هل استقال الآباء من تربية أبنائهم أم أصبحوا غير قادرين على التربية ؟ 2/1

المؤسسة التربوية وإلى سنوات قريبة كانت تحتكر كل عمليات التربية والتعليم وتعتبر نفسها الوصي الشرعي الموكول إليه تكوين الأجيال وإعدادهم للحياة، وكانت تقصي مؤسسة الأسرة بل تعتبر تدخلها في العملية التربوية تطاولا على اختصاصاتها مما أدى إلى توليد قناعة لدى الآباء والأولياء بضرورة الاستسلام والابتعاد عن مهام المدرسة والمدرس.
هذه المهام الكبرى والمسؤوليات المتعددة هي التي حتمت على المدرسة، في ما بعد، للدخول في نسيج من العلاقات التربوية و التدبيرية مع مختلف المؤسسات الاجتماعية الأخرى بهدف التنسيق وتوزيع الأدوار في ما بينها لأنها أصبحت غير قادرة وحدها على تفعيل الإصلاح ومنجزاته. ومن الخطر أن تحتكرها لنفسها حيث هناك مؤسسات أخرى يتأثر بها الفرد كمؤسسة الأسرة التي لها دور في إعداد شخصية الفرد حتى يكون قادرا على التكيف مع متطلبات السلوك المدني الذي تبنيه وتغرسه وتقويه مؤسسة المدرسة .
ولأجل تقوية نسيج العلاقات مع مؤسسة الاسرة أكد الميثاق الوطني للتربية والتكوين أن على الآباء (الوعي بأن التربية ليست وقفا على المدرسة وحدها وبأن الأسرة هي المؤسسة التربوية الأولى التي تؤثر إلى حد بعيد في تنشئة الأطفال وإعدادهم للتمدرس الناجح كما تؤثر في سيرورتهم الدراسية والمهنية بعد ذلك )الميثاق الوطني للتربية والتكوين – المادة 16.
إنه ورغم وعي المشرع التربوي، ومؤسسات المجتمع وقناعة الجميع بضرورة الحوار بين المؤسسة التربوية وخلية الأسرة إلا أن عددا من الآباء والأمهات يتهربون ويتملصون من مسؤولية المشاركة في قيادة عمليات التربية والتأهيل أو تقاسم المسؤوليات في بناء شخصية الفرد، مما زاد من ضعف تأثير مؤسسة الأسرة داخل وبين أجنحة فضاء المؤسسة التربوية.

القيم الاجتماعية في تنشئة الفرد و الصراع القيمي بين الآباء والأبناء
تعد الأسرة أحد الأنساق التي تمثل نقطة ارتكاز أساسية في تدعيم التوازن الاجتماعي وترسيخه، ومن هنا فإن أي اختلال في بنية الأسرة أو قصور تعتري أداء وظائفها سيترجم على شكل تصدعات في جدار البنيان الاجتماعي برمته، ومن تم يمكن التنبؤ بالدور الذي قد يلعبه التفكك الأسري وبخاصة إذا ما اقترن بظروف اقتصادية أو معيشية صعبة، وهذا ما سينسحب أيضا على ظاهرة الرسوب المدرسي التي كشفت بعض الدراسات تورطها المباشر في إفراز ظاهرة الانحراف والإحباط والعدوان.
إن مؤسسة الأسرة من شدة الخضوع والانصياع للأنساق القيمية والاجتماعية والعرفية في تنشئة الطفل غلا وتسقط في لعبة تكرار أدوارها لما اعتادت عليه جيلا بعد جيل غير اخذة بعين الاعتبارالمستجدات والمتغيرات التي تطرا كل يوم وكل ساعة على صعيد البنية المادية للمجتمع، مما يعرض هذه المؤسسة للفشل في تحقق الأهداف الأصلية التي وجدت من أجلها، فهي بإدراك منها أو بغير إدراك تشل عملية التطور الاجتماعي التاريخي عبر تحجير الأدوار المطلوب تأديتها ودون أي جهد في تكييفها مع معطيات الواقع الجديد، فتنقلب الأسرة الى حاجز يفصل الفرد عن التعاطي مع الواقع الجديد كما هو وتصبح معيقا يشل قدراته، وتنقلب بالتالي الى مؤسسة تقمع الحاجات الفردية عوضا عن تلبيتها وتدفعه إلى تحويرها بدلا من أن تطلقه لتطويرها، ومن هنا يجب ضرورة أن تتحول الأسرة إلى ميدان يتم فيه الإعداد لتقبل التغيرات بدل التصدي لها.
إنه من العبث الاعتقاد بأننا نستطيع تنشئة أفراد الأسرة على نمط واحد يتكرر مع الجميع، ويتكرر مع كل الأزمنة والأمكنة، فالأبناء ما أن يكبروا حتى يجدوا أنفسهم غير قادرين على العيش وسط معاصريهم الذين لا يشدهم إليهم أي توافق، وهم لن يكونوا أبناء زمنهم وعصرهم وثقافتهم وبالتالي فهم ليسوا في شروط حياة طبيعية.
إن الأعراف والقيم والأفكار، التي تحدد هذا النمط التربوي الأسري أو ذاك لسنا نحن من صنعناها بل هي نتاج الحياة المشتركة، وهي تعبر عن ضروراتها، كما أن لكل لحظة من الزمن نمط تربوي-سلوكي–اجتماعي ضابط لا يمكننا الابتعاد عنه دون أن نتعرض لمقاومة عنيفة تكبح نزوات الانشقاق.لأن (التربية تروض الفرد لكي يخضع بشكل أعمى للمتحد الاجتماعي حتى يكون ملكا للمجتمع (دوركهايم ).
وفي السنتين الأخيرتين عصفت جائحة كورونا بالمجتمع، وضربت بقوة كينونة الشخصية الاجتماعية وخلخلت كيان البنية الاجتماعية في لحظة زمنية مفاجئة لم يكن مجتمعنا جاهزا لمواجهة آثارها الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، ولكن التأثير الأهم هو الذي مس نظام العائلة حيث إن الإجراءات الاحترازية من الحجر الصحي، والتباعد بين الناس، ومنع الاتصال بين العائلات، والمجموعات، ومنع التجمعات وإغلاق المدارس والمساجد والملاعب والحدائق أدى إلى حدوث تداعيات سلبية على بعض السلوكيات وعلى الثقافة الاجتماعية التي تميز أفراد المجتمع(فالإحساس بالأمن والأمان هو جوهر العلاقة بين الآباء والأمهات وأطفالهم )ومع تزايد وانتشار هذا الوباء سيطر الخوف والقلق والذعر والوسوسة على الأبناء والآباء والأمهات مما أدى إلى ظهور بعض المشكلات النفسية وحدوث مشاكل اجتماعية تحتاج من المؤسسات الاجتماعية (الاسرة)والتربوية (المدرسة)والدينية (المسجد)والصحية وسواها أن تقوم بدورها المأمول حتى تعود الطمأنينة والأمن النفسي والاجتماعي للأسر والعائلات.

استقالة الآباء في الميزان و عجز عن القيام بالمهام

إننا عندما نرى الأطفال والشبان يتمردون على قواعد الأخلاق والقيم الاجتماعية التي(هي نتاج خبرات اجتماعية انتقاها المجتمع وتواضع عليها وأقرها كقواعد تحدد السلوك وفق المقبول والمنبوذ اجتماعيا سعيا نحو تنظيم العلاقات بين الأفراد وتحقيق الإشباع للحاجات في حدود الإمكان). والأسرة كمؤسسة اجتماعية وكوكيل سيكولوجي للمجتمع تلعب الدور الفعال في تعميم هذه القيم الاجتماعية على أفراد المجتمع واخضاعهم لمنطقها ومنطلقاتها، لكن فشل الآباء أو عجزهم في نقل وتثبيت السلوك الاجتماعي المتعارف عليه ناجم بفعل وجود تفاوت في هذه القيم والتي تختلف باختلاف الازمنة واختلاف الابعاد الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والجنسية الشيء الذي يؤدي بدوره الى تفاوت واضح في عملية التطبيع الاجتماعي للأبناء وبناء شخصية الفرد…
ان مؤسسة الاسرة عندما تسقط في لعبة تكرار ادوارها لما اعتادت عليه وفي ضوء خصائص محددة غير اخذة بعين الاعتبار المستجدات التي تطرأ كل يوم كل ساعة على صعيد البنية المادية للمجتمع لا تحقق الاهداف الاصلية التي وجدت من اجلها، انها بادراك او بغير ادراك تشل عملية التطور الاجتماعية التاريخية وبالتالي تصطدم مع الواقع الجديد وتفقد السيطرة على توجيه الابناء وتخفق في تأطيرهم وتربيتهم وتكوينهم.. فيختل ميزان التوازن والانضباط بين افراد الاسرة وخصوصا بين الاباء والابناء.
اننا عندما نرى الاطفال والشبان يتعاطون التدخين والمخدرات والمسكرات داخل المؤسسات التعليمية والتربوية او خارجهما ويربطون ذلك بالمتعة والاثارة والقوة والنضج، وهم ضحايا يقعون تحت ضغط اجتماعي يبرز التدخين كعلامة للنضج والاستقلالية من خلال تمثل صورة ايجابية للمدخن اوالمدمن يتم فيها تضخيم الصفات المرغوب فيها بشكل يصل الى درجة الاقتداء. والارقام المخيفة لنسب المدخنين والمدخنات في صفوف التلاميذ والتلميذات يطرح السؤال المحرق عن مآل القيم الاجتماعية والدينية أمام تفشي هذه الظاهرة ؟ ولماذا فشل الاباء والمربون في الحد من هذا الانحراف؟فهل هو شكل من اشكال الصراع القيمي بين الاباء والابناء؟ ام انتكاسة للمؤسسة التقليدية ام صعود وتغول ونفوذ المؤسسات الاعلامية والاقتصادية الجديدة؟
عندما نرى الاطفال والشبان مدمنين على استعمال تكنولوجيا المعلومات بشكل متواصل ودون انقطاع ولساعات عدة كل يوم، يلتهمون كل وجباتها الافتراضية المعروضة على الشبكات العنكبوتية، وفي هيمنة جو افتراضي على حياة هؤلاء الأبناء فإنه تحدث أزمة نفسية تؤثر على العلاقات المتبادلة بين البيت والمدرسة،ازمة تتلخص بضعف تأثير مؤسستي الأسرة والمدرسة على الطفل واليافع والشاب وفي غياب أي نوع من الرقابة “الذكية” اسريا ومدرسيا في ما يتعلق بتعامل الأبناء مع الشبكة العنكبوتية.
يتبع


الكاتب : محمد بادرة

  

بتاريخ : 27/01/2022