لعقود من الزمان، تم الإفراط في استخدام مصطلحات مثل «الفاشية» لوصم «اليمين المحافظ» أو«اليمين المتطرف». ومع ذلك، ففي سياق عالمي يتسم بصعود الأنظمة «غير الليبرالية»، يستحق هذا المنظور تأملا أعمق. ذلك أنه إذا أردنا أن نصدق تحليل «أمبرتو إيكو» ومفكرين آخرين، فإن «الفاشية» لا تقتصر على حلقة تاريخية، ولكنها تمثل «أسلوبا في الهيمنة» تظهر خصائصه بأشكال مختلفة».
كتب الخبير السياسي وعالم الاجتماع الفرنسي «جان- فرانسوا بايارت» (20 مارس 1950): «لنوضح اللبس على الفور. لم أعتمد أبدا على التوسل بالفاشية لأتطبع باليمين المتطرف أو حتى اليمين الأكثر تحفظا. إن هذا «الكسل الفكري» الذي ميز جزءا من اليسار، إلى حد شكل من أشكال «البافلوفية» (نسبة إلى العالم الروسي بافلوف) الأيديولوجية، لم يساعدنا على فهم مخاطر اللحظة أو مخاطر المستقبل. بالنسبة لجيلي السياسي – في السبعينيات والثمانينيات – كان شيراك «فاشيا»، وكذلك كان أتباعه مثل «جاك توبون». دعونا ننتقل إلى الأمام، خاصة في ضوء تطور المذكور أعلاه الذي كان من أبرز المدافعين عن الحقوق في السنوات الأخيرة، وأنقذ شرف الجمهورية طوال فترة ولايته. تبقى الحقيقة أن استخدام الاسم الزمني في «علم الاجتماع التاريخي» والمقارن للسياسة – حقبة أقيمت كنوع مثالي ونموذج – له شرعيته وفائدته (1). ماذا إذن عن اللجوء إلى تصنيف الفاشية بإشكالية الميل «غير الليبرالي» في عصرنا؟
الفاشية نوعاً مثالي
في وقت مبكر من عام 1995، تحدث «أمبرتو إيكو» عن «الفاشية الدائمة» (تترجم عموما إلى الفرنسية، بشكل فضفاض إلى حد ما، باسم «الفاشية الأبدية»)، في مقال في مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس»، والذي تضمن محاضرة ألقيت في جامعة «كولومبيا» في «نيويورك». ولصياغة نوعه المثالي، حدد 14 عنصرًا أساسيًا، كل منها يمكن أن يشكل نذيرًا لعودة ظهور الفاشية. وشملت هذه المفردات الضعيفة وبناء الجملة البدائي للغته الجديدة (2).
في روايته الوثائقية «M» (لموسوليني)، تناول «أنطونيو سكوراتي» هذه الفكرة بطريقته الخاصة من خلال الإشارة إلى أن «الفاشية كانت أسلوبًا للحكم»، بينما أبدى تحفظاته بشأن أطروحة «الفاشية الأبدية» (وحساسية «الفاشية») و»اليسار الرجعي» الذي – حسب قوله – يجسده بازوليني). وهو يرفض المساواة بين الشعبوية «غير الليبرالية» المعاصرة و»الفاشية التاريخية» في فترة ما بين الحربين العالميتين. لقد كانت الفاشية شعبوية، وأكثر من ذلك بكثير، ولكن ليست كل الشعبوية فاشية. فالأمر المهم، تاريخيًا وسياسيًا في نظره، هو «رؤية الفاشية من الداخل» أو «رؤية هاويتها في داخلنا» (3). إن علاقة البنوة أو النسب – «خط مستقيم بقدر ما هو خط متعرج أو حتى منقطع» – بين موسوليني والسياسة المعاصرة التي تربط الأخيرة، في جانبها «غير الليبرالي»، ليس بالدوتشي مؤسس الفاشية بالمعنى الضيق، ولكن بموسوليني الخطيب والمؤلف، والذي كان بطريقة ما مخترع «هذا الشكل من التواصل الذي نسميه اليوم بـ»الشعبوية السيادية». كما أن مصدر الإلهام لهذا هو «اللاوعي، غير المباشر، أو التلميحي» الذي يتألف من استئناف أسلوب موسوليني، من خلال تحديثه، الذي سمح له بإغواء المجتمع الإيطالي، وليس فقط انتهاكه.
باعتباره خطيباً وصحفياً، نفذ موسوليني «ثورة لغوية» من خلال فرض جمل قصيرة وبسيطة نحوياً، وإحلال «شخصانية اللغة» ــ من خلال الوجود الرجولي للـ «أنا» ــ محل «التعددية الخطابية المعقدة للجدل»، وترقب التغريدة.
علاوة على ذلك، كان «موسوليني» رائد «القيادة بالاتباع» (شعبه): «إنه يفهم أن الجماهير في عصر الجماهير سيقودها قائد لن يسبقها، ولن يقف أمامها. على العكس من ذلك، ستكون الجماهير تحت تصرف القائد، إذا جاز التعبير، في أراضيه. هذا القائد الذي سيرشد الجماهير باقتفائها له، وهو خلفها بخطوة». قال «موسوليني» نفسه: «أنا رجل المستقبل». كان نهجه انتهازيا خالصا، في شكل انتهازية «أفرغت من كل محتوى» يركب بها على خوف واستياء الجماهير. لقد خلق «نوعًا من الراسب الكيميائي بين الخوف والكراهية»، واقترح «تبسيطًا وحشيًا لتعقيد الحياة الحديثة»، والذي يتضمن تمجيد «الخيال الجسدي»، بدلاً من «التفكير» و»الاستخدام العام للعقل» الذي يحدد به «يورغن هابرماس» الفضاء العام (4). باختصار، كانت فاشية موسوليني، في جانبها الشعبوي، «أسلوبًا للهيمنة» (5).
وفي سياق مماثل، رأى المؤرخ «فوريو جيسي»، في كتابه «الثقافة الصحيحة» (1979)، في الأخيرة «لغة أفكار بلا كلمات»، لغة «مؤلفة من الأماكن المشتركة» و»من المفترض أن تكون نموذجًا للوضوح»، والتي «ليس لها أي علاقة بالعقل أو التاريخ»، حتى لو كان ذلك يعني التغذي على «ماض» غير متمايز، ويشكل «هريسة متجانسة» غريبة عن أي «حيرة» بين المتحدثين بها.
ومن جهتي، سأوضح هذه النقطة (وهنا، يجب أن ندرك أن «أمبرتو إيكو» أخطأ هدفه من خلال ربط «الفاشية الدائمة» بشكل وثيق مع «تمجيد التقاليد»). فتاريخيًا، كانت قوتها، وكذلك قوة «السديم الأيديولوجي الألماني» الذي تم تحديده لاحقًا تحت المصطلح العام «الثورة المحافظة» – أحد مصادر الإلهام، أو على أي حال الإعداد للاشتراكية الوطنية – في إجراء توليفة بين القيم المحافظة، التي توصف بأنها تقليدية والقبول، وحتى التسامي بالحداثة، وخاصة التكنولوجية في سياق المجتمع الجماهيري الجديد، على نقيض البيئة الريفية ذات النفوذ الرجعي. يمكننا أن نتحدث عن «الحداثة الرجعية»، عن «العالم الثوري والرجعي»، عن «الرومانسية التقنية». والشيء الأساسي هو أن نفهم أن تفاقم «اختراع التقليد» بسبب الفاشية – والذي أظهر المؤرخون البريطانيون دوره المركزي في تحول العالم في القرنين التاسع عشر والعشرين (6) – منحها القدرة على تعبئة الجماهير والناخبين. لقد فهم «الثوريون المحافظون»، «الفاشيون» و»النازيون» أفضل من غيرهم، التناقض التأسيسي للسياسة (7). لقد جعلوا من التناقض بين «الحداثة الرجعية» أو «الثورة المحافظة» أسلوبهم، حتى لو كانت هذه المصطلحات لاحقة. وهكذا، استحوذوا على الارتباط بالماضي والتطلع إلى تغيير الجماهير، ووفقوا بين «الرومانسية الثورية» و»وهم الهوية».
منطق الغزل..
إن الطبقة السياسية الفرنسية، مع جماعتها من «البونابرتيين» (نسبة لبونابارت) الصغارــ «ساركوزي»، «ماكرون»، «لوبان»، «ريتيلو»، «دارمانين»، «واكيز»، «أتال» وعدد قليل من الآخرين: «بيكريس»، «مورانكاي» ــ تغازل بشكل علني أكثر فأكثر «أسلوب الهيمنة» هذا، إنها تسعد بـالـ»أنا». وهي تقف وراء «الهريسة المتجانسة» من الخطاب المناهض للمهاجرين، والتي أصبحت هي المجمع الأعظم للاستياء المنتشر بين الطبقتين العاملة والمتوسطة. الاستياء الذي غذته على مدى 4 عقود، كل من: «ويلات السياسة الاقتصادية النيوليبرالية»؛ «الفزع من فقدان العظمة الاستعمارية الماضية»؛ «تراجع الشعبية الدولية المستمر لفرنسا» ؛ «عدم وضوح جنس الأجداد والعلاقات بين الجنسين»؛ «ومن المفارقات أن التحرير المنهجي للحياة الاقتصادية والاجتماعية يسير جنبًا إلى جنب مع انتشار المعايير البيروقراطية أو الفنية»؛ «وضع كل شخص في منافسة مع الآخرين» ؛ «حتمية أزمة المناخ» و»تدمير المشهد الوطني».
إن الخوف، والكراهية المتزايدة للمهاجرــ وهو شخصية خيالية ومفيدة مثل اليهودي سابقا والآنــ يقدمان استجابة سياسية متماسكة لـ «تجريد الدولة» (8) «المتطفلة» و»الغامضة»، والتي تحكمها الآن خوارزميات غامضة. واليوم، كما هو الحال بين الحربين، يقدم شعار الشعبوية السيادية «تبسيطًا وحشيًا لتعقيد الحياة الحديثة» (أنطونيو سكوراتي) من خلال إعطائها أخيرًا معنى، أي معنى «المؤامرة» أو على أقل تقدير «التهديد». وبالتالي، فإن طبقتنا السياسية هي أيضًا طبقة «ما بعد»، أي «ما بعد «الكوارث التي أثارتها بنفسها، تمامًا كما ساهم «موسوليني» في إلقاء «إيطاليا» في جنون الحرب العالمية الأولى التي فجرتها فاشيته، وكذلك الاشتراكية القومية، التي سوف يولدها.
إن رهاب المهاجرين هذا «ليس له أي علاقة بالعقل أو التاريخ» (فوريو جيسي). فمن ناحية، فإن فئة الهجرة هي كلمة مركبة تغطي حقائق اجتماعية واقتصادية متباينة، مما يحجب الضرورة الديموغرافية والاقتصادية لوصول الأجانب من أجل مصلحة أوروبا المفهومة جيدًا، وهذا يمنعنا من التفكير في فائدة ثقافية هائلة كانت ستجنيها منه لو كانت أقل غباءً. ومن ناحية أخرى، فإن الخوف من المهاجر وكراهيته يقطعاننا عن تاريخنا، وهو ما لا يخلو من الفحش بالنسبة لأولئك الذين يتذكرون ملايين الأوروبيين الذين هاجروا إلى العالم الجديد والمستعمرات لأسباب: «دينية»؛ «اجتماعية»؛ «اقتصادية»؛ «سياسية»، حيث لا يمكن أن ننكر مساهمة الهجرة في علومنا أو إبداعنا الفني على مدى القرنين الماضيين، دون حتى الحديث عن القرون السابقة. كانت كل من «المسيحية»، «العصور الوسطى»، «عصر النهضة»، «الإصلاح»، «القرن الكبير»، «عصر التنوير»، فترات شاهدة على قصص عن المهاجرين واللاجئين. ليس من اللطافة ولا من الذكاء أن ننسى من أين أتينا، ولو فقط لحماية أنفسنا من الأخطار التي أوقعنا بها «الاستياء» و»الخوف» و»الكراهية»، على سبيل المثال بين 1920-1930.
من المؤكد أن «مارين لوبان» ليست كـ»هتلر»، ولا أحد يفكر- في الوقت الحالي على الأقل – في إبادة المهاجرين، الذي هم أشبه باليهود (من حيث الهجرة) في عصرنا، بل علينا فقط أن نتركهم يموتون في الصحراء أو البحر أو الجبال أو الغابة عن طريق منعهم من ركوب الطائرة والقطار، لكن المقارنة تعمل على إضفاء الطابع الفردي على المواقف، كما يذكرنا المؤرخ «بول فين»: «عندما نقارن الطماطم في سوقنا، فإن ذلك في الواقع لتحديد أي منها سيحظى بتفضيلنا وفقًا لمعايير القيمة لدينا (السعر، الطعم، نوعية الإنتاج…)، ولا يعني ذلك أن «جميع الطماطم تحت أشعة الشمس حمراء».
إن الحديث عن «الفاشية» لـ»توصيف الخطر الذي يثقل كاهل ديمقراطياتنا لا يعني تشبيهها بـ»الموسولينية» أو «الهتلرية»، بل هو تسليط الضوء على «نمط معين من الهيمنة»، نظام معادي «للاستخدام العام للعقل» الذي يحكم في العالم»، وأن أول شخص من خلال التأكيدات القطعية والأوامر والسيطرة على المعلومات والعلوم، سوف يلجأ إلى الإكراه للتغلب على التناقض بينه وبين «تبسيط الفعل» أو «الخيالات في رواج الرأي وتعقيد الواقع».
يتعلق الأمر أيضًا، بفهم أفضل لمستقبلنا المحتمل من خلال تحليل الطريقة التي تم بها إنشاء هذه الأنظمة ومنطق الوضع الذي سمح بانتصار «موسوليني» أو «هتلر» على الرغم من أنهم كانوا أقلية في بلادهم. هؤلاء، لم يستحوذوا على السلطة بقدر ما انتزعوها من الأرض بعد «التفريغ السياسي والإيديولوجي» للديمقراطية البرلمانية التي لم يعد أحد يفكر في الدفاع عنها، من خلال التنديد بأخطائها ورذائلها وعدم تذكر فضائلها. في إيطاليا وألمانيا، كانت الديمقراطية «مكروهة» أو»مهجورة» و»منكرة» من قِبَل الطبقة السياسية، والأكاديميين، والمثقفين، والفنانين، والقوى الدينية، والنقابات، وفي نهاية المطاف قسم كبير من الناخبين أنفسهم. واليوم، أصبح «الامتناع عن التصويت» والامتناع عن استخدام عبارة «كل شيء فاسد» التي تنقلها الشبكات الاجتماعية بمثابة حجر الأساس للصورة الرمزية الجديدة للفاشية باعتبارها «أسلوبًا للهيمنة».
نحو نقطة التحول..
في فرنسا، نقترب بلا هوادة من «نقطة التحول» منذ انتخاب «إيمانويل ماكرون» في عام 2017، من خلال التحولات المتعاقبة والمتزايدة سريعا، منذ إعادة انتخابه (الشاق) في عام 2022 . وهو التعثر الذي قمت بتأريخه في مدونتي وفي وسائل الإعلام المختلفة (9). وفي يونيو، شكّل الحل وثبة أذهلت حتى المؤمنين برئيس الجمهورية، مسلطة الضوء على عدم نضجه، نرجسيته، افتقاره إلى أي حس سياسي وعدم ملاءمته للمنصب الذي يشغله، باختصار عدم كفاءته.
كان كل هذا واضحاً لفترة طويلة، ولكن- وأنا في موضع اطلاع جيد- لم يكن من الجيد أن أكتبه، في مجتمع يتمتع بـ»الشرعية العميقة» على الرغم من ميله إلى «الثورة». لم نكن نريد حقًا أن نرى أن مغامرة «إيمانويل ماكرون» لم تكن تلك التي يتمتع بها «بونابرت» على جسر «بونت داركول»، والذي كان يتمتع بالحنكة الكافية ليبني سلطته على كفاءة الطبقة السياسية المهنية من أتباع التيرميدوريين بل على كفاءة ابن أحد أبناء ماكرون، أي عائلة تجهل واقع المجتمع الفرنسي بسبب عدم مواجهته انتخابيًا، والذي كان يدين بثروته الرئاسية فقط لمجموعة لا تصدق من الظروف. لقد كشف إقصاء تيارات الطبقة السياسية – ما بين 2016-2017 – عن تفريغ الديمقراطية، لقد أعلن «ضمنيا» عن الأوقات العصيبة التي نعيشها اليوم. إن الممارسة الانفرادية والمتقلبة للسلطة من قبل إيمانويل ماكرون، والتحايل على الهيئات الوسيطة وتنحيتها، والتدمير المنهجي لنظام الحزب غير الدموي، كل ذلك فعل الباقي وخلق فراغًا لا ينبغي أن يملأه إلا من نعرفه.
ومثله مثل المستشار «هاينريش برونينج» (في الفترة 1930-1932)، قوض «إيمانويل ماكرون» الحريات العامة بحجة إنقاذ الديمقراطية، على غرار أسلافه من اليسار واليمين على حد سواء. لقد روج لـ»دولة قوية» من أجل «اقتصاد سليم»، وفقا لشعار الفيلسوف «كارل شميت» الذي أحب أن أقتبسه باللغة الألمانية ولكن ليس من دون الاعتراف بجذوره الشخصية على الطراز الفرنسي، ونقصد «ثورة محافظة».
وبعد فشله في الحصول على الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية في عام 2022، كان ينبغي له في منطق برلماني سليم، أن يعين رئيس وزراء مسؤولا عن تشكيل «حكومة ائتلافية» بين حكومته والجمهوريين أو بين هذا أو ذاك المكون من اليسار. وفي غطرسته الكاملة، اعتقد أنه من الممكن أن يحرر نفسه من هذا الالتزام ليضطر أخيرًا إلى الاستسلام له في أسوأ الظروف، بعد أن فقد في هذه الأثناء معظم رأسماله السياسي، وليس بدون وابل من المماطلة والمناورات بما في ذلك الأزمة الاقتصادية، وستكون بعدها التكلفة المالية كارثية.