هذا الكتاب: من ضمير فرنسي حيّ، عن تدمير غزةَ وإبادةِ شعب

أقدم لكم مقاطع وعينات من مشاهدات ووقفات بعين وحضور المؤرخ الفرنسي والمناضل الأممي Jean-Pierre Filiu من ضمن حصيلة الرحلة الشجاعة التي قام بها إلى قطاع غزة مع فريق أممي استغرقت من 19 دجنبر2024 إلى 21 يناير 2025. عكف عقِبها على تدوين ما شاهد وكابد ويعانيه الغزّيون من الأهوال بأصنافٍ وأشكال، وفي ظروف «عيش» مستحيلة، وأهوال شتىّ جمعها كتابه صدر هذ الشهر بعنوان:»Un historien à Gaza» (دارLes Arènes). يعُد أول شهادة حية تنقل للرأي العام الفرنسي والغربي حقيقة ما جرى في تلك الأرض الشهيدة منذ الهجمة العسكرية لحماس في 7 أكتوبر 2023، وبداية الانتقام المدمّر الذي شرعت إسرائيل في تنفيذه، والقتل الإبادي المتواصل وصل إلى ستين ألف قتيل شهيد، وبعد ما ينيف عن ستمائة يوم بلغ، حد التجويع والإفناء على مرآى ومسمع. من هنا أهمية هذا الكتاب الذي يكسر جدار صمت إعلامي طال ضد فظاعات العدوان الإسرائيلي، والتعتيم على جرائمه، بقتل الصحفيين والمراسلين الفلسطينيين، والمنع التام لدخول الصحافة الأجنبية إلى القطاع المنكوب لتتم الإبادة بدون شهود وتُزوّر الحقائق، ساهم الإعلام الغربي المتواطئ في البداية في ترويجها، وغطّى على جرائم إسرائيل مكتفيًّا بإدانة حماس والتضحية بشعب بأكمله.. إلى الأسابيع الأخيرة أصبح مستحيلًا الصمت على إبادة وتجويع معلنين، الكاميرات تقدم مشاهد الفناء اليومي وتسخر من قيم الغرب وحقوق الإنسان.
أخيرًا، انتبه إعلامُ الغرب ونُخبُه المناصرةُ للحريات وحق الشعوب إلى أنه لا يمكن التمادي في تحريف الحقيقة والعمى، وللإنصاف ليس كله، ففيه ضمائرُ حيةٌ وقطاعاتٌ واسعةٌ تظاهرت في الساحات والجامعات، قياداتٍ سياسية وهيئات أكاديمية، وقامات أدبية وفكرية، قالت لا للعدوان، طالبت بوقفه وتمكين فلسطين من حريتها ودولتها المستقلة.
في تسعة عشر فصلًا يرسم البروفيسور والمؤرخ النصير فيليو بانوراما للبلاد التي سبق له أن زارها من قبل مرات، وفي الرحلة الأخيرة يصفها بقول قطعي ب:» الأرض التي سبق أن عرفت لم يعد لها وجود، وما تبقّى منها يتحدّى الكلمات[ عن الوصف]». قال:» كنت في حاجة لأرى وأعيش بعد أن لم أعد قادرًا طوال أربعة عشر شهرًا متواصلة على تجميع الإحصاءات الكارثية والتحليلات المُنذرة شعرت بأن الحقيقة تهرب مني، بينما المنظمات الدولية لم تعد تعرف كيف وبأيّ درجة تستعمل في وصف الرّوع الذي لم يوجد له حسب تقييمها نظير»(12). لم يكن له من سبيل ليرى هذا الرّوعَ من الداخل، وبسبب المنع الذي تفرضه السلطات الإسرائيلية على الصحافة الأجنبية، إلا طريق وحلّ الالتحاق بمنظمة دولية وجدها في « أطباء بلا حدود» وضعت فيه ثقتها وإليها يُهدي حقوق تأليف الكتاب الذي أقدم هنا بعض مقاطعه ومعايناته الرهيبة. أختم هذا التقديم بعبارات فيليو الجريحة:» كان لا بد لي من أن أرى وأعيش هناك، لكي أستعيد في غزة، ليس معنى الكلمات وحدها، ولكن، أيضًا، القيم البسيطة لإنسانيتنا المشتركة»

أكبر سجن في العالم

من يذهب إلى غزة تحت القصف بدون انقطاع، والأنقاض حوله عنوان في كل مكان، والسكان بين قتيل وجريح، من جميع الأعمار. المشردون، المطاردون بعشرات الآلاف مدفوعون للنزوح من شمال إلى جنوب، والطعام شحيح، والماء قطرات، والحياة جحيمٌ نهارُها وليلُها سوداوان متشابهان، وغير هذا من ويلات وأحزان؛ أقول من يقرر الذهاب إلى مثل هذه الأجواء فضلًا عن أنه مقتنع بخوض مغامرة خطرة، يضع قدمه على عتبة الجحيم. هذه هي الصورة الأولى التي يرسم بعض ملامحها المؤرخ جان بيير فيليو مؤلف كتاب» مؤرخ في غزة». حصاد 2025 .صور سيناريو طويل مكوّن من مشاهد موصوفة، وقصص مرعبة وأرقام دمار مثيرة. حلقته الأولى الدخول إلى القطاع في قافلة يقودها الجنود الإسرائيليون والأصابع على الزناد. من مدخل رفَح ومنه إلى حاجز فيلاديلفيا إلى كرْم أبو سالم، ثم الانتظار، ثم تغيير الطريق إلى أن يصل الفريق ليُسلّم إلى مرابض الأمم المتحدة وليس في حوزة كل فرد إلا نزر يسير من مأكل ومشرب. وينزل فيليو أخيرًا في منطقة المواسي ومنها سيبدأ التنقل والرصد في خريطة غزة بأقسام وأنواع خطر. يذكّر المؤرخ الفرنسي القراء بمعلومات مفيدة، تاريخية وجغرافية وعن مراحل الاحتلال، لهذه الأرض بمساحة 365 كلم مربع المحاصرة منذ 2007 وتعتبر أكبر سجن في العالم.
منذ اليوم الأول بعد طلوع النهار سيشرع الرحالة المغامر الذي أصرّ على أن يرى بأمّ العين أكبر مجزرة لشعب وتدمير في العصر الحديث، في معاينة الأهوال، لما يسميه» بشرية مهملة بين ذهاب وإياب تنتظر ساعاتٍ للحصول على بعض الطعام والماء» وطيلة مقامه سيسمع عن الموتى، والمختفين، والجثث المطمورة تحت الأنقاض، والهاربات بأولادهن الرُّضّع، والآلاف مجبرين على التنقل مرة، مرتين، مرات، ومُسنٌّ بلحية بيضاء يغرس فيه عينيه ويرسم له ببساطة صورة المأساة، يقارن له المصير المعد لفلسطينيين بخروف الأضحية، يتم علفُه لينتهي مذبوحًا يوم عيد الأضحى! وما سنتغرف عليه تباعًا كوابيس حقيقية من الأهوال، بالأمثلة والأرقام، ولا مجال للشعارات والاستعارات وبلاغة التعاطف.

أيامٌ ممتدة ٌبلا مستقبل، وبدون أمل

يقف المؤرخ الفرنسي الأستاذ جان بيير فيليو في الرحلة الشجاعة التي قام بها إلى قطاع غزة ودامت شهرًا بين نهاية 2024 وبدايات 2025 على مشاهد وحالات من الأهوال حرص على رصدها بتعدد أشكال الدمار وأنواع الضحايا والحاجات الأساس للبقاء والانعدام التام للأمان. أول ما يسمع عند وصوله من المنظمات الأممية أنه» لا يوجد أي مكان آمن في غزة». أزيز الطائرات لا يتوقف فوق الرؤوس بين قصف وآخر، حتى إن الأطفال صاروا يتراهنون على التفريق بين طائرة ف 16 ومروحية أباتشي، وكذلك طلقة مدفع ومن قصف على علوٍّ منخفض حتى إنهم امتلكوا خبرة حساب المسافة بصدى الطلقات الأوتوماتيكية. هم أبناء شعب بات في العراء، لما أعاد الإسرائيلي في أكتوبر 2023 احتلال القطاع بعد ثلاثة أسابيع من القصف، ثلاثة ومليون فرد هجروا مساكنهم أو ما تبقى منها، نصفهم آوته مراكز تابعة للأمم المتحدة، وحُشر أزيد من مائة ألف في المستشفيات والمساجد والبنايات العمومية. ثم قُسم القطاع إلى 620 تجمّعًا مُرقّما بطريقةٍ عشوائية، ينادَى على سكانه فجأةً للترحيل بأرقامهم يكادون لا يتمكنون ن حمل أقل متاع. في مطلع سنة 2024 جرى تنقيل 85% من السكان داخل القطاع، وبعد الهجوم على رفح وإغلاق المعبر نحو مصر أُحكِم الطوقُ على 2،1 مليون من السكان. مليون سيتكدسون في مواسي، شريط ساحلي اعتبرته إسرائيل « منطقة إنسانية» آمنة لم تكن في بداية هذا القرن سوى قرية لألف قاطن ويُمنع على السكان الاقتراب من الشاطئ المخصص للمعمرين اليهود، وتبلغ الكثافة السكانية 30 ألف في كل كلم مربع، وخلال سنة 2024ىتعرضت هذه المنطقة لقصف ستين مرة بحجة استهداف» الإرهابيين».
يقدم فيليو أرقاما يقول إنها مدوّخة، ناطقة بفداحة ما حلّ بغزة، منها ما أحصته الأمم المتحدة من تقديرات في نهاية 2024 : تدمير 87% من البنايات(411000) كليًّا، و(141000) بشدة، و(270000) جزئيّا. أزيد من 80% من المحلات التجارية وثلثي الشبكة الطرقية صارت خارج الخدمة. 1،9 مليون بين نساء ورجال وأطفال اضطرّوا للهرب من مرة إلى عشرة، وفي المعدل خمس مرات بصفة متتابعة. قرابة مليون مهجّّر في إدقاع تام في فصل الشتاء، ونصف مليون تكوّموا في مناطق غارقة. لا يتوفر غرقى غزة في المتوسط على أكثر من متر مربع ونصف لكل واحد في مأواهم. لا يكفي هذا البؤس، فهناك هذا الفضاء العاري يركض فيه الأطفال حفاةً، والخيام البلاستيكية تتلاعب بها الرياح والأمطار، ، أضف الثقوب المحفورة في الرمل لقضاء الحاجة محجوبة بستائر بلاستيكية هشّة للستر، وهناك العفونة والروائح العطنة، والخوف الساكن في النفوس بين المتساكنين قسرًا، وكل ما يغذّي الخصومات والأحقاد بين الجيران. وهناك بعد هذا وكوارث أخرى، الأيام الممتدة أمامهم بلا مستقبل وأمل منظور.

«لم أشهد لِما رأيت
في الهول نظيرًا»

لو لم يكن جان بيير فيليو مؤرخًا لصحّ شاعرًا بلا جدال. لِحسِّه وقدرته على معاينة الكوارث وتصويرها تراجيديَا، وهذا ما ينبغي أن توصف به النكبة الفلسطينية الجديدة في غزّة. لذا لا يكتفي بالأرقام والإحصائيات لرصد الأهوال، بل يضعنا في مواجهة الإنساني، وهو يعزز الحق ّالسياسيَّ والتأويل الإيديولوجي، كأن يصف ماذا يفعل الطقس بأسرة محمود الفصيح في ليلة عيد الميلاد، وسط الرياح العاتية والبرد القاضم أشد من القارص. عائلة تعيش في التيه بعد أن ترحّلت وهُجِّرت عشر مرات في أطراف القطاع لتستقر في مواسي، لا يملك وزوجته ناريمان سوى الحسرة يلعنان الفقر يحرمهما من شراء ما يحميان به أطفالهما من العواصف والرمل البليل. ابنتُهما سيلا ذات الثالثة أنّت الليل بطوله، وأمها تحاول تهدئتها وضمّها إليها بخرقة غطاء. في الصباح يكتشف الأبوان جسد البنت كأنه الخشب، بشفتين بنفسجيتين وبشرة متشققة. يستنجد يُهرع الأب محمود إلى أقرب عيادة، لكن إصابة الرئتين فادحة ويسجل الطبيب حالة الوفاة بانخفاض حاد لحرارة الجسم، وهي الحالة الثالثة من نوعها في هذا المشفى في 48 ساعة بعد وفاة رضيعين ابني ثلاثة أيام وشهر فقط. عديدة هي المآسي من يعرف المكان توافدًا متواصلًا لأمهات يستغثن بالرضّع في اجتفاف وتثلُّج هنّ في أشد إنهاك عاجزات عن إرضاعهم، وبسبب الحصار نفد الحليب المصنّع، ولا أغطية ولا ملابس شتوية بوُسع للمنظمات الإنسانية تقديمها، فينصح القائمون عليها بتدفئة الرُّضع لحمًا بلحم.
يتردد فيليو كلما خفّ القصف على خان يونس، يهتدي بصعوبة إلى الطريق وقد ضاعت العلامات من أثر الخراب، وبين عماراتٍ متهدمة، ومقابرَ مفتوحة، حين يصل لا يصدق. يسجل ذهوله بالحرف الواحد:» أراني أترنح بحثًا عن إشارات تبعثرت، مترنِّحًا بين حُفر هاوية وأكوام أنقاض. لكم سبق أن عركتني بعض حلبات الحروب، في أوكرانيا، وأفغانستان، عبورًا بسوريا والعراق، والصومال، لكني، ويمَ الحق، لم أشاهد، لم أجرّب لما رأيت نظيرًا». ولأنه يملك حسّ الشاعر، نرى جان بيير فيليو يبحث عن خيط ضوء، وكوّة أمل وسط كابوس الدمار، فيلتقطه في صبايا، تلميذات، حاملات حقائبهن المدرسية، مبشّرات بأن الحياة باقيةٌ رغم شبح الموت الطاغي وهمجية العدوان، ذاهبات إلى مدرسة بدعم من سلطنة عُمان. يرى بريق الحياة في لجوء عائلة إلى طابق عمارة مشوّهة تنشر غسيلها فوق شُرفة محترقة. خيامٌ مبرقعةٌ بألوان زاهية في فضاء يطغى عليه الرماد ولونُه، ولا بأس بفَرشة تعرض للبيع معلبات، وحُلويات، ملمحُ حياة تدب عنيدةً وخجولة، مع زعيق دراجات وعربات، مختلطة بمرور التوك توك. لكن ما إن تستأنس بهذا الانتعاش المؤقت وتتجه إلى الشمال، لتواجه من جديد بسبحة الخراب: خذ مثلًا، مسجدًا لم يبق منه إلا مئذنته؛ زقاق كامل سدّه انهيار عمارة، أما طريق صلاح الدين فلم يبق منه شيء يذكر العين بما حفل به وحواليه من عمران: كان!


الكاتب : تقديم وعرض : أحمد المديني

  

بتاريخ : 05/07/2025