تعيش العديد من النساء، وإلى غاية اليوم، عنفا تختلف أشكاله وصوره، قد يكون جسديا أو نفسيا أو جنسيا أو قانونيا أو اقتصاديا أو ثقافيا …، ماديا أو معنويا. عنف قد يرافق الضحية أينما حلّت وارتحلت، قد تعيشه منذ نعومة أظافرها وهي طفلة أو يافعة ثم شابة، وقد يستمر ليصاحبها حتى بيت الزوجية ليكون عبارة عن حلقة ممتدة، وقد تجد نفسها لأول مرة تحت هذا السقف الجديد تعيش هذه التجربة المريرة غير المنتظرة.
عنف في البيت، في الشارع، في العمل، في الفضاءات التعليمية المختلفة مستوياتها، قد يكون عابرا وظرفيا، وقد يصبح ملازما و «أبديا»، يمكن لفصوله المادية أن تنتهي، بمتابعة المعتدي أو في حالات جد وخيمة بوفاة الضحية تحت التعذيب أو أن تضع هي نفسها مكرهة حدّا لحياتها، كما يمكن للأذى العضوي أن يتوقف بتدخل القانون لحماية المعنّفة لكن مع استمرار النفسي ما استمرت في الحياة.
اعتداءات مستمرة، تجعل المدافعات والمدافعين عن حق المرأة في حياة بدون عنف، يطالبون بمراجعة الترسانة التشريعية الخاصة بالنساء وبحمايتهن وإدخال تعديلات عليها تأخذ بعين الاعتبار كل المتغيرات والمستجدات التي تم الوقوف عليها وملاحظتها وتسجيلها، للقطع مع كل أشكال التمييز ضد المرأة وإحقاق الإنصاف والعدالة.
«الاتحاد الاشتراكي»، وانطلاقا من وقائع فعلية، لحالات عنف طالت مجموعة من النساء من فئات عمرية وشرائح اجتماعية مختلفة، شملت في حالات معيّنة أمهات وأطفالهن، إضافة إلى عنف استهدف طفولة بريئة، على امتداد جغرافية المملكة، قررت صياغة بعض القصص التي تحرّر ضحاياها من قيود الإيذاء العمدي، مع تعديل شخوصها وبعض من تفاصيلها، مساهمة في تسليط الضوء على واقع لا يزال الكثير من مساحاته يتحكم فيها الصمت والألم.
قصص من نوافذ غرف العنف، اكتوى داخلها ضحايا من نيران الأذى الذي اختلفت صوره، والذي يواصل البحث عن ضحايا جدد.
ركن بوشعيب سيارة الأجرة في محطة البنزين واتجه صوب منزله بعد أن تمت عملية معاينة السيارة ووضعيتها ومنسوب الغازوال ثم تسليم المفتاح للسائق المناوب. وهو في طريقه لم يكن يفكر إلا في 3 أشياء تعتبر طقوسا يومية مقدّسة بالنسبة له، لم تتغير على مرّ سنين عديدة، والتي تتمثل في تناول وجبة الغذاء ثم النوم فالاستيقاظ مساء والذهاب إلى المقهى لملاقاة أصدقائه من أجل لعب الورق، هذا الطقس الأخير الذي لم يكن مجرد تسلية وتزجية للوقت، بما أن الأمر يتعلق بجلسة تمتد لساعات طويلة قد تجعل منه فائزا بمبلغ مالي أو خاسرا، وبطبيعة الحال فهو يمنّي النفس بالربح لأن الخسارة تعني ضياع ما تحصّل عليه خلال عمله كسائق.
جدول حياة روتيني، إذا كان يجد فيه بوشعيب راحته فإن نعيمة زوجته وعلى العكس من ذلك تعتبره سبب تعاستها، فالرجل الذي تزوجته بعد رحلة حب طويلة وأنجبت منه 3 أطفال، أكبرهم يبلغ 14 سنة واًصغرهم رضيع لم يتمم سنته الأولى بعد، لا يتحمل كامل مسؤوليته، ويهدر ما يحصل عليه من مال في المقامرة، مما يجعلها تعاني الأمرّين من أجل توفير واجب الكراء، ومصاريف الماء والكهرباء، وتدبير العيش اليومي، بالنظر إلى أن ما يخصصه زوجها للمنزل لا يسد الحاجيات، لهذا تجتهد في مجال الخياطة، وفي حالات أخرى عندما يكون الوضع عصيبا تطلب مساعدة والدتها، لأن والدها لم يكن يوما موافقا على هذا الزواج، بل يرى في كل مرة وأمام كل خصام بأنها يجب أن تطلب الطلاق، الأمر الذي لم تستطع القيام به، لعاملين اثنين، الأول له صلة بالأطفال، والثاني لأن الزوج يهددها في كل مرة بالقتل إن هي نطقت أمامه بذلك.
لم يكن بوشعيب يشعر بأدنى حرج أو مركب نقص أمام هذا الوضع، فما يهمه هو صورته الاجتماعية أمام الجيران والأصدقاء، وأن يرى الجميع بأن لديه أسرة، وكان مقتنعا بأن الحياة الزوجية لا يمكنها أن تسلبه حياته الخاصة التي اعتاد عليها منذ مرحلة الشباب، ولا أن تصادر منه لحظات المرح، ويتعيّن على نعيمة أن تتحمل قسطا مهما من المسؤولية لكي تساعد على استمرار الحياة. دخل بوشعيب المنزل، وبعد حصة النظافة وتغيير ملابسه جلس لتناول وجبة الغذاء وهو ينطق بكلمات تعبر عن الغضب لكنه كان كمن يحدث نفسه. استفسرت الزوجة عن حال زوجها إن كان قد صادفته مشاكل في عمله أو أصاب سيارة الأجرة التي يشتغل عليها أي مكروه، خاصة وأنه غير ما مرّة طالبها بمدّه بمبالغ مالية من أجل إصلاح أعطابها، لأن صاحب السيارة يخلي مسؤوليته ولا يهتم سوى بأن تكون في نفس الوضعية التي سلّمها له.
التفت بوشعيب صوب زوجته وهو يصرخ مستفسرا عن سبب تواجد أبنائه كلهم، وهو الذي سبق وأن أخبرها أن اليوم الذي لا يدرس فيه الأكبر والأوسط يجب أن تصطحبهما رفقة الرضيع إلى منزل والدتها لكي ينام ولا يقلق راحته أي واحد باللعب والضجيج، خاصة وأن أصغرهم لم يكفّ عن الصراخ منذ أن دخل البيت. سؤال غاضب ردّت عليه الزوجة بهدوء وهي تحاول أن تشرح لشريك عمرها المانع من ذلك، مبرزة أنها مطالبة بإتمام عمل تنتظر منه مقابلا ماديا سيخصص لإصلاحات في البيت، أما بخصوص الصغير فقد ارتفعت حرارته زوالا لسبب لم تفهمه وقد وضعت له مجموعة من الكمّادات لعلّها تنخفض، وبأنها لم تذهب به إلى المركز الصحي لأنها كانت تنتظره كي تقدم له الأكل، وبالتالي تعذر عليها اصطحاب الرضيع لمعرفة ما به كما أنه لم يكن بإمكانها مرافقة ابنيها عند والدتها.
تبريرات، كما يراها بوشعيب، لم تقنعه بالمرّة، فأكمل وجبته بغضب وهو يتوعّد الجميع، مهددا إن هو سمع صوتا أن يؤدب صاحبه، فما كان من الابن الأكبر والأوسط، وبتوجيه من والدتهما، إلا أن خرجا إلى الزنقة بحثا عن أصدقاء لكي يلعبا ويقضيا معهم بعض الوقت، في حين ضمت الرضيع إلى صدرها وهي تحاول إسكاته لعلّه ينام. دخل الزوج إلى غرفته واستلقى على الفراش، وسرعان ما ارتفع صوت شخيره، في حين أعدّت سميرة رضاعة حليب بها بعض الأعشاب الطبيعية أملا في أن تخفف من أوجاع وآلام صغيرها وأن تخفّض من درجات حرارة جسمه، فالمركز الصحي قد أغلق أبوابه، وهي لا تتوفر على مقابل لزيارة الطبيب الخاص، والزوج الذي يجب أن يجد حلاّ يغط في النوم ويعتبر نفسه غير معني بالأمر.
مرّت بضع دقائق هادئة، لكن بعد فترة شرع الصغير في الصراخ والبكاء بشدّة، ورغم محاولات والدته إسكاته إلا أنها لم تفلح في ذلك، فالألم كان أكبر من سعيها. صراخ متواصل جعل بوشعيب يستيقظ من النوم، فعمل في البداية على دعوة نعيمة لإسكات الرضيع بكلمات غاضبة دون أن يغادر الفراش، ثم طالبها بمغادرة المنزل لاحقا، الأمر الذي ردّت عليه الزوجة بأنه يتعذر عليها، لأنها تنتظر زبونتها كما أنها لا يمكن أن تذهب بالجميع عند والدتها المتقدمة في السن والتي تعاني من أمراض هي الأخرى، بالمقابل طلبت منه حمله إلى المستعجلات أو الصبر قليلا لربما يرتاح وينام. ردّ زاد من حنق الرجل، الذي لم يستسغه ولم يحتمل إقلاق راحته وإفساد قيلولته، فنهض من الفراش وشرارة الغضب تنبعث من عينيه وتوجّه صوب زوجته التي تراجعت إلى الخلف خائفة لأنها اعتقدت أنه سيعنّفها، خاصة وأنه أقدم على الاعتداء عليها جسديا مرات عديدة، لكن وخلافا لذلك وفي غفلة منها قام بانتزاع الرضيع منها وشرع بشكل هستيري في عضه بكل وحشية في أنحاء مختلفة من جسمه، فما كان من الزوجة وأمام هول المشهد إلا أن شرعت في الصراخ عاليا والتوسل وهي تحاول استرداد ابنها منه، لا سيّما وأن الأب لم يكتف بالعضّ بل أنه وجّه للجسم الصغير البض عدة ضربات قبل أن يرميه أرضا.
حملت نعيمة رضيعها من الأرض وهي تذرف الدموع وخرجت مهرولة من المنزل تبحث عمن ينقلها إلى المستشفى، أما الزوج فقد عاد بكل هدوء إلى سريره واستلقى عليه مرّة أخرى يداعب النوم وكأن شيئا لم يقع. أثناء ذلك قامت الأم وبمساعدة أحد الجيران بنقل الصغير إلى المستعجلات، وهناك قام الطبيب المدوام بفحصه، والصدمة بادية على محيّاه من أثر ما عاينه، مستفسرا عمن قام بهذا الاعتداء الشنيع، فحاولت الأم التستر عن التفاصيل الحقيقية للواقعة وادّعت أن إبنها الذي يكبره يغار من الاهتمام والحب الذي يُخصّص له فاعتدى عليه. ادعاء تبين للطبيب عدم صحته فآثار العضّ الواضحة على جسم الرضيع تؤكد على أن من قام بهذا الفعل هو شخص راشد، كما تبين بعد إجراء فحوصات بالأشعة له إصابته بكسور على مستوى الجسم بأكمله، مما تطلّب ربط الاتصال بالمصالح الأمنية التي حلّت بعين المكان من أجل القيام ببحث في النازلة واستجلاء حقيقة ما جرى.