هل النص المكتوب محصن ضد التركيب؟

هل يقع النص الأدبي خارج الأشكال الفنية المركبة؟ ألا يقوم النص، أي نص، على التركيب (الحذف، الاختزال، التنضيد، التثغير.. إلخ)؟ أليس التركيب (المونطاج) معطى جماليا متعمدا لا يمكن أن يستغني عنه النص المكتوب، مثلما لا يستطيع الفيلم السينمائي، إطلاقا، الاستغناء عنه، رغم ما يقال عن ما يسمى «السينما المباشرة» أو «سينما الحقيقة»؟
لا أتفق مع إرنستو ساباتو في أن «السينما» تستأثر بخاصية الصوت والصورة، وأنها تختلف بشكل جوهري عن النص المكتوب، ذلك أن البعد السمعي البصري حاضر في النص المكتوب أيضا. ألا يتحرك هذا النص، أيضا، سمعيا وبصريا، بواسطة التركيب؟ أليست «الكتابة البصرية» لونا مطروقا يسمح بتحويل العديد من الأعمال الأدبية إلى أفلام سينمائية؟
يقول ساباتو: «إن السينما جنس تعبيري مختلف؛ وبما أن من المستحيل الفصل بين مستوى الشكل والمضمون في كل جنس فني، فيتعين على السينما- حتما- أن تكون شيئا آخر». فما هو هذا الشيء الآخر بصرف النظر عن الاختلاف في اللغة القائمة في كلا الحقلين؟
في دراسة حول الروائية والسينمائية مارغريت دوراس؛ توضح ماري فرانسواز جرانج، الباحثة في الجماليات والتشكيل والموسيقى وفنون الفرجة، أن الفيلم، كيفما كان نوعه، يبدو دائما موزعا بين مجموعة من المسارات الدالة؛ فهو في الآن نفسه صورة ونص لفظي وصوت وموسيقى ونص مكتوب. فكل فيلم، بهذا المعنى، يتشكل داخل هذه التعددية الجوهرية. وهذا ما جعل ماري كلير روبارس تقول إن «السينما تتحدد عبر توضيب (مونطاج) تركيبة متعددة». غير أن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، ها هنا، هو: أليس النص الأدبي، شعرا وقصة ورواية، تركيبة متعددة؟ ألا يراهن النص الأدبي، مثل الفيلم، على هذا التعدد من أجل بناء نص متعدد الاتجاهات يستمتع بالاشتغال عليه المؤلفون؟
إن النص، مثل الفيلم تماما، يقوم على اللغة أساسا؛ واللغة ليست أفكارا فقط، بل هي تركيب يرتبط بالحيازة والقدرة والتكامل في ظل نسق دلالي معين. وهذا ما يجعلنا نذهب إلى أن كلا الحقلين (الصورة، الكلمة) يشتغلان، مع تسجيل الفروق الموضوعية بينهما، على الضم والجمع والصهر والخلط والإسناد بين اللقطات والمقاطع (السينما)، أو بين الحروف والكلمات، في أنساق تؤدي إلى بناء معنى. إن التركيب، إذا شئنا، نظام وحركة عناصر وانسجام وتلاؤم وإيقاع، كما أنه تخطيط يرتبط بتعدد الأشكال واختلاف الرؤى، أو إلى ما يمكن أن نسميه الجماليات، ليس بمعناها الأفلاطوني، بل بالمعنى الذي يرتبط بالعابر والمتحول والإدراك الحديث للفن.
ومع ذلك، فإذا كان التركيب هو حياة الفن عموما، فإن هناك اختلافات جوهرية بين هذا التعبير أو ذاك، ذلك أن النص الأدبي متوالية منسجمة من الملفوظات، أي أن التوزيع يبني ذاته على التتابع المتسلسل بين الكلمة والكلمة، وبين الجملة والجملة، وبين الفقرة والفقرة تواليا، بينما السينما تقوم على شرط التوازي بين اللّغة المنطوقة واللغة المكتوبة، إضافة إلى شرط الربط بين لقطة وأخرى. لنلاحظ، مثلا، مع جرانج، أن دوراس أخرجت فيلما قصيرا بعنوان «سيزاري» سنة 1979، وأنها نشرت نصا أدبيا بالعنوان نفسه في السنة نفسها، مما أدى إلى تشكل نص مزدوج (الفيلم والنص)، وهذا أفضى إلى أن يعيد الفيلم لعب هذا الانتماء المزدوج من تلقاء نفسه. ألم يصبح النص الأدبي داخله جزءا لا يتجزأ من الشريط الصوتي؟ يقدم فيلم «سيزاري»، حسب ما تستعرضه جرانج، متوالية من اللقطات مخصصة في أغلبيتها لتماثيل في ساحة اللوفر بباريس، من بينها تماثيل لمايلول. أما الشريط الصوتي فهو نص حول بيرينيس كتبته وقرأته مارغريت دوراس، وتتخلله مقاطع من آلة الكمان. ويسجل غياب الصوت المتزامن ذلك التقاسم بين الصوت والصورة. كما تتراءى داخل البنية المتعددة للفيلم تقطيعات أخرى لا ترتبط، لزوماً، ببعضها البعض: من الصوت إلى الصورة، ومن الكلمات إلى الأشياء، ومن المقروء إلى المرئي. كما تستدعي هذه التقطيعات المتعددة، انتقالات وعبوراً منتجا للمعنى أو اللا معنى، مخلفةً لنفسها مسارا بين مختلف النصوص المشكلة للنص الفيلمي.
كل شيء، تقول الباحثة، يبدأ في فيلم «سيزاري» بطبيعة الحال، بتلك القطيعة الفاضحة بين شريط الصوت وشريط الصورة، وهي فاضحة لأن تلك القطيعة تقفز أمام العين كما هي. وهي تبدو من خلال إظهارها الواضح للعديد من المجالات المتنافرة: مجال التعبير الشفهي الذي يتجسد من خلاله النص الأدبي، ثم مجال التمثل المكسور بروابط خاطئة. أما الصوت الخارجي (وليس خارج الحقل)، الذي هو بالضرورة دون جسد، فهو مقصي من الحقل المحدد من خلال الصورة؛ إنه يطفو على مرئي لا يحيل على المكان الذي تتحدث منه، فيتعمق الفارق عبر الغياب، أي عبر غياب الصوت المتزامن، وأيضا عبر غياب الذات الساردة. فليس هناك انتماء للتخييل نفسه، كما ليس بإمكان التنقل داخل الفضاء المعروض أن يُعزى إلى نظرة الشخص القارئ. ومن هنا، نستنتج بسهولة أن ليس هناك أي شخص يتجول وهو يقرأ كتابا ويستكشف في الوقت نفسه حدائق اللوفر. ومعنى ذلك، أن المكان الذي أنتج فيه الصوت (صوت دوراس طبعا) يظهر مختلفا تماما عن مكان التصوير.
هذا هو ما تسميه جرانج «الإقصاء الجذري»؛ فالصوت يظهر من الداخل، بينما تظهر المَشَاهدُ من الخارج. وهذا ما أنتج ما يشبه «القطيعة» بين الدوال الصادرة عن كل اتجاه من الاتجاهين. وفي كل الأحوال، هناك ما يشبه الرغبة في إدماج علامة قطيعة أو بالأحرى فراغات من شأنها أن تترك العناصر تتحرك تجاه بعضها البعض داخل الفيلم.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 13/12/2024