هدى فخر الدين: الميتاشعريّة في التراث العربي.. من الحداثيين إلى المُحدَثين

هدى فخر الدين كاتبة ومترجمة من لبنان، وأستاذة في الأدب والنقد العربيين في جامعة بنسلفانيا. حائزة على شهادة الدكتوراه في الأدب العربي والأدب المقارن من جامعة إنديانا في بلومنغتن وشهادة الماجيستر في الأدب الإنجليزي من الجامعة الأمريكية في بيروت. صدر لها مؤخرًا كتاب بعنوان «قصيدة النثر العربية: بين الممارسة والتنظير» عن دار جامعة أدنبره، ضمن سلسلة دراسات الأدب الحديث التي يحررها ويشرف عليها الدكتور رشيد العناني.
یتناول هذا الكتاب قصیدة النثر العربیة كممارسة شعریة ذات منطلقات نظریة محركة، تهدف إلى مساءلة تخریبیة وتوسیعیة لحدود الشعر في اللغة العربیة. یعتمد الكتاب على قراءة متعمقة في أعمال مجموعة من الشعراء الذین شكلوا محطات واتجاهات مختلفة في هذا المشروع.

p كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
n قادني نحو هذا الموضوع اهتمامي بحركات الشعر الحديث عالميًّا وعربيًّا. فبعد أن حصلت على شهادة ماجستير في الأدب الإنجليزي من الجامعة الأميركية في بيروت، انتقلت إلى أميركا إلى جامعة إنديانا. وكانت خطتي أن أدرس حركة الحداثة في الشعر العربي إذ كنت معجبة بتجارب السياب وعبد الصبور والملائكة وجماعة شعر وغيرهم من رواد الحداثة.
وقد نشأتُ على قراءة المعلقات وأبي تمام والمتنبي وغيرهما من العباسيين، إلا أني أعدت اكتشاف أبي تمام وأنا في أميركا. في «غربة الوجه واليد واللسان»، كما يقول المتنبي، وجدت في لغة أبي تمام وفي مشروعه التجديدي ملاذًا وسَكنًا. فقرّرت أن أدرس هذا الوعي بالذات وباللغة وبالتراث الذي يظهر جليًّا في شعر أبي تمام وغيره من المحدثين العباسيين، كما يظهر عند معظم الشعراء أصحاب مشاريع التجديد. وطبعًا كان لعملي مع الدكتورة سوزان ستيتكيفتش في جامعة إنديانا أثرٌ في تحديد هذا الموضوع. فالكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه حضرتها تحت إشرافها وفي حوار مع ما كتبته عن القصيدة العربية خاصة عن شعر أبي تمام. وقد صدر الكتاب أصلًا بالإنجليزية عن دار بريل في العام 2015.

p ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
n يتخذ هذا الكتاب من تجربة الحداثة الشعریة في القرن الماضي مدخلًا لتناول تجربة الحداثة العباسیة، في محاولة للربط بین مفهومي الإبداع والتجدید في الحالتین. والجامع المشترك الأساسي بین هاتین التجربتین هو وعي نقدي میتاشعري لدى الشعراء بمواقفهم من الموروث الشعري، وبدورهم في خلق الجدید الذي یحاور هذا الموروث أو یتحداه.
«الميتاشعرية» مصطلح يشير إلى التنظير أو الوصف أو الكلام على الشعر ضمن إطار العمل الشعري نفسه. «الشعر على الشعر» أو «القصيدة في القصيدة» ترجمتان محتملتان للمصطلح اليوناني أصلًا. لم أقصد في هذا الكتاب إلى إقحام هذا المصطلح في الشعر العربي أو إسقاطه عليه، بل على العكس، سعيت إلى الكشف عن وجود هذا المفهوم وهذه الممارسة لدى الشعراء العرب ولا سيما المحدثين العباسيين الذين قدّموا لنا في قصائدهم تنظيرًا عميقًا ومركّبًا للشعر والقصيدة واللغة الشعرية والعلاقة مع التراث. وقد استعنت بالميتاشعرية كإطار نظري لأربط بين تجربة الحداثة في القرن العشرين وتجربة الحداثة العباسية، لا لأقارن بين الاثنتين، بالمعنى المباشر السطحي، ولا لأثبت تأثير واحدة على أخرى، بل لأتحدى المقاربة التاريخية التي تعيق دراسة الشعر على أنه استمرارية أو حوار خلاق بين الشاعر وأسلافه، حوار يتجاوز التاريخ وتصنيفاته المفتعلة. فكل نص شعري حقيقيٍّ حاضرٌ وطارئ وجديد في كل زمن، ومشارك فاعل في حركات التجديد. فإذا كان الدهر يبلي كل شيء، كما يقول بشار بن برد، «فلا يبلى على الدهر القصيد»، بل على العكس، فلحظة الشعر تتجاوز التاريخ وتعيد خلقه دومًا.
ودراسة هاتين التجربتين الشعريتين جنبًا إلى جنب تتيح لنا فهمًا أعمق لما يعنيه الحديث أو المحدَث، بمعزل عن الاعتبارات الزمنية وثنائية المتقدم والمتأخر. فإذا حاولنا تجريد مصطلح الحديث أو المحدث من دلالاته الزمنية التي تربطه بما هو متأخر، وأعدنا فهم الحداثة على أنها خرق أو تمرد فني على القوالب القائمة والذوق السائد، نجد أن هناك أمثلة كثيرة على ذلك في التراث الشعري العربي لا تقتصر على فترة زمنية معينة.

p ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
n التحدي الأول كان تحدي اللغة. فهذه دراسة في الشعر العربي ووعيه بذاته وبدقائق لغته، كان من المفروض أن تكتب في لغة غريبة. فالكتابة عن الشعر العربي، وعن موضوع هذا الكتاب بالتحديد، باللغة الإنجليزية اغتراب وعناء مضاعفان. إذ كان على الشعراء كأبي تمام وأصحابه المحدثين الذين عاشوا حيواتهم الشعرية في اغتراب وفي تحدٍ لسياقاتهم، أن يغتربوا مرة أخرى في الترجمة.
ولكني مع الوقت وجدت في هذا ميزةً، ولا سيما في عملي على ترجمة الأشعار في الكتاب، لأني وجدت في الترجمة تمرينًا دقيقًا وخلّاقًا على قراءة الشعر والبحث في دقائقه. وهكذا أتاحت لي الترجمة والكتابة بالإنجليزية مسافة نقدية تشبه تلك التي يصفها مصطلح الميتاشعرية. فكنت واعية بنفسي وبما أفعله في هذا الكتاب وعيًا أكبر وأكثر حدة مما كان سيكون عليه الحال لو كتبت الكتاب بالعربية. ودفعني هذا إلى محاولة ترجمة القصائد والأبيات ترجمة تحفظ شيئًا من شعرية الأصل وتستلهم شيئًا من إمكانات الإنجليزية الشعرية. وربما لم أنجح في هذا كل الوقت، ولكن هذا ما كنت أسعى إليه.
بالإضافة إلى ذلك تعمدت في هذا الكتاب تحدي الفصل القاطع بين دراسة الشعر «الحديث» ودراسة الشعر «القديم» أو «الكلاسيكي». هذا الفصل الذي ورثناه عن المستشرقين وورثتهم من الدارسين العرب والأجانب الذين ينظرون إلى التراث الأدبي العربي فيرون ماضيًا بائدًا عليهم تخطيه للوصول إلى الحداثة. وكأن الحداثة ليست بناءً على الماضي، بل تغلّب عليه أو شفاء منه.
ولذلك أصرّ في هذا الكتاب على أهمية دراسة التراث الشعري لفهم شعرنا الحديث والمعاصر، فنحن بحاجة إلى هذا التراث وهذه الذاكرة الشعرية واللغوية لفهم قفزات الشعراء اللاحقين وثوراتهم ولوضعها في سياقها. فالإبداع الشعري هو حوار متجدد مع الماضي، حوار يفتح آفاقًا جديدة ويطرح أشكالًا جديدة للعلاقة مع التراث الشعري على نحو لا يحدد مسارات المشروع الجديد فحسب، بل يعيد تشكيل التراث مرة بعد مرة.

p كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
n هذا الكتاب دراسة نقدية لحركتي التجديد الأساسيتين في الشعر العربي. اعتمدت فيها على قراءة دقيقة لنماذج شعرية، وانطلقت منها لاستخلاص نظرية شعرية تتناول مواقف الشعراء المحدثين والحداثيين من تراثهم ومن مشاريعهم التي تتحدى هذا التراث، كما تضيف إليه وتعيد خلقه. آمل أن يكون الكتاب إضافة إلى المكتبة النقدية العربية التي تُُعنى بجماليات النص الأدبي قبل كل شيء، وتنطلق في خلاصاتها من قراءات نقدية وفية للشعر، قبل أن تلتفت إلى الكثير الكثير الذي يمكن للشعر أن يخبرنا إياه عن المجتمع والتاريخ. كما أتمنى أن يقدم هذا الكتاب أو أن يعيد تقديم بعض النماذج الشعرية التي تكشف عن البعد النقدي والتنظيري الكامن في تجربتي الحداثة اللتين درستهما هنا.

p ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟
n هذا الكتاب انطلاقة بالنسبة إلي في دراستي للشعر العربي واهتمامي به. وقد نتج عنه عدد من مشاريع الترجمة، كما أنه كان مدخلًا بالنسبة إلي في تقصي العلاقة بين التنظير والممارسة الشعرية، وهذا بحث تابعته في كتابي الثاني عن قصيدة النثر. الأهم من ذلك، يعلن هذا الكتاب التزامي بدراسة التراث الشعري العربي ككل، خارج المقاربة التاريخانية التي تجزّئه وتفككه وتتوهم احتمال دراسة حقبة منه أو التخصص فيها بمعزل عن علاقاتها بالحقب الأخرى. هذه المقاربة الجمالية والنقدية للشعر العربي أتّبعها في صفوفي وفي عملي مع طلابي الذين آمل أن يكونوا طلابًا أوفياء للتراث العربي ومخلصين للغة العربية ولذاكرتها الشعرية الحيّة.

p من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأملين أن يصل إليه القراء؟
n حرصت على أن تكون لغة الكتاب بسيطة وسلسة، لكي يكون متاحًا للقرّاء المهتمين بالشعر عمومًا وليس حكرًا على المتخصصين في الأدب العربي. لأني أرفض الموضع الاستثنائي الذي توليه المؤسسة الأكاديمية الأميركية للأدب العربي وغيره من الآداب «الأخرى». وهو موضع على هامش الدراسات الإنسانية، في المراكز والدوائر المعنية بـ»الشرق الأوسط» أو «الشرق الأدنى». وغالبًا ما تكون الدوافع لدراسة الأدب طارئة عليه، تسخّره لدراسة ظواهر سياسية واجتماعية. ولذلك أرى أنه من واجبنا، نحن دارسي الأدب العربي في الجامعات الأميركية، أن نتوجه إلى أوسع جمهور ممكن من القراء وأن نقيم حوارًا بناءً بين الشعر والنقد في اللغة الإنجليزية وبين الشعر والنقد في اللغة العربية.
وأنا الآن سعيدة بترجمة الكتاب إلى العربية وأتطلع إلى تلقيه من قبل القراء العرب ولا سيما المهتمين بالشعر. هذه علاقة مختلفة عن العلاقة مع القراء بالإنجليزية، لأنها تعيد الشعر إلى أصله وتريحه من جهد الترجمة. ولذلك، قلت في مقدمة الكتاب، إني أرى في هذه الترجمة «عودةً بعد اغتراب». وأنا شاكرة لدار أدب والقيمين عليها مبادرتهم هذه، وحرصهم على ظهور الترجمة بأحسن صيغة، كما أشكر المترجمة آية علي على الجهد الكبير الذي بذلته.


بتاريخ : 16/06/2022