«ما أصعب الانتظار !»، حدث نفسه وهو يقف على قارعة الطريق الغاصة بالناس، «منذ ساعات وأنا أقف هنا ..أصابني الملل، مر الكثيرون، لكن لا أحد منهم راقني، كلهم مسرعون ..كلهم مشغولون.. يحتضنون علب حلوى ويجرون كأن لوثة ما أصابتهم»..
يجلس على الرصيف ليريح قدميه المتعبتين، نظراته الحائرة تنتقل بين العابرين، يشعر بنعاس يدغدغ جفنيه، تنتقل ذاكرته إلى أيام دراسته الابتدائية، كان يهوى جمع البطائق البريدية الملونة، تذكر صفعة والده المدوية على خده عندما ضبط بين صفحات كتابه المدرسي بطاقة بريدية عليها صورة «بابا نويل» بجسمه المكتنز ولحيته البيضاء الطويلة وعربته التي تجرها الحيوانات « وليتي نصرانى لوالديك؟»، ثم يمزق البطاقة إربا ويرميها في وجهه…
«هاهي قادمة»، ينتصب واقفا، «لا تحمل أي علبة كالآخرين، مسكينة ربما ليس لديها من يحتفل معها أو يمنحها هدية السنة الجديدة! ؟»
تمر أمامه مسرعة كسهم انطلق من غمده دون أن تلقي عليه نظرة واحدة، يحاول مجاراة خطواتها ولكنه لا يستطيع.
-»هيه، أيتها السيدة انتظري ..أريد أن أعطيك شيئا»…
يلهث وراءها ككلب عطش، هي لا تعيره اهتماما، تنظر أمامها وتمضي كأنها على موعد مع المجهول.
-»انتظري لا أستطيع اللحاق بك، لدي شيء لك !»
فجأة تقف ثم تلتفت إليه كمن استيقظ من حلم :
-»ماذا تريد؟ هل تعرفني؟!»
-»لا، ولكن لدي شيء لك.. هدية !»
-»لست بحاجة لهديتك».
ثم تواصل طريقها دون أن تزيد كلمة أخرى، يقف مشدوها، اختلطت عليه مشاعر الصدمة والغضب، كان يظن أنها لن ترفض تلك الهدية الثمينة التي اختارها بعناية وحب كما اختارها هي من بين كل المارة ليقدمها لها …
– «لماذا لم تقبل هديتي؟ يا لها من متعجرفة! «…
يعود إلى مكانه على الرصيف، ثم يجلس على مضض، شعر أن مهمته مستحيلة، من سيقبل هدية من مجهول، ثم في لحظة ينتصب واقفا وكأن شيئا مفاجئا طرق أبواب تفكيره :
-» هؤلاء لا يستحقون هديتي، علي أن أبحث قرب النهر .. هناك سأجد حتما من يستحقها..».
يتابع سيره المتعثر، رجلاه الضعيفتان لا تساعدانه، عاهته تفرمل خطواته، لم يكن يوما كالآخرين، طفلا كان يسمع كلمات الشفقة من والديه، وفي المدرسة يتبعه زملاؤه كلما ولج الساحة:»آٍبو رجيلا وحدا»، يتضاحكون ويجرون خلفه، يدفعونه ليسقط وسطهم، تبلل الدموع خديه ينهض ويتجه نحو القسم، لا يشكوهم إلى المعلم، يستكين لحزن دفين يمسح دموعه التي اختلطت بالتراب فوق خده ويجلس..
وصل قرب النهر، الناس في هرج ومرج، إنها ليلة رأس السنة، موسيقى شعبية تصم الآذان، مقاه مملوءة بمرتاديها، شبان يعدون شهبا صناعية سيطلقونها عند منتصف الليل، أطفال متحلقون حول بائع البالونات الملونة، يشعر بغصة في حلقه، لم يلعب يوما بالبالونات الملونة، لم يجر خلفها وهي تطير، كان إخوته يلعبون ويجرون في كل مكان، يملؤون البيت صراخا وصخبا، وهو متكوم فوق كرسي خشبي يراقب لعبهم حتى يغلبه النوم…
وقف عند حافة النهر المهترئة، لم يمر على بناء هذا الكورنيش إلا سنوات قليلة، وهاهو قد استحال حطاما كأنه مبني بالكرتون وليس بالإسمنت، يراقب سريان النهر البطيء مثل عجوز في خريف العمر، الناس لا يهتمون به، لا تزعجهم روائح النتانة المنبعثة من جنباته، لا يسمعون استغاثاته، فقط يلتقطون الصور مع خلفيته الخضراء الملوثة، يحتفلون بقدوم سنة جديدة وكأنها ستحمل لهم في طياتها كل سعادة الكون، ثم تتعالى ضحكاتهم وصرخاتهم وفرحهم.. ولا مبالاتهم، والنهر حزين بعد أن فقد ربيعه، يترقب نهايته المحتومة وحيدا، لقد حالت الرمال المتراكمة بينه وبين معانقة المحيط وحبست السماء هداياها الثمينة عنه حتى جفت منابعه وأغلقت عيونها في سبات طويل …
اختار ركنا قصيا بعيدا عن الصخب، في تلك الزاوية حيث اعتاد مناجاة صديقه القديم، كم استمع هذا النهر صامتا لشكواه، كم مرة سقطت فيه عبراته الحارة لتختلط بمياهه التي كانت في ما مضى مثل بلور نقي، كم ضمد جراحه التي رقصت عليها مرارا أسراب بوم بشع كئيب، كم مرة أحس بنسماته الرقيقة تمسح وجنتيه وكأنه يواسيه، كان النهر مرفأ آمنا يتجه إليه كل ما هاجت في صدره أمواج الحزن واشتدت عواصفها، كان رفيق دربه ومكمن أسراره، ألا يستحق هو دون غيره هديته؟
من جيب معطفه أخرج علبة صغيرة بيضاء محاولا رميها نحو النهر، في الضفة الأخرى تتراءى له تلك السيدة المتعجرفة التي رفضت هديته تشير إليه بإلحاح وكأنها تحاول تنبيهه إلى شيء ما، لم يختر السور المحطم الفاصل بين النهر والكورنيش سوى هذه اللحظة لينهار تحت قدميه المريضتين…لم ير أحد سقوطه سواها ولم يسمع الناس صرخته المكتومة، بقيت علبته بين يديه متشبثا بها وكأنها طوق نجاة، وفي لمح البصر عانق صديقه القديم ثم غفا !