«نوافذ».. من غرف العنف (5)

حروق من دم

تعيش العديد من النساء، وإلى غاية اليوم، عنفا تختلف أشكاله وصوره، قد يكون جسديا أو نفسيا أو جنسيا أو قانونيا أو اقتصاديا أو ثقافيا …، ماديا أو معنويا. عنف قد يرافق الضحية أينما حلّت وارتحلت، قد تعيشه منذ نعومة أظافرها وهي طفلة أو يافعة ثم شابة، وقد يستمر ليصاحبها حتى بيت الزوجية ليكون عبارة عن حلقة ممتدة، وقد تجد نفسها لأول مرة تحت هذا السقف الجديد تعيش هذه التجربة المريرة غير المنتظرة.
عنف في البيت، في الشارع، في العمل، في الفضاءات التعليمية المختلفة مستوياتها، قد يكون عابرا وظرفيا، وقد يصبح ملازما و «أبديا»، يمكن لفصوله المادية أن تنتهي، بمتابعة المعتدي أو في حالات جد وخيمة بوفاة الضحية تحت التعذيب أو أن تضع هي نفسها مكرهة حدّا لحياتها، كما يمكن للأذى العضوي أن يتوقف بتدخل القانون لحماية المعنّفة لكن مع استمرار النفسي ما استمرت في الحياة.
اعتداءات مستمرة، تجعل المدافعات والمدافعين عن حق المرأة في حياة بدون عنف، يطالبون بمراجعة الترسانة التشريعية الخاصة بالنساء وبحمايتهن وإدخال تعديلات عليها تأخذ بعين الاعتبار كل المتغيرات والمستجدات التي تم الوقوف عليها وملاحظتها وتسجيلها، للقطع مع كل أشكال التمييز ضد المرأة وإحقاق الإنصاف والعدالة.
«الاتحاد الاشتراكي»، وانطلاقا من وقائع فعلية، لحالات عنف طالت مجموعة من النساء من فئات عمرية وشرائح اجتماعية مختلفة، شملت في حالات معيّنة أمهات وأطفالهن، إضافة إلى عنف استهدف طفولة بريئة، على امتداد جغرافية المملكة، قررت صياغة بعض القصص التي تحرّر ضحاياها من قيود الإيذاء العمدي، مع تعديل شخوصها وبعض من تفاصيلها، مساهمة في تسليط الضوء على واقع لا يزال الكثير من مساحاته يتحكم فيها الصمت والألم.
قصص من نوافذ غرف العنف، اكتوى داخلها ضحايا من نيران الأذى الذي اختلفت صوره، والذي يواصل البحث عن ضحايا جدد.

 

كانت الساعة تشير إلى منتصف الليل، فتح رشيد باب الشقة في هدوء ودخل وهو يتلصّص محاولا ألا يصدر صوتا يثير الانتباه، لكنه ما إن خطا بضع خطوات إلى الداخل حتى عمّ النور المكان ووجد والده مستيقظا، وقبل أن ينبس ببنت شفة انهال عليه وابل من الكلام الغاضب، كله لوم وعتاب وتقريع. حاول رشيد الدفاع عن نفسه، لكن حدّة غضب والده ازدادت، فشرع ينعت ابنه بالكسل والاتكالية والفشل، الذي لم ينجح لا في الدراسة ولا في إيجاد شغل.
طأطأ رشيد رأسه أرضا واتجه صوب غرفته والغضب يشعّ من عينيه، فما وقع تلك اللحظة لم يكن سابقة، بل أصبح الأمر طقسا يوميا، وصار مقتنعا بأن والديه يستغلان أبسط شيء، وفي أول مناسبة، سواء من خلال مشهد عبر التلفاز أو في ظل نقاش عائلي في أمر من الأمور أو أمام أقارب، لكي يتم تقريعه وتوبيخه ووصفه بأقبح النعوت، لأنه غادر كرسي الدراسة مبكرا ولم يتمكن من الاستمرار لا في التعليم ولا حين التحق كذلك بمؤسسة للتكوين المهني. جلس رشيد على سريره وفرائص جسمه ترتعد، واستحضر شريطا من الإساءات التي ظل يتعرض لها، صور، كلام وعنف، مما جعل النوم يجافي جفونه، فعادت به الذاكرة إلى عدد من المناسبات غير السّارة التي عاش خلالها إهانات مختلفة، فقرر أن يضع حدّا لكل ذلك وبأي شكل من الأشكال.
استيقظ رشيد ظهر اليوم الموالي، قام من مكانه متثاقلا وتوجه صوب الحمام، بعد ذلك دخل المطبخ بحثا عن شيء يأكله، فوجد والدته التي قام بتحيتها لكنها لم تجبه وفضّلت الصمت، فعاود الكرّة مرة ثانية قم ثالثة، وأمام استمرارها في تجاهله، شرع يعاتبها على تصرفاتها معه، مشددا على أنها لم تعد تشعره منذ سنوات بأمومتها وبحبها، خلافا لشقيقه الصغير، الذي يهتم به الكلّ، وتحرص على رعايته والاعتناء به بشدة، في حين أنها تتعامل معه بجفاء، وتتفق مع والده في كل ما يصدر عنه بشأنه. استفز الكلام الأمّ التي بادرت بتوبيخ الابن الأكبر الذي يبلغ من العمر 21 سنة، مذكّرة إياه بعدد وحجم المشاكل التي تسبب فيها، والتي كان من الممكن أن تكون مآلاتها وخيمة قد تزجّ به وراء قضبان السجن لولا الألطاف الإلهية، والجهد الكبير الطي يبذله والده في كل مرة لإنقاذه والبحث في سبل تصحيح مسار حياته. وضع أكّدت الأم أنه لن يستمر فقد قرر الأب أن يطرد ابنه من المنزل لأن كل المحاولات التي تم اعتمادها لتقويم سلوكه ولكي يقلع عن ممارساته ويقطع صلته برفقاء السوء ولكي يتحمل المسؤولية باءت بالفشل.
تصريح آخر صادم، جعل الأفكار المختلفة تدور في عقل الابن، فتضاربت أحاسيسه ومشاعره التي سيطر عليها الخوف والغضب في آن واحد، فقرر أن يقدم على فعل ينتقم فيه لكرامته المهدورة ويؤلم من خلاله والديه على حجم الجفاء وما بات يعيشه من كراهية، حسب اعتقاده، بسبب تصرفاتهما. سكت رشيد لبرهة قبل أن يبتسم في وجه والدته، بعد أن استقر رأيه على ما سيقوم به، فأكد لها أن كل شيء سيتغير وبأنه انطلاقا من اليوم ستعيش الأسرة وضعا جديدا، وبأن كل ما وقع سيصبح من الماضي، ثم توجّه صوبها مصرا على عناقها، فقبلت بذلك بعد صدّ أظهرته مرات متعددة، قبل أن تحنّ مشاعر الأمومة في قلبها، وشددت على أنها ووالده يخشيان عليه أكثر من نفسه، ويريدانه أن يكون رجلا.
أعدّت الأم وجبة الإفطار لابنها وأكملت تحضير الأكل، بينما جلس هو يرتشف جرعات الشاي ويقضم خبزه وبركان من الغضب يغلي بداخله دون أن يُظهر ذلك. كان رشيد يدخل الأكل إلى جوفه دون شعور، لأنه كان يخطط للطريقة التي سينفّذ بها ما فكّر فيه، وبينما هو كذلك نادته والدته مخبرة إياه بأنها مضطرة لعيادة مريضة رفقة عدد من الصديقات، وسيتطلب الأمر تنقلها إلى المستشفى، لذلك فهي لن تكون متواجدة وقت عودة يوسف من المدرسة في الرابعة والنصف زوالا، داعية إياه لإطعامه والاهتمام به والحرص على أن يراجع دروسه إلى حين عودتها. انفردت أسارير رشيد مطمئنا والدته بأنه سيقوم بكل ما يلزم، وجدّد وعده لها بان كل شيء سيتغير ولن يشكّل لها ولوالده بعد اليوم أي قلق ولم يكون مصدر إزعاج.
غادرت الأم البيت نحو وجهتها، وبعد مدّة من ذلك رنّ جرس المنزل فاستقبل رشيد شقيقه يوسف الذي يبلغ من العمر 10 سنوات. دخل الطفل العائد من المدرسة مستفسرا عن والدته، فأخبره الأخ الأكبر بالمستجد، جواب كان كاف بالنسبة إليه ليتوجّه سريعا ليغسل يديه ويقصد المطبخ بحثا عن الأكل، فالوجبة التي تعدّها أمّه أفضل مما يتناوله في مطعم المؤسسة. جلس الشقيق الأكبر يراقب شقيقه الصغير يتناول طعامه وهو يفكّر كيف أنه بات خصما له، فكلما تلقى اللوم وإلا وكان مرفوقا بالثناء على يوسف مع التأكيد على أنه سيكون أحسن منه أخلاقا وتمدرسا وتكوينا، والاستدلال في ذلك بنتائجه وحرصه على واجباته ودروسه، الأمر الذي لم يسجّل يوما خلال مسيرة رشيد منذ صغره، وفقا لكلام والديه. كلمات كانت كالسكين تشقّ صدر وقلب رشيد وجعلته يتألم على الدوام، وكان ألمه يزداد ويتعاظم وهو يرى كيف يتم توفير كل طلبات شقيقه ويعاين حجم الحب الذي يُكنّانه له، في حين أن كل التهميش والجفاء كانا من نصيبه.
أنهى يوسف الأكل وقام من مكانه يريد غسل يديه لتغيير ملابسه، فطلب منه رشيد الاحتفاظ بالملابس لأنه سيرافقه خارجا إذ أعدّ له مفاجأة كبيرة، حيث سيريه زوجا من الكلاب النادرة رفقة جرائها، وهي من الطراز النادر جدا، الذي يستهوي الصغير وشكّلت موضوع حديثه مرات عديدة. فرح الطفل للخبر لكنه أخبر شقيقه أنه يجب أن يعودا باكرا لأن لديه واجبات مدرسية عليه إنجازها، فوعده بأنهما لن يتأخرا. امتطى رشيد دراجته النارية التي كان قد حصل عليها كهدية من عمه كتحفيز له لحثه على التغيير نحو الأفضل، وجلس شقيقه ورائه، وخلال الطريق كان الشقيق الأكبر يحكي عن الكلب وعن جماله وقوته وعن إمكانية مداعبة يوسف له وللجراء ولما لا الحصول على جرو لتربيته. حديث كان يطرب الصغير وهو ينتظر بشوق ولهفة الوصول إلى المكان المذكور، قبل أن يتوقف رشيد عند بائع للعقاقير لاقتناء مشتريات ما، أخبره بأنها من أجل الزيارة، ثم واصل قيادة الدراجة مغادرا الحي في البداية مرورا بأحياء أخرى قبل أن تطول المسافة، مما جعل الصغير يعبر عن قلقه وخوفه من التأخر، لكن الشقيق الأكبر كان يزرع الطمأنينة في قلبه ويعده بأن كل شيء سيكون على ما يرام، وهي اللازمة التي ظلت تتكرر إلى أن وصلا إلى منطقة خلاء.
أوقف رشيد دراجته ونزل شقيقه الذي بدت عليه علامات الحيرة وهو يرى بعض الدور المترامية هنا وهناك، بينما كانا هما واقفين في أرض خلاء، فاستفسر يوسف عن الأمر وعن مكان الكلاب، لكن الأخ الأكبر عوض تقديم الجواب تغيرت تعابيره في لحظة وهاجمه بألفاظ نابية مكيلا له كل أنواع الاتهامات التي تحمّله مسؤولية التفريق بينه وبين والديه. أحسّ الصغير بالرعب وحاول الهرب لكن قدماه لم تقدرا على المشي، خاصة بعد أن اخرج رشيد سكينا من الكيس البلاستيكي وقنينة لم يعرف محتواها قبل أن يتم رشّه بما فيها فشعر باحتراق في عينه ووجهه وبعض من أنحاء جسمه، ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ بل وجه الأخ الأكبر ضربات بالسلاح الأبيض للطفل ثم سدّد إليه لكمات على مستوى وجهه.
صرخ الصغير ألما متوسلا وهو يبكي من حرّ ما أصابه دون ان يرفّ جفن لشقيقه الذي حاول الاستمرار في الاعتداء عليه، لكن مرور كوكبة من الدراجات النارية جعلته يرتعد فحاول الفرار في الوقت الذي ازداد فيه صراخ الصغير باكيا متألما، الأمر الذي استرعى انتباه القادمين الذين غيروا اتجاه دراجاتهم صوب مكانه، فاصطدموا بالمشهد المروّع مما جعل عددا منهم يتعقبون الجاني الذي تمت محاصرته وإيقافه. كان المارة من أبناء المنطقة مما جعل أحدهم يتصل بشقيقه القريب من المكان مخبرا إياه بما وقع، الذي جاء مسرعا على متن سيارته حيث تعاون عدد منهم لنقل الطفل صوب أقرب مؤسسة صحية بالنظر لفداحة الوضع، بالمقابل تم الاتصال بمصالح الأمن لإخطارها بالنازلة، إذ حلّت دورية للدراجين أولا ثم سيارة الشرطة التي عملت على تسلّم المعتدي الذي كان في حالة هستيرية، مما تطلب نقله لاحقا بعد القيام بالإجراءات الإدارية على مصلحة الصحة النفسية والعقلية في وضعية اعتقال لإنجاز تقرير طبي بحالته. عقب ذلك تم الالتحاق بالطفل الذي جرى نقله على متن سيارة إسعاف نحو المركز الاستشفائي الجامعي، حيث تبيّن على أنه يحمل آثار عنف واضحة بعد تعرضه لضربات بالسلاح الأبيض، إضافة إلى الحروق الكيماوية التي تسبب فيها حمض الكلوريدريك الذي تم رشه به، والتي طالت سائر أنحاء جسمه، فضلا عن تعرض عينه اليسرى لحرق مما تسبب في تضرر القرنية، بالإضافة إلى إصابته بكسر على مستوى عظام العين. وبعد مدّة ليست بالهينة تم التواصل معه والحصول على المعلومات التي تخص عنوان السكن واسم والديه حيث تم إخبارهما بالواقعة بعد أن كانا يبحثان عن الشقيقين عقب عودتهما دون أن يجداهما في المنزل، فسقط الخبر على رأسهما كالصاعقة…


الكاتب : وحيد مبارك

  

بتاريخ : 22/04/2022