احتفى به المعرض الجهوي للكتاب بتمارة .. حين رَجّ كتاب «أنا وفلسطين» لعبد الحميد جماهري رتابة مدن الهامش

لحظة رؤيته جالسا على كرسي بتواضع من جر خلفه سنوات في مدرسة الحياة والتعلم الأول من خلال الاكتشاف والاقتداء واكتساب كل ما يشكل موروثا مشتركا، ومدرسة التعليم المدرسيوأثرها في بناء شخصية متعددة الأنماط ودورها في التطور المعرفي، ومدرسة النضال في الشبيبة الاتحادية وصفوف الجامعة، وما تعنيه من إعادة النظر في كل البنيات السابقة والمعارف بالنقد والتفنيد وإعادة بناء قناعات ومواقف متجددة ذات أسس، أساسا، إيديولوجية، والدفاع عنها باستماتة، في سياق غلب عليه الاصطفاف واللايقين، والتطلع إلى التغيير وتحقيق الانعتاق المنشود، ومدرسة الاتحاد الاشتراكي والنضال نحو مستقبل أرحب حرية، حقوقا وديمقراطية.
هي لحظة استدعت، بعفوية، من الذاكرة، شخصية دينية فارسية جعلها الفيلسوف فريدريك نيتشهFriedrich Nietzsche شخصية محورية لسلسلة كتبه “هكذا تكلم زرادشت”، والذي يعتبر نصا متعدد الطبقات، تتداخل فيها الأبعاد الأدبية الشعرية، والفكرية والفلسفية.
ولربما، هكذا حل “نزل” علينا الشاعر، والكاتب، والصحفي، والمناضل عبد الحميد جماهري، بكتاب “أنا وفلسطين، المسافة الصفر”، والذي يمثل تجميعا لنصوص من الكتابة الأدبية، والفكرية والسياسية عن فلسطين، امتدت قرابة أربعة عقود، (حل) بهدوئه الطاغي على صخب أجنحة ومحيط المعرض الجهوي للكتاب، في دورته 14، المنظم من قبل المديرية الجهوية للثقافة لجهة الرباط-سلا-القنيطرة، وبيت الشعر في المغرب، بمدينة تمارة يوم 1 دجنبر الجاري.
وبنبرة صوت مدغدغة للقلب قبل العقل، جاذبة للمتلقي انجذاب الطفل الصغير لحكايات جده الطاعن في السن والتاريخ، وحاثة إياه على الإنصات…تكلم أو هكذا تكلم جماهري عن مؤلفه، وهل هناك خير من يتكلم عن مولود غير أبيه!
خلال هذا اللقاء، اعتبر عبد الحميد جماهري مؤلفه بكونه مجموعة من النصوص المتأرجحة بين التقرير السياسي، والانفعال العاطفي، والمتابعة التاريخية، التي لا تخلو من سجالية معينة، أو قد يشوبها، في كثير من الأحيان، بعض الغضب الخاص أو العام. هي نصوص كتبت على مدار قرابة أربعة عقود ونيف، منذ التأثر بموضوع الكتابة إلى لحظة التكثيف القوية في الوعي والإدراك، ولحظة المساءلة التي تفوق التفاعل الواعي والعاقل، والتحليل، و”الاستغوارات” الجيوسياسية، والفكرية والفلسفية، إلى ما هو وجودي، لحظة ما تعيشه فلسطين منذ عقود طويلة، وعلى الأخص منذ السابع أكتوبر 2023.
وباح للحضور بكون بداية حضور فلسطين، كفضاء تخيلي وروحي، في وعيه مرتبط بقصص جده الدينية والنبوية، وسرعان ما ستتولى الأرض والسياسة ما ابتدأته السماء والدين، من خلال التأطير السياسي داخل المدرسة المغربية ومدرستي الشبيبة والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، معتبرا كونه من جيل محمد كرينة الذي اعتقل وعذب وقتل على إثر إضراب يوم الأرض سنة 1979. فلسطين، رغم بعدها الجغرافي، إلا أنها حاضرة في قلب ووعي وفكر المغاربة.فكانت، حسب جماهري، سببا رئيسا في “تعريب” واستدراج الكثير من النخب، من التفكير التقدمي، في الغالب، ماركسي، الذي ينهل من المدرسة الفرنسية، إلى القضايا العربية أو العروبية ” فليس سرا أن عمر بن جلون وآخرين كانوا من هذه النخبة التي عربتها القضية الفلسطينية”.
واعتبر أن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية يجسد ذلك التمازج في الانتماء “ولعلنا الشعب الوحيد من بين كل شعوب الأرض الذي جعل الله لنا في جوفنا قلبين، هما قضية صحرائنا المغربية والقضية الفلسطينية، وارتباط مصيريهما ببعضهما”. فحينما يتم استرجاع خطابات الاتحاد التي تأسست في اللاوعي قبل أن يشملها العقل بديكارتيته، كان تحرير الأرض في جنوب المغرب هو تحرير فلسطين، وكان الاحتلال يعني نفس الاحتلال، حتى وإن خفتت هذه الجدلية بعنفوانها في الآونة الأخيرة. فقد ارتبط الجيل الثالث من الحركة الاتحادية ارتباطاكبيرا بالقضية، حتى صار شعار عمر بن جلون “القضية الفلسطينية قضية وطنية”، شعار المغاربة كلهم، وشعار رأس ورئيس الدولة نفسها.
فلسطين بالنسبة له ليست دائما وعيا مؤطرا بالمعادلات الواضحة وموازين القوى، هي أحيانا بمثابة غابة باشلار،هي حالة ذهنية، تجعل من الإنسان ميالا للحزن عوض محاولة الفهم… لم تكن، فقط، هذه القضية، موضوع تحليل موضوعي جاف وبارد، بقدر ما كانت تشكل انفعالا “فكل يد طفل تبثر إلا وتشعر بعدها أنك عاجز عن استخدام يدك… وكل جرح يصيب أي فلسطيني، تشاهده، تتابعه أو تقرأه، إلا ويصيبك… وكل ألم يعتصر أبيات قصيدة لمعين بسيسو أو محمود درويش… كان له مقابل وانعكاس على اليوم العادي من حالتنا النفسية. وكثيرا ما كنا نسقط آلام قصيدة أو فيلم فلسطيني على علاقتنا بعائلاتنا ومع الناس، فيتغير المزاج والمناخ، ونصبح، نحن، حالة فلسطينية مشردة في المغرب”.
لقد شكلت القضية الفلسطينية فضاء للنقاش والسجال الفكري المرافق لتقلباتها إلى غاية التكثيف المأساوي الذي وقع منذ 7 أكتوبر إلى الآن، والذي جعل جماهري، وآخرين، يعيشون لحظة تراجيدية بكامل مقوماتها الإغريقية. فمرة أخرى “يعود الشعب الفلسطيني إلى وحدته، ولا يكون له من وحدته إلا التمسك بتراجيديته، ولا يكون له من حل إلا أن يظل المسيح المصلوب على صليب قضيته… وسينفض الصحابة، مجددا، وسيظل أيوب وحده ميتا في القضية”.
كما أن الأدبيات الثورية والسياسية، وخصوصا لحركة فتح، ولمنظريها وقادتهم، شكلت محور النقاش الداخلي. فكم من مرة، حسب مؤلف “أنا وفلسطين، من المسافة الصفر”كان يتم الاستشهاد بصلاح خلف (أبو أياد) و خليل الوزير (أبوجهاد)…للرد على الخصوم داخل المغرب، أو لإفحام المحاور، الذي يستدل، هو أيضا، بقامات فلسطينية للرد، في الساحات الجامعية”كل منا كان يدق الناقوس في الكنيسة الفلسطينية التي تليق به… فهذا جبهوي مع نايف حواتمة، وهذا مع جورج حبش، ونحن، طبعا، عرفات، كان يبدو، أحيانا، أبانا الفلسطيني، وأحيانا عضوا في اللجنة المركزية للحزب، ومرات كثيرة، كنا نصدق ما يقوله لنا عن مصير العالم بعد العشرسنوات القادمة. وكثيرا ما كنا نناقش بأدبيات فتح، حتى في خلافتنا داخل الشبيبة والحزب، كان هذا التمازج، لم يكن هناك أي فاصل، يعود مع كل لحظة تكثيف. وكنا نجرح، كثيرا، لما، أيضا، يتم التشكيك في فلسطينيتنا…”.
هكذا تكلم جما هري عن أفكاره وتمثلاته المتجردة من الدوغمائية، والممزوجة بشاعرية الإنسان في الآن ذاته.وذلك بعض من كثير “أزعج” و”استفز”، بشكل أنيق، رتابة أيام مدن الهامش المحاذية للمركز، وجعلها، ولو بشكل مؤقت، مركزا ثقافيا.
ولهذا، لا يمكن إلا أن نصف عبد الحميد جماهري بالمثقف العضوي في مقابل المثقف التقليدي، حسب منظور انطونيو غرامشي، مثقف عضوي متعدد الأبعاد: الإنسان، والكاتب، والشاعر، والإعلامي، والحقوقي، والمناضل، ثم السياسي (ترتيب ليس اعتباطيا: بناء على آخر ما ختم به هذا اللقاء، والذي ينم عن غلبة بعد الفكر والإبداع على بقية الأبعاد: “ماذا يفعل شاعر في البرلمان؟ ماذا يفعل شاعر في اللجنة التنفيذية؟ ماذا يفعل شاعر في المكتب السياسي؟”).

 

 

 


الكاتب : بقلم: عبد الحليم صابر

  

بتاريخ : 17/12/2024