتقويمه في ضوء مشروعه التنويري المحتفي بالمعنى والعقل والنزعة الإنسانية. وتأسيسا على هذه المعطيات، أعتقد أنه لتقديم نوع من التلقي الموضوعي البناء لإبدال التفكيك، من الضروري التجرد من كل الخلفيات المعرفية المعدة مسبقا، ومحاولة الإنصات لخصوصية ما اجترحه من منظورات جديدة في قراءة وتأويل الخطابات، لأن التفكيك فضلا عن روافده اللاهوتية والصوفية القبالية، وفضلا عن شططه أحيانا في متاهة التأويل ولانهائيته، إلا أنه لا يمكن تجريده من بعض المكتسبات التي أخصب بها الممارسة النقدية والفلسفية، وتأثرت بها عدة مرجعيات نقدية في تقويض بنى الهيمنة والتسلط في النصوص والخطابات، كما هو الشأن مع خطاب ما بعد الكولونيالية والدراسات الثقافية والنسوية وسوسيولوجيا الأدب، ومن هذه المكتسبات البناءة التي لا يمكن إغفالها تشديده على تعدد بؤر النص ومراكزه التي تختط أمام المؤول مداخل قرائية جديدة تفكك ما اعتبرته قراءات أخرى أصليا ومركزيا، إضافة إلى رفضه جهوزية التأويل والحقيقة، وهو الأمر الكفيل باستثمار هذه المفاهيم في تقويض المركزيات الشمولية المتشرنقة حول واحدية الأصل ونقاء الهوية.

ألا ترون بأن التربة التي تستقبل المفهوم المهاجر من أقاليم ثقافية مختلفة تسعى بدورها إلى إعادة إنتاجها وفق المخاضات الفكرية والتاريخية والاجتماعية التي ترافق عملية الاستقبال، الشيء الذي يجعل هذه المفاهيم تلبس لبوسات مختلفة عن أصلها؟

صحيح أتفق معكم في هذا التصور الذي قدمتموه للصعوبات التي تحف بعملية استقبال المفهوم أو النظرية، والذي سبق للناقد العالمي المتميز إدوارد سعيد أن عالجه في دراسته الموسومة بـ «النظرية المهاجرة»، ففعلا النظرية بما هي استجابة لوضع اجتماعي وتاريخي محدد حين تنتقل إلى بيئات ثقافية مغايرة من حيث مخاضاتها الدنيوية، وتخضع لعمليات جديدة من التحوير والاستنبات تفقد الكثير من ثوريتها التي رافقتها في مخاضها الأصلي، بل يمكن لهذه النظريات أن تطالها عمليات من التحريف والتشويه بسبب محاولة تكييفها مع خصوصية البيئة المستقبلة، وهوما نلمسه مثلا في تلقي عبد الله الغدامي للتفكيك. فطموحا منه إلى تكييف استراتيجياته التحليلية مع خصوصية ثقافته العربية الإسلامية الممجدة للعقل والنظام والمعنى، أفرغ التفكيك من حمولاته الفلسفية والنقدية الأصلية التي تشدد على تدثر النصوص بمناطق من التوتر والصراع والتناقض المفضية للسيرورة اللامتناهية للدلالة، وقدم التفكيك باعتباره استراتيجية تحليلية تنشد تشريح العناصر التكوينية للنص، ثم إعادة تركيبها في وحدة متجانسة، ومن هنا أعتقد أن المدخل المنتج للتفاعل البناء مع النظرية الوافدة هو الوعي بمخاضاتها الفلسفية التي توجه مفاهيمها ورهاناتها، لأن هذا الوعي هو الذي يمكن الناقد أثناء توظيفها من تنسيبها وتخصيصها في الممارسة النقدية.

ألا تفترض علينا عملية التلقي لخطاب هذا التفكيك الوعي بحدود هذا الخطاب، ألم يكن هذا المشروع التفكيكي قائما على وضع حدود للتقليد البنيوي الذي انحدر منه؟، ثم ألا يمكن اعتبار مظاهر القبول والرفض التي واجه بها النقاد العرب هذا الخطاب هي ميكانيزمات الوعي بتلك الحدود؟

أعتقد أن خصوصية الإبدال الذي اختطه التفكيك لا يمكن حصرها في تجاوز القراءة النسقية للإبدال البنيوي، بل تنبع خصوصية هذا الإبدال من تنبيهه إلى الكثافة التناصية والمجازية للنصوص، وتعدد البؤر المشيدة لتكوينها الداخلي التي تنزاح بالتأويل عن أي بؤرة ناظمة، وتضع حدا لما أسماه دريدا بميتافيزيقا الحضور التي تستند دائما إلى أصول قبلية متعالية، أما بخصوص الدوافع الكامنة وراء تأرجح تلقي النقاد والمفكرين العرب لاستراتيجيات التفكيك بين القبول والرفض، فهذا راجع إلى اختلافهم في الوعي بخلفياته الفلسفية، وقناعتهم في تثمين رهانات إوالياته التحليلية، ولذلك لا يمكن مقارنة مثلا تلقي الخطيبي وعلي حرب المنتج لاستراتيجيات التفكيك الذي استند إلى وعي عميق بمهاداته الفلسفية والإبستمولوجية، واستثمارها بشكل بناء في تقويض المركزيات الشمولية، بحثا عن فضاء جديد مجبول بقيم الاختلاف ونسبية التأويل.
أقول لا يمكن مقارنة هذا النوع من التلقي المنتج للتفكيك مع تلقي حمودة والمسيري الذي هو تلقي متحامل ومغرض من أساسه، لأنه تم في ضوء خلفيات نقدية معرفية ناجزة كإغواء القراءة الفاحصة للنقد الجديد عند حمودة، والنزعة الإنسانية التنويرية عند عبد الوهاب المسيري.

من أبرز محطات تلقي التفكيك في الفكر العربي، وقفتم عند انفتاح عبد الكبير الخطيبي على التفكيك من خلال اجتراحه لاستراتيجية النقد المزدوج للثقافتين الغربية والإسلامية، هل يمكن القول بأن استيعاب الخطيبي لمشروع التفكيك يعود أساسا للعمق الفلسفي لهذا المفكر المغربي المتعدد؟

بخصوص تلقي عبد الكبير الخطيبي لاستراتيجيات التفكيك أعتقد أنه من أخصب أشكال تلقي التفكيك في الثقافة العربية التي تمت في زمن مبكر، وذلك راجع لعدة اعتبارات أهمها وعي الخطيبي العميق الذي أشرتم إليه بالخلفيات الفلسفية الكامنة وراء اتجاه التفكيك والموجهة لاستراتيجياته التحليلية، وثانيا حسه النقدي والإبداعي النفاذ الذي جعله لا ينشغل بالخلفيات اللاهوتية والقبالية للتفكيك، وبمظاهر التحيز المندسة في مفاهيمه، بل وجه كل جهوده إلى استثمار إوالياته القرائية في تجذير ثقافة الاختلاف وتأويل مضمرات الخطاب، وهو ما تجلى على الصعيد الفكري عنده في المناداة باستراتيجية النقد المزدوج لخلخلة وتقويض كلا الميتافيزيقيتين الغربية والإسلامية المتمركزتين حول واحدية الأصل وشمولية الحقيقة، وتجلى أيضا على صعيد الممارسة النقدية في الاحتفاء بشعرية الكتابة التي تشرع الدلالة على الانفتاح، وتنزاح بها عن حدية التأويل كما هو الشأن في كتابه «الاسم العربي الجريح»، وهو ما يجعل كشوفاته المتميزة التي أشاد بها العديد من النقاد الكبار، مثل جاك دريدا ورولان بارت تحتفط براهنيتها وجدتها لحدود هذه اللحظة، وتتقاطع اليوم مع بعض الكشوفات المنتجة في مجال ما بعد الحداثة والدراسات الثقافية.
وفي الأخير أقدم لكم جزيل الشكر والامتنان على هذه الأسئلة النيرة التي كانت مداخل مهمة بالنسبة لفهم خصوصية تجربتي النقدية في مجال نقد النقد وفي مجال استقبال التفكيك وإشكالاته في الثقافة العربية.


الكاتب : أجرى الحوار: محمد مستقيم

  

بتاريخ : 17/03/2023