منذ أن قررت التوجه إلى مدينة سلا، امتلأت رأسي بمجموعة من الأسئلة حول الوضع الأمني بمدينة سلا، والذي أصبح منذ سنوات أحد أبرز اهتمامات الساكنة.
أسئلة اختارت أن تمتطي صهوة قطار سريع في اتجاه مدينة سلا كي تتمكن من أن تطرح نفسها على أرض الواقع، واقع تتبعنا خلاله جهود توفير الأمن خلال تتبعنا لأطوار محاكمة إكديم إزيك ، وكلنا أمل أن تجد تلك الأسئلة لذاتها أجوبة حول ما بعد «الارتخاء» الأمني الذي عاشته لسنوات وبخصوص واقعها الأمني اليوم بعد تعيين رئيس جديد للمنطقة الاقليمية للأمن.
في ظل التحولات العمرانية التي عاشتها جارة عاصمة المملكة الرباط، شكلت بنية المجال الحضري لمدينة سلا أحد العوامل التي أثرت في شيوع ثقافة العنف، حيث تبين المعطيات المتوفرة أن أعمال العنف في المدينة ترتبط بالشباب أكثر من غيرها من الفئات الأخرى. فيما
شكلت الجهود الأمنية إحدى أضلع المقاربة التشاركية لتطويق الجريمة، التي يشكل فيها العامل الأمني جزءا من معادلة تحقيق التنمية الفعلية والشاملة والمستديمة للمدينة وليس أسها.
لقد ساهم خلق قاعة القيادة والتنسيق ووحدات متنقلة لشرطة النجدة والدراجين وتعزيز المنطقة الاقليمية للأمن بسلا ، في تحقيق حد أدنى من الأمن وقطع بشكل كبير مع مرحلة تعتبر من أحلك اللحظات التي عرفتها مدينة سلا على المستوى الأمني. كما شكل إعادة بناء وتنظيم بناية المنطقة الإقليمية لأمن سلا فارقا أساسيا في الزمن الأمني..
رحابة المكان وسعة صدر الإنسان
ما أن تطأ قدماك مدخل بناية المنطقة الإقليمية لأمن سلا، حتى يستقبلك موظفات وموظفو الأمن، دون استثناء، بابتسامة ترحيبية تنم عن دينامية متجددة ونشاط متواصل، ثم يقومون، وحسب القوانين الجاري بها العمل داخل المنطقة الأمنية، بالتعرف على هوية الوافد، يفتشون حقيبته، ويسحبون هاتفه النقال ثم يدونون هويته وسبب زيارته ليمنحوك في ظرف قياسي شارة زائر لرداهات هذه البناية الأمنية.
موظفون يتمتعون بسعة صدر توازي رحابة المكان (فضاء بدون تدخين ولا يستحمل ذبدبات هاتف متنقل) تفوح منه نفحات «ترحيب» متميزة، فعوض إشاعة جو من «الترهيب» أو إحساس بالتوتر وعدم الارتياح في نفوس الزائرين، تجعل الأطر من شعار «الشرطة في خدمة المواطن» أولوية قصوى، تتبناها المديرية العامة للأمن الوطني في نهجها لسياسة القرب تجاه المواطن.
مكان برحابته وهندسته الداخلية، أصبح مغايرا بشكل واضح لما كان عليه قبل سنوات خلت، فقد جعلت منه الإصلاحات المتواصلة فضاء للعمل بامتياز وشكلا تواصليا مفتوحا وشفافا، وخلقت منه انعكاسا لمدى التطور والتحديث الذي تسعى إليه المديرية العامة للأمن الوطني، كما عززته التغييرات في الموارد البشرية بعينة جديدة من الموظفين يحملون مؤهلات علمية وأخلاقية وتكوينا يساير طبيعة عملهم الشرطي ويشكلون «مرآة للعنصر الأمني النموذجي الذي يسعى عبد اللطيف الحموشي، المدير العام للأمن الوطني، إلى احتضانه في المؤسسة الأمنية المغربية إعمالا لمبدأ الكفاءة والنزاهة والمسؤولية».
إن الدينامية التي تعرفها كل دواليب المنطقة الإقليمية لأمن سلا تؤكد رغبة رئيسها العميد الاقليمي يوسف بلحاج في تقديم «منتوج أمني» أساسه الجودة في الخدمة مما يعكس رغبة المديرية العامة للأمن الوطني في بلوغ تغيير جذري في طبيعتها يرنو إلى الأحسن، ومنطلقه تحسين ظروف استقبال تستجيب لأسس التواصل الجديدة والتسويق المعمول بها في التعامل مع المواطن، من خلال تجهيز شباك للاستقبال بنظام تدبير الاستقبال وبفضاء عمل مفتوح يهم استقبال ملفات تسوية أوضاع المهاجرين غير النظاميين أو الملتحقين للاستقرار بالمدينة لسبب أسري أو بسبب العمل، بالإضافة إلى مجال مفتوح للانتظار بإشعار المنع من استعمال الهاتف وعدم التدخين.
إن السواد الأعظم من المواطنين الذين يقصدون المنطقة الإقليمية لأمن سلا أكدوا تحسن الخدمة المقدمة بها، كما أكدوا الطابع الرحب والتواصلي للبناية وسعة صدر موظفيها نساء ورجالا، وهي خدمة انتفت فيها العقلية «البوليسية» التي كانت تسكن ردهات مكاتب هذه البناية قبل الشروع في تطوير أداء موظفيها وتحسين وجهها الأمني وترميمه وضخ دماء جديدة عملت على محو النقط السوداء التي كانت تشيع جوا من الخوف وعدم الطمأنينة في نفوس المواطنين، بعدما أصبح اسمها مقترنا بعالم الجريمة والإجرام.
تدعيم التدخلات الميدانية للوقاية من الجريمة وتعزيز الشعور بالأمن في سلا
فتحت المنطقة الإقليمية للأمن بمدينة سلا أوراشا متعددة تروم إضفاء المزيد من النجاعة والفعالية على عملها والرقي بالعمل الأمني إلى مستوى تطلعات المواطنين وانتظاراتهم، وجعلت من تدعيم التدخلات الميدانية في مجموع أحياء المدينة، سواء العتيقة أو الجديدة، للوقاية من الجريمة وتعزيز الشعور بالأمن من خلال «إحداث وحدات متنقلة لشرطة النجدة ودراجيين يشتغلون بتنسيق مع قاعة القيادة والتنسيق عبر الخط 19 الخاص بتلقي شكايات المواطنين على مستوى مدينة سلا إحدى أولوياتها.
وتهدف الوحدات المتنقلة لشرطة النجدة والدراجيين، وهي وحدات أمنية محمولة، ومجهزة بآليات للتنقل والتدخل الميداني، إلى تكثيف التواجد الشرطي بالشارع العام، وتحقيق الفعالية والسرعة في الاستجابة لنداءات المواطنين الواردة عبر الخط الهاتفي (19).
ولأجل مواصلة هذه الخدمة الضرورية والمحافظة عليها في مدينة مليونية مثل سلا معروفة بخصائص مجالية تتميز بطابع الاختلال واللاتوازن، تم تعزيز أسطول الدراجات النارية في المنطقة الاقليمية للأمن بسلا خلال النصف الأول من السنة الجارية بـ13 دراجة نارية جديدة أضيفت إلى تلك المتوفرة قبلا.
وما خلق قاعة قيادة والتنسيق بالمنطقة الإقليمية للأمن بسلا في غشت من السنة الماضية إلا أحد تجليات ترسيخ مبدأ التواصل وتفعيل سياسة القرب التي تبنتها المديرية العامة للأمن الوطني في تدبيرها للشأن الأمني من خلال الاستجابة الفورية لاتصالات المواطنين المصاحبة بتدخل فوري ميدانيا.
وقد ساهم إحداث قاعة القيادة والتنسيق من إبعاد تلك النظرة السوداوية للمواطن على الخط 19، فإلى وقت قريب هيمن، جراء ضغط المكالمات الذي لم يكن يتماشى مع محدودية الإمكانيات، انطباع سلبي عام تجاه خط 19 وسم تصور الناس عنه وسكن خيالهم، نظرا لبطء الاستجابة لنداءات نجدة صادرة عن مواطنين في وضعية أمنية حرجة، وفي أشد الحاجة إلى أذن صاغية توصل نداء استغاثتهم إلى يد مساعِدة تنقذهم من الخطر المحدق بهم، وهي العوامل التي أدت إلى فقدان المواطن لثقته في هذه الوسيلة واعتبارها غير ذات جدوى أو فائدة بالنسبة له.
وتتغيا قاعة القيادة والتنسيق، التي جهزت بمعدات حديثة ومتطورة، مواكبة عمل الوحدة المتنقلة لشرطة النجدة، وفي هدا الصدد، تقول خديجة فاضل ضابط الشرطة المسؤولة في قاعة القيادة والتنسيق بالمنطقة الإقليمية للأمن بمدينة سلا إن «العمل داخل القاعة يتم بطريقة ثلاثية تنطلق بتلقي اتصال المواطن من قبل موظفات في السلك الأمني تلقين تكوينا نظريا وتطبيقا في هذا المجال حيث يتم تسجيل كل المعطيات المتعلقة بالشكاية المتوصل بها عبر الخط 19 لتليه في مرحلة ثانية عملية تحليل ومعالجة للمعلومات تتحول بعدها من مكالمة سلكية إلى برقية لا سلكية تبث إلى الجهة المستقبلة، وهم مناولون داخل القاعة يقومون بتعميمها عبر جهاز لاسلكي على شكل إشعار لدوريات الدراجيين أو وحدات النجدة القريبة من موقع الشكاية’’.
وتبين متابعة خديجة فاضل ضابط الشرطة لسير العمل بقاعة القيادة والتنسيق وكذا التنقل بين مكاتب موظفيها المكلفين بالربط اللاسلكي مع عناصر الوحدة المتنقلة لشرطة النجدة ومخادع مناولاتها من نساء الأمن المكلفات بتلقي المكالمات ومعالجتها، مدى توفرها على قدرة تواصلية متميزة بالإضافة إلى تمتعها بحس إنساني متيقظ وكفاءة مهنية عالية.
فمنذ شهر غشت من السنة الفارطة، تاريخ إعطاء إشارة البدء الفعلي لقاعة القيادة والتنسيق بالمنطقة الإقليمية للأمن بمدينة سلا، بمواصفات تقنية عالية، من أجل تأمين تلقي اتصالات المواطنين على مدار الساعة، وتدبير التدخلات الميدانية في الشارع العام، يواصل العاملون بقاعة القيادة والتنسيق بالمنطقة الإقليمية للأمن بمدينة سلا من موظفي وموظفات الشرطة اشتغالهم بشكل ناجع في معالجة الشكايات من زمن الاتصال إلى زمن التدخل والذي لا يتجاوز 7 دقائق.
وتراهن خديجة فاضل ضابط الشرطة المسؤولة في قاعة القيادة والتنسيق بالمنطقة الإقليمية للأمن بمدينة سلا، التي يعتبر صوتها واحدا من بين الأصوات النسائية الرائدة أمنيا في المغرب، بل لنقول الأولى في المغرب التي اخترقت الجهاز اللاسلكي، (تراهن) على روح الفريق والتعاون بينها وبين كل الموظفين لأجل بلوغ خدمة عمومية تستجيب لطموحات المديرية العامة للأمن الوطني، وفي الآن ذاته، تلبي انتظارات المواطن الذي اختار أن يستقر على تراب المنطقة الإقليمية للأمن بسلا.
وسجلت قاعة القيادة والتنسيق، وهي فضاء مريح للاشتعال مصمم وفق معايير دولية بشكل يريح الجسد والروح يغلب عليه لون أزرق مفتوح على الجدران تنتظر تزويدها بشاشات مرتبطة بشبكة للمراقبة عبر الكاميرات ويتقاطع لونها مع لون بذلات الأمنيات الرسمية في حلته الجديدة والذي يوحي بالقوة والطمأنينة والشفافية، سجلت إلى حدود فبراير من السنة الجارية أزيد من 375 ألف مكالمة من بينها أكثر من 121 ألف مكالمات إيجابية، أي تمت معالجتها ونفذ التدخل بشأنها في حين سجلت أزيد من 363 ألف مكالمة سلبية.
«ما حدث مرة أن نادينا على الخط 19 وأبطأ في التدخل، لكن ومنذ إحداث قاعة القيادة والتنسيق وتعزيز عملها مع فرق النجدة والدراجيين أصبح التواصل أكثر سهولة وسلاسة»، يقول أحد سكان حي الرحمة الشعبي بمدينة سلا، الشهير بمتنقضاته الاجتماعية والذي يحتل الصدارة من حيث عدد تدخلات الوحدة المتنقلة لشرطة النجدة بحوالي 2500 تدخل، متبوعا بحي السلام بما يقارب 2260 تدخلا ثم أحياء أشماعو وحجي بحوالي 1990 تدخلا والمدينة القديمة بمايقارب 930 تدخلا وحي مولاي اسماعيل بحوالي 760 تدخلا وسلا الجديدة 760 تدخلا والعيايدة بما يقارب 320760 تدخلا.
وهذا يوضح بالملموس أن «إقبال المواطن، الذي اختار العيش فوق تراب المنطقة الإقليمية لأمن سلا على طلب الخدمات الأمنية من خلال الاتصال بالخط 19، رفع من عدد تدخلات الوحدة المتنقلة لشرطة النجدة، إذ بلغ عدد تدخلات هذه الوحدة خلال سنة منذ انشائها (فبراير 2016) ما يقارب 10 آلاف تدخل، بمعدل تدخل على رأس كل ساعة، الأمر الذي تترجمه احصائيات سنة من انشاء الوحدة المتنقلة لشرطة النجدة بأمن سلا.
وإجمالا يمكن القول، بناء على دراسة بنية المجال الحضري والعنف لدى الشباب.. مدينة سلا كنموذج التي أنجزها رشيد بوعبيد، أستاذ باحث في كلية الآداب والعلوم الانسانسة في الجديدة،» بأن العوامل السوسيومجالية، تشكل عوامل أساسية في شيوع ثقافة العنف التي تميزشرائح واسعة ومختلفة بالوسط الحضري للمدينة»، كما يتضح، حسب استنتاجات الدراسة، بــ»أن أعمال العنف في المدينة ترتبط بالشباب أكثر من غيرها من الفئات الأخرى وهذا ما يعني بأن سلوك العنف يتغذى من النروعات الاجتماعية للأفرد والمتصلة بماهو ذاتي ومحيطي».
ارتفاع عدد التدخلات في فصل الصيف مقارنة مع باقي فصول السنة
وتسعفنا المعطيات المتوفرة، من مصادر مأذونة، إلى الإشارة بشكل جلي أن فصل الصيف، وبالنظر لطبيعته المتميزة بفترة الإجازات والعطلات، وأيضا ما يرافقه من تحركات لعوامل مناخية كارتفاع الحرارة وطول النهار، وكذا ازدهار السياحة وكثرة تنقلات الأشخاص وما ينتج عن ذلك من مشادات ومشاجرات وتصادمات بين الأفراد، يشهد (فصل الصيف) ارتفاعا ملحوظا في عدد التدخلات مقارنة مع باقي أشهر السنة كما أن تحليلا كميا لهذه المعطيات يوضج بشكل جلي أن الإرتفاع في عدد تدخلات الوحدة المتنقلة لشرطة النجدة يسجل كلما حلت «مناسبة «أو «عيد».
وسجل شهر فبراير تراجعا بنسبة الثلث في عدد تدخلات الوحدة المتنقلة لشرطة النجدة والدراجين، التي تنعكس معالجتها في الوقت المحدد إيجابيا على المواطن وتعزز ثقته في الجهاز الأمني وتجعله يشعر بالأمن الأمان، حيث لم يتجاوز عدد التدخلات الميدانية 650 تدخلا بمجموع تراب المنطقة الإقليمية للأمن بسلا.
وفي هذا الصدد، يؤكد رشيد بوعبيد، أستاذ باحث في كلية الآداب والعلوم الانسانسة في الجديدة الذي اهتم عن قرب بظاهرة العنف في مجال سلا «أن الحد من السلوك الإجرامي المتسم بالعنف خاصة والسلوك المنحرف عامة يأتي من خلال العمل على تحسين الظروف الذاتية للشباب وأنسة الظروف المجالية وتوفير الشروط الإدماجية اللازمة».
وهو الأمر نفسه، بحسب المتخصصين سياسة المدينة، الذي «يفرض على أصحاب القرار الترابي والسياسي الأخذ بعين الاعتبار الوضع الحالي لجارة عاصمة المملكة، وكذا تطورات مكونات بنية مدينة سلا السوسيو اقتصادية والثقافية للمدينة والإنكباب على تمكينها من إطار حضري يتميز بجودة الحياة للمواطن ويضمن اندماج ساكنتها وعلى الخصوص الشباب ويعبر عن الإنخراط والتخفيف من إقصائهم الاقتصادي والمجالي والاستبعاد الاجتماعي».
وتعيش مدينة سلا أعلى درجات الاتصال بقاعة القيادة والتنسيق نهاية الأسبوع، خاصة خلال الفترة الزوالية والليلية كما أنها ترتفع مع بداية الشهر ومنتصفه ونهايتة وهذا لا يمكن أن يجد له من تفسيرا إلا الدخل المادي الذي توفره المراحل الثلاث من الشهر (بدايته، منتصفه «الكانزا»، أو نهاية الأسبوع «السيمانة») وتمكن من النشاط الاستثنائي للمتسببين في العنف ضد الأشخاص أو في الصراع مع أطراف سواء عائلية أو جيران والقيام بجنح أو جرائم في الشارع العام.
ويعزو الباحث طالع سعود الاطلسي، في مقال له حول «الحكامة الأمنية في سياق وتفاعلات المسار الإصلاحي المغربي» استشراء المظاهر والسلوكات الإجرامية كسلوكات فردية إلى «سوء تعاطي البعض مع الممارسة المفتوحة للحريات الفردية والاجتماعية، ونوع من التلقي المرضي لانفتاح مجتمعنا على الخارج، والإختلال في توزيع الثروة الوطنية وأعطاب المصاعد الاجتماعية، وتآكل الكوابح التربوية وانحدار المردودية التعليمية، مع توابل محدودية قدرات الاقتصاد الوطني»، الأمر الذي يضيف «ينمي الفردانية ويغري أو يحفز أو يسهل الإنجرار إلى سلوكات إجرامية (جنحية أو جنائية) ناجمة عن هشاشة نفسية تولد أوهام غنائم فردية أو تزين انتقامات أو تفجر انفعالات».
إن مدينة سلا ليست استثناء لما تعيشه مدن مغربية أخرى من تفاقم للإنحراف والميولات والنزوعات الإجرامية، فهي مدينة أضحت أكثر من أي وقت مضى في حاجة ماسة إلى مقاربة تشاركية يشكل فيها العامل الأمني جزء من معادلة تحقيق التنمية الفعلية والشاملة والمستديمة للمدينة وليس أساساها، حتي لا ينطبق عليها كتبه الروائي عبد الرحمن منيف في خماسيته «مدن الملح» لتشبه لاقدر الله «تلك المدن الّتي نشأت في برهة من الزمن بشكل غير منطقي واستثنائي، وأصبحت مثل بالونات يمكن أن تنفجر، أن تنتهي بمجرد أن يلمسها شيء حاد. فالملح، بالرغم من أهميته للحياة الإنسانية، فإن أية زيادة في كميته أي عندما تزداد نسبة الملوحة تصبح الحياة غيرقابلة للاستمرار».
ومن ثمة «لا يمكن فصل رهان المدينة المندمجة عن الخيارات المرتبطة بالحكامة والديمقراطية المحلية، مادام أن إعداد التراب غدا شيئا فشيئا شأنا محليا، مما أصبح يخول لكل جماعة محلية الحق في العناية بعمليات الإعداد الترابية التي تراها ضرورية وملحة لتنميتها».
وهو الرهان الذي لا يمكن كسبه، «بدون إرساء ودعم آليات المشاركة الديمقراطية للساكنة الحضرية في تسيير شؤون مدنها وأحيائها، وبدون نموذج متجدد، مندمج وتشاركي ومسؤول للتخطيط الحضري، نموذج يرتكز على التشاور والتنسيق بين ثالوث السلطات المنتخبة والسلطات المعينة واللجنة بين الوزارية المكلفة بسياسة المدينة، لتطوير التعاقد والتشارك كنمط للتعبير عن التوافق في إعداد التراب المحلي، وفي التخطيط والتسيير الحضري الذي يضمن الجودة والفاعلية والشفافية المالية والتدبيرية، ورواج المعلومة بين كل الفاعلين والمتدخلين في الشأن الحضري».
« الديزناف» ووداعا مقولة «واش سال الدم»
إن تغيير المواطن لنظرته تجاه «الديزناف» أي الخط 19، الذي نسجت حوله قصص كثيرة في المخيال المغربي كثيرا ما ربطت الاستجابة لاتصال بعينه بوجود ضحايا» ومقولة «واش سال الدم»، كانت إلى حد بعيد نذير شؤم بالنسبة للمواطنين وتكرس نظرتهم السوداوية لهذا الخط.
ويقول عبد المجيد النبسي رئيس جمعية حي اشماعو بمدينة سلا، الذي تحول إلى مشتل لصناعة الخوف وفضاء تنامت فيه ظاهرة السرقة بالكسر داخل السيارات بالنظر للمستوى الاجتماعي والاقتصادي لساكنته، «إن رجال الأمن اليوم منتشرون في أكثر من مكان على امتداد المجال الحضري للمدينة، وتمكنوا اليوم من احتواء الأزمة الأمنية التي عاشتها مدينة تميزت بشيوع ثقافة العنف الذي يميز شرائح واسعة ومختلفة بالوسط الحضري».
وتعيش مدينة سلا اليوم تحولا أمنيا إيجابيا استطاعت معه الجهود الأمنية التي تبذلها المصالح الأمنية التابعة للمنطقة الاقليمية لأمن سلا منذ تعيين رئيسها العميد الاقليمي يوسف بلحاج أن تعطي أكلها، كما مكن تظافرها من التخفيف من معدلات الإجرام «فالحالة الأمنية للمدينة، الموسومة بعنف مجالي يحول دون توفير الأمن، وهوامشها التي تدخل في مجالها الحضري تختلف اليوم بشكل كبير عما كانت عليه في وقت سابق، فقد تم تطويق أسباب الخوف والرهاب»، يقول سائق طاكسي قادني في جولة إلى المدينة.
«إن الفراغ المسجل في مرحلة سابقة، يوضح رئيس جمعية حي اشماعو بمدينة سلا، قد ولى وانتهى وتحقق امتلاؤه بدوريات رجال الأمن التي تعرج على مختلف الأزقة والدروب»، وما فعالية التدخلات الميدانية لعناصر الوحدة المتنقلة لشرطة النجدة، التي ضاعفت جهودها وثابرت من أجل تحقيق الجاهزية والإسراع في إنجاز التدخلات بغية تعزيز الإحساس بالأمن لدى المواطنين، إلا انعكاس لتغيير النظرة السلبية للخط 19 وإقبال المواطنين على طلب خدمات أمن القرب من خلاله».
ويوضح عبد المجيد النبسي، «إنه بالرغم من تحسن الوضع الأمني في مدينة مليونية مثل سلا، فهذا لا يعني بشكل مطلق أن الفعل الجرمي قد انتهى أوغابت أسباب اندلاعه، غير أننا في ذات الوقت نسجل – يضيف- ارتياحا نسبيا لتدخلات رجال الأمن التي أصبحت مرتفعة مقارنة مع وقت سابق».
وبهذا فإن الحضور الأمني بالمدينة تبرزه بشكل لافت تدخلات عناصر الوحدة المتنقلة لشرطة النجدة والدراجين التابعة للمنطقة الإقليمية لأمن سلا وعناصر الهيئة الحضرية في قضايا مختلفة على ارتباط وثيق بالأمن العام، سواء تعلق بما يمس المواطنين بسبب سكر علني، أو بتوقيف مشبوه بهم، أو فض خلافات بالشارع العام، أو جراء حوادث سير، أو التحوز على الأسلحة البيضاء، أو أفعال السرقة، أو اعتراض سبيل المارة، أو العنف ضد الأصول أو تنظيم الحركة في المدينة أو حماية منشآتها على اختلافها.
وتبقى الوقاية من الجرائم العنيفة أبرز مجالات تدخل عناصر الوحدة المتنقلة لشرطة النجدة والدراجين، الذين لم يسبق لأي مواطن يعيش في المنطقة الإقليمية لأمن سلا أن قدم شكاية في حق المنتسبين إليها، حيث صدت حوالي 1700 اعتداء عنيف، بالإضافة إلى تدخلها في أزيد من 1430 حالة من أجل الحد من المس بالممتلكات والأشخاص، ثم تمكنت من ضبط 730 حالة لحيازة السلاح الأبيض بدون مبرر شرعي، كما سجلت عناصر الوحدة المتنقلة لشرطة النجدة والدراجين ما يقارب 230 حالة عنف ضد الأصول، وعملت على توقيف ما يزيد عن 100 شخص من المبحوث عنهم، وزجر قضايا الإتجار في الأقراص المهلوسة والمخدرات بحوالي 70 تدخل.
فبعد تلقي الشكاية، في قاعة عاينت «الاتحاد الاشتراكي» حركية عملها الدؤوب والمتواصل في صمت واحترام متبادل إلى حد أنك لا تسمع خطو الشرطية التي تنتقل بين دواليب هذا الفضاء المفتوح الذي تلمس فيه انسيابية في العمل، تنطلق معالجة مضامينها وتحويلها لبرقية من أجل اللتدخل الميداني في قطاع من القطاعات الست داخل المجال الحضري للمدينة الذي تنتشر في أرجائه كل من دوريات للدراجين
الخط 19 والفهم المتعدد لـ»الشرطة
في خدمة المواطن»
ولا تخلو الاتصالات الواردة على الخط 19 من دعابات تنم سواء عن جهل المتصلين أو عن رغبتهم في «التقشاب» غير أن خبرة موظفات الشرطة في قاعة القيادة والتنسيق في المنطقة الإقليمية لأمن سلا تمكنهن من الرد بشكل لبق على المكالمات الواردة عليهن مع قدرة كبيرة على امتصاص سواء غضب أو جرأة المتصل.
ويحدث أن تعيش موظفات السلك الأمني العاملات في قاعة القيادة والتنسيق قصصا خارقة قد تفجر في دواخلهن الضحك إلى حد الهستيريا أو تثير في أنفسهن الشفقة إلى حد الألم لمضامين مكالمات المتصلين، الذين تتفاوت دراجات وعيهم في فهم معنى «الشرطة في خدمة المواطن» وهو أمر غير مقتصر على المغرب وحده لكن تعيشه كل قاعات القيادة والتنسيق عبر العالم.
فطرفة عابرة قد تفجر أيضا ابتسامة تبدد التوتر الذي قد يحدثه تتابع المكالمات الهاتفية التي تحمل بين ثناياها قصصا مؤملة، وباستثناء الألفاظ النابية التي تصدر عن أشخاص غير أسوياء بسبب خلل علقي أو تناول مفرط للمخدرات أو الكحول، فثمة من يتصل بقاعة القيادة والتنسيق بالمنطقة الإقليمية للأمن بمدينة سلا سواء جهلا أو «تقشابا» بحثا عن خدمة من خدمات الهاتف الجوال أو لقضاء حاجة أو البوح بشيء في نفسه بما أنه يؤمن أن «الشرطة في خدمة المواطن».
وتضم قاعة القيادة والتنسيق ست موظفات أمن برتب مختلفة، يشتغلن بالتناوب على مدار الساعة، تلقين تكوينا خاصا في التعامل النفسي مع وضعية المعتدى عليه المشتكي ويتقن أسلوب الحصول على معلومات دقيقة بالرغم من التشنج الذي يقع ويعبر عنه المتصل، فوسط هذا الفضاء الذي يغلب عليه اللون الأزرق بدرجات متفاوتة تنتصب الضابط الممتاز خديجة فاضل متنقلة كما الفراشة في خفة ومرونة توزع تعليماتها وتشرف على عمل الموظفات اللاتي لا تنم أساريرهن المبتسمة ولا ملامحهن الهادئة عن مقدار الجهد الذي يبذلنه في سبيل تلقي مكالمات متواصلة على مدار الساعة و استشفاف الجدي منها بكل مهنية واحترافية ثم إيصال مضمونها إلى الفرق المختصة لأخذ زمام الأمور والتدخل لحماية المواطنين والمحافظة على أمنهم وسلامتهم في أقرب وقت. كما يتميزن ببرودة دم ومهنية عالية في معالجة الشكايات تتم منذ أول ثانية تجعلهن يحررن برقية تجيب عن الأسئلة الخمس (من، ماذا، أين، متى، كيف)، ثم (لماذا) تضم كل عناصر إخبارية متكاملة، يقدمها مصدر الشكاية، لا تحتاج إلا إلى تعميمها في قنوات اللاسلكي.
خطة أمنية جديدة للقطع مع نموذج السيبة
إن الجهود الأمنية المبذولة على تراب هذه سلا المترامية الأطراف، التي تتوق إلى نهج سياسة مندمجة وشاملة للمدينة تخوض بقوة ربح معركة مكافحة مختلف أنواع الإقصاء، وإعادة تنظيم أشكال التضامن الإجتماعي، والتغلب على آفتي الفقر والأمية، تمكن ساكنتها وشبابها خاصة من ربح رهان مكافحة مختلف أنواع الإقصاء وإعادة كل أشكال التضامن، لم تتوقف بالموازاة مع إحداث قاعة القيادة والتنسيق والوحدة المتنقلة لشرطة النجدة.
لقد كانت الحاجة ملحة، بالنسبة لمدينة سلا، لقوة تتمتع بالكفاءة والفعالية في الميدان تتمكن من احتواء الأزمة الأمنية التي عاشتها مدينة تميزت بشيوع ثقافة العنف الذي يسم شرائح واسعة ومختلفة من الشباب بأحياء متعددة بالوسط الحضري لمدينة سلا التي، في رأي رشيد بوعبيد، أستاذ باحث في كلية الآداب والعلوم الانسانسة في الجديدة «تتميز بطابع الاختلال واللاتوازن الذي يطغى على بنيتها الديمغرافية والعمرانية والخدماتية والاقتصادية من حيث التوزيع والجودة والوفرة أو الغياب».
وهو الأمر، يوضح الأستاذ الباحث رشيد بوعبيد، الذي أدى إلى تفاقم مجموعة من المشاكل والصعوبات أمام ساكنة مدينة سلا، وبث حالة من الأنوميا أو اللامعيارية التي نقصد بها إجرائيا حالة من الصراع الناتجة عن الرغبة في إشباع وتحقيق الأهداف والحاجيات المختلفة للفرد وبين الوسائل المشروعة التي يتيحها المجتمع لتحقيق تلك الأهداف. هذه الحالة، يضيف بوعبيد، التي «تساهم بشكل جلي بدفع فئات مختلفة من المجتمع السلاوي عموما والشباب خصوصا نحو تبني سلوكات متناقضة مع المعايير والقيم الاجتماعية، وقد تتسم هذه السلوكات بالعنف المتمظهر بالاعتداء ضد الأشخاص وضد الممتلكات».
فقد أدى اختلاف العوامل السوسيومجالية في مدينة سلا إلى تدهور الحياة الحضرية مما نتج عنها سيادة
حالة من اللامعيارية المتمظهرة في دفع جزء من الشباب نحو الإنحراف والعنف، ومن بين الخصائص التي تميز الأحياء التي ينتمي إليها مرتكبو سلوك العنف من فئة الشباب عشوائية البناء، حيث المنازل مشيدة بدون تصاميم قانونية في أحياء تتميز بضيق الأزقة مما يعقد عمليات التدخل الأمني عبر السيارات، الأمر الذي حذا بالمنطقة الاقليمية لأمن مدينة سلا إلى تبني استراتيجية بديلة تعتمد لتدخل عبر الوحدات المتنقلة لشرطة النجدة والدراجيين، وأيضا فرق مجموعة الأبحاث والتدخلات.. كما أن من مميزات هذه الاحياء المتدهورة، التي لا تعتبر وحدها المقاربة الأمنية حلا للقضاء على العنف فيها، شيوع تصور ووصم عام بخصوص المنتمين إليها بكونهم منحرفين ومرفوضين اجتماعيا، وهو ما يكرس شعور الكراهية والرغبة في الانتقام لدى المنتمين إليها.
وهكذا يتضح مما سبق أن المجال، إلى جانب الظروف الاجتماعية، يؤدي دورا محوريا في تغذية سلوك العنف، إذا ما تعاظم توفر ظروف خاصة داخله، يكون طابعها العشوائية واللانظام اللذين يؤثران على الأفراد خصوصا فئة المراهقين والشباب، التي يزداد تراكم الإحساس لديها بالقسوة والحيف والتهميش.
فبعدما سجلت مدينة سلا استرخاء أمنيا جعل إسمها مقرونا بالعاصمة العلمية فاس اختار المسؤولون عن أمن مدينة سلا بناء خطة أمنية كان أحد أضلعها، إلى جانب الوحدات المتنقلة لشرطة النجدة والدراجيين، خلق وحدة جديدة للأبحاث والتدخلات مهمتها تقديم الدعم والمساندة لفرق الشرطة القضائية بمجموع تراب المدينةكلما تطلب الأمر ذلك تسهر رفقتها على تنفيذ القانون للقطع مع نموذج السيبة الذي كانت تعيشه جارة الرباط عاصمة المملكة المغربية.
لقد ساهمت مجموعة الأبحاث والتدخلات، التي تتكون من (50) عنصرا موزعة على (4) فرق بشكل كبير في الحد من بعض السلوكات المنحرفة داخل الأحياء الضيقة والشعبية مما مكن مدينة سلا من أن تحقق خلال الفترة الأخيرة بفضل تظافر جهود كل المصالح الأمنية مجتمعة، خاصة شقها الاستخباراتي سواء المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني أوالاستعلامات العامة، تحقق حد أدنى من الأمن قطع بشكل كبير مع مرحلة أحلك اللحظات التي عرفتها مدينة سلا على المستوى الأمني.
ويرى طالع سعود الاطلسي في مقاربته لموضوع «الحكامة الأمنية في سياق وتفاعلات المسار الإصلاحي المغربي» في جزئها المتعلق بمواجهة الانحرفات الإجرامية أن «الفعالية الأمنية تستدعي يقظة شمولية تراعي مولدات وتداخل الانحرافات والنزوعات الإجرامية. تلك المتصلة بالطبيعة الإنسانية، أو الناجمة عن الكيمياء الاجتماعية، أو ذات المنشأ التصفوي السياسي والإيديولوجي الموجه عن بعد، من خارج ثوابت تاريخ المغرب ومن خارج مميزات جغرافيىته الطبيعية والإنسانية».
وهكذا جعلت المنطقة الإقليمية للأمن بمدينة سلا من مكافحة الاتجار في المخدرات والمؤثرات العقلية المبني على التنسيق السلس في تبادل المعلومة الأمنية بين مختلف المصالح الأمنية واحدة من أولوياتها تلعب فيها مصالح المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني دورا مهما، إلى جانب مكافحة الجريمة بكل أنواعها في تراب المدينة بعدما خطت أولى خطواتها في ترتيب بيت الشرطة القضائية بالمنطقة الإقليمية للأمن بذات المدينة والدوائر التابعة لها، جعلها تعيش انطلاقة تحول جوهري منذ تعيين رئيس جديد لأمن سلا، مكنت من ضخ نفس جديد في شرايين الجسم الأمني بالمدينة ومن خلط أوراق الشبكات الإجرامية التي تنشط في تهريب المخدرات وأعطى دفعا لتكامل الاختصاصات.
بالرغم من أن معدلات احتمال حدوث الجرائم آخدة في الإنحدارفي مدينة سلا فتحسن الوضع الأمني بمجالها لا يعني البتة أن الإجرام انتهى أو غابت أسباب اندلاعه، يمكن القول إجمالا وختاما أن العوامل السوسيو مجالية تشكل عاملا في انشار العنف الذي يتغذى من الظروف الاجتماعية للأفراد والمتصلة بماهو ذاتي ومحيطي لا تحتاج فقط لمقاربة أمنية للقضاء علىها بل لمقاربة شاملة ومستديمة يكون فيها العنصر الأمني أحد أضلاع المعادلة المجتمعية.