لشهب: التعايش محاولة فهم منطلقات ما يفرق للوصول إلى ما يجمع
كيف يمكن أن نؤسس لفسلفة الحوار والتعايش بين الشعوب والحضارات في مجتمع دولي يرتفع فيه يوما بعد يوم صوت الرصاص، ويتم الترويج فيه لمقولة “صدام الحضارات” الحتمي؟ وهل يمكن بناء هذا الحوار في ظل مركزية غربية تسندها إيديولوجيا قائمة بذاتها تسعى لفرض نوع معين من الحوار ، قطباه شمال متفوق وقوي، و جنوب ضعيف وتابع؟ هل نتجه الى مجتمع دولي متعدد الأقطاب ونهاية الخطاب المنتصر لهذه المركزية؟
أسئلة من ضمن أخرى، شكلت مدار ندوة “التعايش والحوار بين الثقافات” التي حضرها الفيلسوف النمساوي هانس كوكلر أول أمس الأحد 5 يونيو بالمعرض الدولي للنشر والكتاب في دورته 27 مع تلميذه حميد لشهب وسير فقراتها الأستاذ محمد مزيان.
لا يرى الفيلسوف النمساوي هانس كوكلر أية إمكانية لنجاح الحوار بين الشعوب والثقافات، إلا بتواجد هذه الأخيرة في وضعية ندية تنبذ كل تفاضلية أو تفوق لثقافة على أخرى، مشيرا إلى ما يحدث اليوم من محاولات لابتلاع الثقافات وفرض نموذج أحادي الجانب، ومن هنا يؤكد كوكلر على ضرورة التأويل الثقافي والتعدد الثقافي الذي يعتبره مفتاح السلم العالمي، وهو ما يمكننا من التأسيس لحوار يساهم في بناء نظام عالمي بديل قد يعوض ما هو مفروض حاليا، مسجلا العلاقة الترابطية بن محاولة البناء هاته والحوار نفسه.
لا يتطرق هانس كوكلر إلى حوار الحضارت دون أن يستحضر مقولة “صراع أو صدام الحضارات” التي نظّر لها صمويل هنتنغتون، والتي تجزم بكون الاختلافات الثقافية ستكون هي المحرك الرئيسي للنزاعات والحروب في المستقبل. وهنا ينتقد كوكلر ما سماه “بالنفاق”، حيث يتم تشخيص هذا الصدام وتسمية أطرافه ، والدعوة في نفس الوقت إلى الحوار وهو ما يبرز – حسب كوكلر – تلاعبا بذكاء الشعوب وثقافاتها، لأن هذه الدعوة تتجاهل شروط الحوار الحقيقي المبني على التعايش بدل الصدام، ومنه يبرز دور فلسفة الحوار التي من شأنها، بل من مسؤوليتها ، إعادة بناء حوار نقدي على أسس نقدية تشارك فيه كل الثقافات شريطة منحها فضاء ومساحة فعل حقيقيين. لذا يضع كوكلر أربعة مبادئ لتحقيق التعايش بين الحضارات والعودة الى الاهتمام بالإنسانية كقيمة، ويوجزها في:
1-الحوار يقتضي الاهتمام بثقافة الآخر، والمساواة بين الثقافات في كل مناحيها، بما فيها أبعادها الأخلاقية، بعيدا عن فرض أخلاقيات موحدة مفروضة بالقوة، تنتصر لنموذجية القيم الغربية القوى وتقصي أي قيم دونها. وهي القيم التي تسير اليوم إلى زوال وأولها النزعة الفردانية الغربية .
-2 شرط آخر يقوده كوكلر لنجاح الحوار وتحقيق التعايش الحقيقي يتمثل في وعي كل ثقافة بذاتها على ضوء ارتباطها بالآخر، لأن الحوار المبني على الاحترام المتبادل يسمح للفرد أيضا بفهم نفسه والتعبير من ثمة عن هويته الثقافية بشكل أفضل.
3 – كل حوار يسعى لتعزيز التعايش، لا بد أن يحتكم الى المبادئ والأعراف الكونية وعلى رأسها الاحترام والتسامح والإنصات، وهي المبادئ التي لا تقبل المساومة وتتقاسمها كل الحضارات وتطالب بها.
4 – لا يتورع كوكلر، بخصوص هذا الشرط، في نقد الغطرسة الغربية واعتبار نفسها مركز الحضارات والثقافات، منبها لخطر المركزية الغربية التي سوقت للمثل الإنسانية لتأبيد سيطرتها وتبريرها، خدمة لمصالحها الاستراتيجية في عدد من مناطق الصراع في العالم ومنذ الفترة الكولونيالية، وهنا يشير كوكلر الى فشل الغرب في تسويق هذا النموذج اليوم والى أن “النزعة الإنسانية” التي يتم التذرع بها كثيرا قد فقدت مصداقيتها.
ولا يستثني كولكر أيضا في هذه المركزية ، عمل بعض المؤسسات الدولية وأولها منظمة الأمم المتحدة التي أثبتت عدم حيادها في كثير من قضايا النزاعات الدولية لأن قراراتها مرتبطة بإرادة الأعضاء ممن يهيمنون على العالم اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، وهو ما جعله ، في أكثر من مناسبة، يدعو الى إصلاحها بالاحتكام الى العدالة والقانون الدولي.
إن الشروط الأربعة التي حددها كوكلر ضرورية لفهم التنوع الثقافي والحضاري بشكل صحيح وعدم اختزاله في سمات بعينها، وهو ما يؤكد الفلسفة الإنسانية التي تؤطر عمل كوكلر ومساره الفلسفي، فلسفة تتغذى من الكونية التي تساهم في تطويرها كل ثقافات العالم، دون إقصاء أو تهميش.
وإذا كان كوكلر قد حدّد شروط إقامة حوار حقيقي يفضي الى التعايش والسلم، فإن تلميذه حميد لشهب ، الكاتب والمترجم والمتخصص في فلسفة هايدغر، يرى أن الحروب وخاصة الحرب الدائرة اليوم بين روسيا وأوكرانيا، يقف خلفها عدم التأسيس للحوار عموما والحوار السياسي خصوصا، على أسس فلسفية وأخلاقية تحظى بالإجماع الدولي. واقترح صاحب “شرفات حوارية” مقاربة الحوار الثقافي والحضاري في علاقته بمفهومي التعايش والاختلاف، وكيفية تدبير التنوع الثقافي والحضاري ، وهو التدبير الذي لن يتأتى إلا عن طريق وعي الفرد بنقط اختلاف الثقافات واكتساب تصور شمولي لما يجمع بينها، دون أن تتم التضحية بالخصوصية الثقافية للشعوب .
إن التعايش، حسب لشهب، لا ينفي الاختلاف بل يطلبه ويدافع عنه ويجعله قاعدة مؤسسة لأي حوار ناجح، لأن الفرد يعي أهمية العيش المشترك في اختلافاته الممكنة كقيمة من القيم العليا للحياة، وعلى أساس هذا الفهم وهذا الوعي، تبنى قيم مشتركة من خلال عملية تشاركية من طرفين أو أكثر.
لا يعني الحوار عند لشهب بأي حال من الأحوال التفاهم والإجماع، بل وعي ضرورة الاختلاف تحت مظلة التعايش. ويستدعي هذا الأخير التسامح، وهنا ينبه إلى أن التسامح لا يعني محاولة إرضاء الآخر بأي طريقة كانت، بل هو محاولة فهم منطلقات ما يفرق للوصول إلى ما يجمع.
لا يفوت لشهب الإشارة، كأستاذه كوكلر، الى إعادة النظر في العولمة كخطر على الحوار الثقافي والفلسفي بين الشعوب.
مؤكدا أن العولمة كما تُسوَّق اليوم، هي في العمق حرب على كل ثقافات الشعوب غير الأمريكية وغير غرب أوروبية، ما دفعه الى القول بأن هدفها الأسمى، هو إقصاء تنوع الثقافة العالمية بهدف مسحها، بالإبقاء على العناصر الفلكلورية فيها وبيعها كثقافة للشعوب، في حين أن هذه العناصرهي جزء فقط من الثقافة العامة لشعب ما. ويثير لشهب أمرا بالغ الأهمية في هذا الإطار عندما يؤكد بأن الإصرار على الإبقاء على العنصر الفلكلوري فقط في الثقافة، هو إصرار على الإبقاء على تمثل الفلكلور كثقافة بدائية، صالحة للفرجة ولا ترقى الى مستوى ثقافة بالمعنى الدقيق للكلمة أي الثقافة العالمة التي تريد المركزية الغربية احتكارها.
وبحكم إقامته وعيشه في الغرب وبالنمسا تحديدا، لأكثر من ثلاثة عقود، ومعايشته للشعوب هناك، فالتذمر والإحباط من نمط العيش الذي فرض عليها، جعله مقتنعا بأن الفرصة مواتية للعرب والمسلمين اليوم، أكثر من أي وقت مضى، للمساهمة الفعالة في بناء عالم متعدد الأقطاب، بدأت ملامحه تظهر منذ سنوات. مساهمة ستكون غنية بحكم الواقع العربي المتعدد الثقافات والإثنيات والجغرافيات، وهو ما سيمكنهم من تقديم بديل عن الأقطاب التي تحاول العودة بالعالم الى منطق القوة والعسكرتارية والهيمنة الاقتصادية التي بواسطتها يتم إخضاع الشعوب الأخرى. هذه الشعوب اليوم تبحث عن بدائل للخروج من هذا النمط الاستهلاكي الذي لم يعد يستهويها، بل تعتبره خطرا عليها.
ولا يقدم لشهب في هذا الصدد وصفات جاهزة لبناء هذا القطب العربي الإسلامي، فهذا ليس من مهمة الباحث والمفكر، لكنه يؤمن بأن هذا البديل ممكن، بل مطلوب في عالم اليوم، لإعادة الإنسان الى مركز الاهتمام وجمع شظاياه المتناثرة ليعيش إنسانيته الأصيلة.