«نوافذ».. من غرف العنف (3)

حقن الموت

تعيش العديد من النساء، وإلى غاية اليوم، عنفا تختلف أشكاله وصوره، قد يكون جسديا أو نفسيا أو جنسيا أو قانونيا أو اقتصاديا أو ثقافيا …، ماديا أو معنويا. عنف قد يرافق الضحية أينما حلّت وارتحلت، قد تعيشه منذ نعومة أظافرها وهي طفلة أو يافعة ثم شابة، وقد يستمر ليصاحبها حتى بيت الزوجية ليكون عبارة عن حلقة ممتدة، وقد تجد نفسها لأول مرة تحت هذا السقف الجديد تعيش هذه التجربة المريرة غير المنتظرة.
عنف في البيت، في الشارع، في العمل، في الفضاءات التعليمية المختلفة مستوياتها، قد يكون عابرا وظرفيا، وقد يصبح ملازما و «أبديا»، يمكن لفصوله المادية أن تنتهي، بمتابعة المعتدي أو في حالات جد وخيمة بوفاة الضحية تحت التعذيب أو أن تضع هي نفسها مكرهة حدّا لحياتها، كما يمكن للأذى العضوي أن يتوقف بتدخل القانون لحماية المعنّفة لكن مع استمرار النفسي ما استمرت في الحياة.
اعتداءات مستمرة، تجعل المدافعات والمدافعين عن حق المرأة في حياة بدون عنف، يطالبون بمراجعة الترسانة التشريعية الخاصة بالنساء وبحمايتهن وإدخال تعديلات عليها تأخذ بعين الاعتبار كل المتغيرات والمستجدات التي تم الوقوف عليها وملاحظتها وتسجيلها، للقطع مع كل أشكال التمييز ضد المرأة وإحقاق الإنصاف والعدالة.
«الاتحاد الاشتراكي»، وانطلاقا من وقائع فعلية، لحالات عنف طالت مجموعة من النساء من فئات عمرية وشرائح اجتماعية مختلفة، شملت في حالات معيّنة أمهات وأطفالهن، إضافة إلى عنف استهدف طفولة بريئة، على امتداد جغرافية المملكة، قررت صياغة بعض القصص التي تحرّر ضحاياها من قيود الإيذاء العمدي، مع تعديل شخوصها وبعض من تفاصيلها، مساهمة في تسليط الضوء على واقع لا يزال الكثير من مساحاته يتحكم فيها الصمت والألم.
قصص من نوافذ غرف العنف، اكتوى داخلها ضحايا من نيران الأذى الذي اختلفت صوره، والذي يواصل البحث عن ضحايا جدد.

 

يعشق مصطفى الكثير من الأشياء في الحياة، فهو محبّ للسفر والموسيقى ولعب الورق مع أصدقائه، لدرجة أن يمضي الساعات الطويلة دون أن ينتبه للأمر، لكنه متيّم أكثر بصنعته، مما جعل ورشته تكون قبلة للعديد من السيارات التي تكون في حاجة إلى تدخلات ميكانيكية، قد تستعصي على البعض لكنها بالنسبة له تكون هيّنة، بل انه يعشق الأعطاب التي لا يستطيع غيره إصلاحها، والتي تتميز بالتعقيد، فلا يترك السيارة إلا بعد أن يعيد ديناميتها إليها.
كانت الساعة تشير إلى التاسعة والنصف ليلا، ورغم ذلك لم يغادر مصطفى محلّه، فقد كان مرة أخرى على موعد مع سيارة من طراز متطور أصيبت بعطب ظاهره يشير إلى سبب معين في حين أن الأمر مرتبط بمشكل آخر، وقد تطلب منه الاهتداء إليه وقتا ليس بالهيّن. فجأة دخل رشيد ابن الجيران وأخبره أن زوجته اتصلت به هاتفيا مرات عديدة لكنه لم يردّ، وهو بالفعل ما انتبه ليه الميكانيكي لأنه متى تعلق الأمر بمشكل عويص في العمل، أو حين يكون في جلساته «الورقية»، يزيل صوت الهاتف كي يحافظ على تركيزه. لم يحمل رشيد معه خبر الاتصال فقط، فقد كان سبب قدومه هو سقوط لبنى الصغيرة ذات السبع سنوات مغميا عليها مرّة أخرى، مما يتطلب نقلها إلى المستشفى لتلقي العلاج.
سقط الخبر على رأس مصطفى كالصاعقة، فهو إن كانت له هواياته التي يحبها، فحبّ ابنته المدلّلة أكبر، بل أنه في كثير من الحالات كان يلجئ إليها حين تكثر الضغوط عليه، فيعانقها ويبادلها الحنان الأبوي، يلاعبها ويحدثها ويأخذها بين ذراعيه إلى أن يحسّ بعودة السكينة إلى نفسه، لكنه يتألم كثيرا حين تغيب عن وعيها، كما وقع في تلك اللحظات، فيسقط قلبه أرضا من شدّة الخوف عليها، خاصة وأنه لم يتم التعرف على سبب ذلك. خرج مصطفى مسرعا في اتجاه سيارته ورشيد يتعقبه وتوجها نحو المنزل، صعد الأدراج وهو يقفز بينها، دخل إلى الشقة ووجد صغيرته على الفراش ممددة وزوجته إلى جانبها، ترشّ الماء عليها والبصل إلى جانبها. حمل الأب ابنته والهلع بادٍ على وجهه واتجه بها صوب مصلحة المستعجلات بالمستشفى، حيث تم تسلّم الطفلة منه وشرع الطاقم المناوب في إجراء الفحوصات الضرورية عليها، وبعد مدة خضعت فيها لتدخلات عدّة عادت الصغيرة إلى وعيها، وتغيّر لون وجهها الذي عادت إليه نضارته، مستعيدا شكله الطبيعي، فتنفّس الأب الصعداء وهو يبتسم في وجه زوجته مطمئنا إياها.
ظل الوالدان لمدّة بالقرب من ابنتهما، وبينهما هما هناك، دخل الطبيب المناوب وشرع يستفسر الجميع عن الأحوال الصحية للصغيرة وعن سوابقها المرضية، وإن كانت قد دخلت في غيبوبة سابقا وهل عانت من تشنّجات، وإن كانت تخضع لفحوصات منتظمة تخص السكري. أسئلة قام الأب والأم بالردّ عليها من أجل مساعدة الطبيب على تكوين صورة كاملة عما يصيب لبنى، فتبيّن له أنها سبق وان تم نقلها إلى مصلحة المستعجلات لنفس الأسباب مرات عديدة، بل أن الأمر تطلّب استشفائها في عدد من المرات في مصلحة الإنعاش الخاصة بالأطفال والخضوع كذلك للتنفس الاختراقي.
أجوبة دفعت الطبيب إلى تعميق الأسئلة، وتوجيه بعضها بشكل مبسّط للطفلة لمعرفة ما الذي تكون تفعله وما الذي تحسّ به قبل أن تفقد الوعي ويصيبها المرض، فشرعت تحكي بعفوية عما تحسه خلال تلك النوبات، قبل أن تقول بأنها تكون عادية لكن بعد أن تعطيها والدتها الدواء تحسّ بعد ذلك بالإجهاد والإعياء وبعد لحظات يقع ما يقع؟ استدار مصطفى نحو زوجته وتعابير وجهه تطرح أكثر من سؤال، بعد سماعه لجواب صغيرته، ونفس الأمر بالنسبة للطبيب الذي استفسر عن طبيعة الدواء الذي تلفّظت به الصغيرة، لكن الزوجة اصفرّ وجهها وأصيبت بالارتباك، ثم حاولت تدارك الأمر لتقول بأن الأمر يتعلق بأحد الفيتامينات حتى تفتح شهيتها للأكل، لكن هذا الجواب الذي كان من الممكن أن يكون مقنعا، اصطدم بما صدر عن الطفلة هذه المرة حين قالت أن الأمر يتعلّق بإبرة يتم حقنها بها؟
اعتلت الحيرة محيّا الأب الذي انتفض وهو يصرخ في وجه زوجته مطالبا إياها بالإفصاح عن حقيقة ما تقوم به، فتدخّل الطبيب حتى لا يتطوّر الوضع وطلب من حراس الأمن الخاص أن يتم اصطحابه إلى غرفة مجاورة، ثم انتقل رفقة الأم إلى أحد المكاتب، وهناك بدأ يطرح عليها أسئلة متعددة في نفس الموضوع، مع تنبيهها إلى تبعات صمتها على صحة ابنتها وعليها، إذ ستكون معرضة للمساءلة القانونية، وما هي إلا لحظات حتى انهارت الأم وتساقطت الدموع من عينيها، واعترفت بأنها كانت تحقن طفلتها بحقن الأنسولين، التي تحصل عليها للاستعمال الشخصي، وذلك بسبب المشاكل المتعددة التي تعانيها مع زوجها، الذي كان يعنّفها تعنيفا شديدا، ويغيب بشكل متكرر عن المنزل، حيث كان يقضي الساعات الطوال في الخارج، مفضلا جلسات الورق والسفر والعمل على أن يكون برفقة أسرته، لذلك اختارت مكرهة، وفقا لتأكيدها، أن تؤلمه في ابنته التي يحب وأن تجعلها عاملا لعودته إلى المنزل، خاصة بعدما تبيّن لها أنه متى عرف بأنها مريضة يعود في الحال!
أجوبة، بدّدت الغموض المرتبط بالوضعية الصحية للطفلة، لكنها خلقت علامات استفهام عديدة حول الحالة النفسية لهذه الزوجة، التي أكدت أنها تعاني العنف والهجران ومن ممارسات غير سليمة من طرف زوجها، وفي نفس الوقت تتسبب كأمّ في إيذاء وتعنيف فلذة كبدها بكيفية ما معرضة إياها لكل أنواع الخطر المفتوح على الموت بسبب جرعات زائدة من الأنسولين.
حالة ضمن حالات متعددة قد يجد أطباء المستعجلات وكذلك أطباء الطب الشرعي أنفسهم أمامها، التي تكون موضوع جلسات للاستماع والتحليل من أجل تفكيك تفاصيلها، ونفس الأمر بالنسبة للمصالح الأمنية التي اتصل بها الطبيب المداوم تلك الليلة، لكي تنتقل إلى المستشفى وتفتح بحثا قضائيا في الموضوع، وأن يتم اصطحاب الزوجة نحو وجهة أخرى تلافيا لأن يقع ما لا يحمد عقباه، خاصة وأن الزوج والأب كان في حالة هستيرية قد تدفعه للقيام بأي فعل، لن يكون في صالح هذه الأسرة الصغيرة التي أصيبت بالشرخ، ليس تلك الليلة وإنما منذ زمن، ولم ينتبه أحد لذلك.


الكاتب : وحيد مبارك

  

بتاريخ : 20/04/2022