هل للشعر دور في العلاج النفسي؟

 

الوعي بقيمة الشعر

كلما تنامى وعينا بقيمة الشعر كقوة جمالية بانية، وشافية لكثير من جراحات النفس البشرية، تقَدَّمنا حضاريا وإنسانيا، وتخلَّصنا من تلك النظرة التي تزري به،وتُدخله في خانة اللاجدوى واستفدنا من نظرة قدماء الأغارقة إليه، بوصفهم القابضين على زمام الحكمة والمكتشفين مدى قوة الشعر، وفعاليته في النفس، ومدى قدرته على ترميم شقوق الباطن الممعنة في الاتساع.فقد انطلقوا به إلى ما لا نهاية له في طباق العلى احتفاء وتمجيدا وتسييدا على ما عداه من الفنون.
ولأهميته القصوى تلك في الحياة النفسية والجمالية للناس، لم يترددوا في تنصيب (أبوللو) إلها للشعر والطب معا، كما لم يتردد سيجموند فرويد في اعتباره أول مرآة للكشف عن الحقيقة العميقة في خبايا النفس، وهذا لا يثير دهشتنا إذا علمنا أن أرسطو قد تحدث عن العلاج بالشعر ، حين أشار إلى لون خاص من الشعر هو التراجيديا، ولاحظ أن مشاعر الخوف والإحباط والشفقة والاستيهامات التي تتضمنها نصوص هذا الشعر يُمكن أن تُصحِّح وتُهذِّب، ولهذا استعمل مصطلح (كَاثَارْسِيسْ Catharsis ) الذي يعني التطهير، والتخلص من الشيء المفزع والمؤلم والمخيف، والتغللب على كثير من أنواع الفوبيا.
فالشعر من هذه الوجهة مُعالِجٌ نفسي وعلاجٌ في الوقت ذاته، يقوم به الشاعر الإنسان لصالح الإنسان.

الغوص في خبايا النفس

فمثلا الشاعر الطبيب ابن سينا(370 هـ 427ه) كان معالجا بالشعر من الطراز الأول،وقد اكتسب في هذا المجال شهرة لا تقل عن شهرته في الطب الجسدي،حيث كان مدركا قويا لمختلف الاضطرابات العصبية والحقائق النفسية ويرى فيها عوامل نفسية لها تأثير كبير على أعضاء الجسم ووظائفها، ولهذا لجأ إلى الأساليب النفسية في معالجة مرضاه،ومنها أسلوب الشعر. فاشتهر بتعامله المرح مع مرضاه،حيث كان يقدم لهم النصائح في شكل أبيات شعرية تبين ما ينبغي أن تسيرعليه حياة المرء ليسلم من الأمراض ،فهو من أكبر الشعراء الأطباء النفسيين في القرون الوسطى،العالِمين بمنغِّصات النفوس،وملوثات صفائها،والمدركين القوى التي تختص بها،فيقول في أرجوزته:
وَكُلُّ رُوحٍ فَلَهَا قُوَّاهَا
فَلَيْسَ يَخْتَصُّ بِهَا سِوَاهَا
ولذا كان لا يفتأ في علاجه للمرضى يستشهد ببعض الأبيات الشعرية الموافقة لكل حالة،لأنه كان يعلم أن الشعر له تأثير خاص على النفوس،فهو كلمعة نور في كهف مظلم سحيقٍ أرسلها شاعر ـ مُلمٍّ بأغوار الناس وحركاتهم النفسية، واستيهاماتهم، ومحلوماتهم ـ في شكل لغوي شِعري مكثَّفٍ دالٍّ على ما يمرُّون به من اصطخاب وغليان داخليين،نتيجة ضغوط متعددة وانكسارات حادة.
فالفن ـ بكل أشكاله وأطيافه ،وخاصة الشعر ـ لا يكون فنا حقيقيا إلا إذا غاص في خبايا النفس الإنسانية، واستشف غوامضها، وأصغى إلى أسرار الأفئدة البشرية بأذُن خفية، بحثا عن كوامن الأسى فيها، وفي الوجود، وعن كوامن الإكراهات والمعوقات التي تعوق مسيرة الإنسان ،وتملأ عالمه بالقلق والاضطراب المليء بالمعاناة. ولذا كتب عن العلاج بالشعر الكثيرون في أمريكا و أوروبا، واعتبرت الفنون كلها وسيلة من وسائل العلاج النفسي،كما ذهب إلى ذلك العالم اللغوي الإنجليزي مايكل سميث ،فقد أكد أن الأدب والفن يُمكن أن يُستخدما كعلاج في حالات المرض النفسي،عن طريق مساعدة المريض على امتلاك معرفة أفضل عن نفسه، وعن ردود فعله، ومساعدته أيضا على تحقيق مستوى من التكيف لحياته متزنٍ. فالمعالجة النفسية بالشعرلها ميزات؛ منها:
1 ـ ضآلة التكلفة المادية للعلاج.
2 ـ سهولة تلقي الشخص له دون أخذ أدوية كيميائية،أو وصفات طبية معقدة.
3 ـ الشعور بالطمأنينة والارتياح بعد كل حصة علاجية، وذلك لأن المريض يعالج نفسه بما هو أشبه بالضوء المضمَر في نفسه.
فهدف الشعر هو أن يرسم من الصور ما يثير المخيلة، ويُثلج الوجدان، ويُجري في النفوس ينابيع الجمال بحكم معنويتها،عكس المادة التي هي ينبوع القبح حسب أفلوطين.إذ الصور الجميلة التي يبدعها الشعر لا تستهدف بجماليتها سوى اقتلاع أشواك الظلام، وصخور العداوة من النفوس، وطمسها، وشلِّ حركتها.فجمالها كامن خلف إبراز الكوابيس التي قد تحدث جراء التشيؤ والاغتراب والقهر،وهذا هو الموضوع الأعمق الذي يبرز فيه جمال الشعر كعلاج نفسي ناجع،حيث يعمل على أن يجعل انفصال الإنسان عن الإنسان هو موضوعه الجوهري،وقد تكون الموضوعات المختلفة الأخرى إطارا خارجيا له، ولباسَه الظاهر، ولكن الأهمَّ فيه ؛فنّاً وجمالا ؛هو جمالية انفصال الذوات وتصادمها، كما في قول الشاعر جميل بثينة:
وَلَوْ تَرَكَتْ عَقْلِي مَعَ مَا طَلَبْتُهَا وَلَكِنْ طِلاَبِيهَا لِمَا فَاتَ مِنْ عَقْلِي
فهو لا يريد الانفصال عن عقله لأن عقله هو عين وجوده، فالبيت موضوعه هو الانفصال، وهو هنا انفصال الإنسان عن جوهره الذي هو فكره، فالجسم وحده لا يكفي بل لا بد له من الروح التي تعطيه التناغم، ولإنسان دائما في شوق إلى هذا التناغم، وإلى أن يعود المنفصل عنه إليه،لأنه في غربة،والغربة ـ وفقا للباحث( والتر كوفمان) ـ هي التي تجعل الكائن الإنساني أكثر إنسانية، فبتناغم الذات وانسجامها ترتفع الكآبة.
فالإنسان يرفض أن يكون مجرد ظاهرة طبيعية، تُفرِغ فيه الأزمات شهوتَها عن طريق التغريب والتشييئ والإذلال. ولذا يجنح إلى الفن؛وفي مقدمته الشعر؛الذي يحرر المحتوى الحقيقي للظواهر من المظهر الخالص، والخداع الخالص بهذا العالم الانتقائي، ويعطيه واقعا أسمى.فروح الإنسان لا تتولد إلا في الشعر ولا تسمو إلا به، فهو الذي يأخذه من نفسه، ويضع أمام نفسه ماهيته.

تأليه الأشياء:
تحويل للبشر إلى حشرات

بهذا يكون الشعر سائرا على صراط الجمال للوصول إلى الصورة الأسمى التي هي ينبوع الجمال،فكل ما ليس بصورة في رأي أفلوطين يكون قبيحا، والجمال ليس سوى إبرازٍ بالشعر لاغتراب الإنسان، وقهرٍ للعنصر المتشيئ فيه، إذ العلاقات بين الناس تتقطع وتتمزق، فيحول بعضهم البعض إلى أشياء، ويسلبونهم ذواتهم، ويفقدونهم أنفسهم، وأحيانا يضعون ذاتا أخرى تحل محل ذواتهم الأصلية، فيتشيأون، ومن ثمة تصبح الأشياء آلهتهم، ويتحولون هم إلى حشرات ،كما في قصة (التحول) لفرانز كافكا1883م ـ 1924م.
فتحرر الذات من التشيؤ هو القمين بتحقيق الاتصال لها بالوجود،وبخاصة في هذا العصر الذي صار فيه المرء يفقد وبقوة ذاته، فتتولد له ذات جديدة زائفة ،كما حدث ل(جوليا دكين) بطل رواية «المزدوج» لدوستويفسكي،حيث أن هذه الذات الجديدة هي التي تفكر بدلا من ذاته الأصلية، وتتكاثر وتتضاعف إلى حد أنه عندما يمشي تمشي وراءه بالعشرات، مما يجعل الذات الأصلية لديه تضيع وسط هذا القطيع الذي يمشي وراءه.ولا شك أن هذه الذات المتشيئة هي ذات غير متزنة، فهي غريبة عن أصلها، ومنفصلة عن مُكمِّلات وجودها، في وجهها تقف عقبات تمنعها من الاتصال بالأصل،وبما يكمل وجودها.ولا يساعدها على اجتيازهذه العقبات سوى الشعر ،بوصفه القوة المدركة لغليان الوجود،القادرة على تسكينه، ومحو هلاوس الذوات فيه، وتحريرها من شرنقة التشيؤ، وتوليد الاتزان فيها، وتحسيسها بجمال ما حولها.
يقول قيس بن ذريح:
وَإِنْ تَكُ لُبْنَى قَدْ أَتَى دُونَ قُرْبِهَا
حِــجَــابٌ مَنِيــعٌ مَــا إِلَيْــهِ سَبِيلُ
فَإِنَّ نَسِيــمَ الْجَــوِّ يَجْمَـــعُ بَيْنَنَـا
وَنُبْصِرُ قَرْنَ الشَّمْسِ حِينَ تَزُولُ
ولا شك أن حدوث الاتصال جارف للانفصال، مُلغٍ للمسافات بين الذات ومحلوماتها، يقول علي بن الجهم:
سَقَى لله لَيْلاً ضَمَّنَا بَعْدَ فُرْقَةٍ
وَأَدْنَــى فُؤَاداً مِنْ فُؤَادٍ مُعَذَّبِ
فَبِتْنَا جَمِيعاً لَوْ تُرَاقُ زُجَـاجَةٌ مِنَ الرَّاحِ فِيمَا بَيْنَنَا لَمْ تُسْرَبِ
والذي هو أصرح من كل توكيد معرفةُ كون الفنون، وخاصة الشعر والموسيقى، تساعد النفوس المنشرخة على إدراكٍ أفضل لنفسها، ولردود أفعالها، كما تساعدها أيضا على تحقيق مستوى من التكيف الأفضل لحياتها،فقد أثبتت الأبحاث الأكاديمية في الغرب فعالية العلاج بالشعر ونجاعته وجدواه، بحيث تبيَّن أنه ساهَم في تحقيق التوازن والتوافق والتكيف لكثير من الأشخاص المرضى، فكانت له اليد البيضاء في تحقيق الشفاء لهم.


الكاتب : أحمد بلحاج آية وارهام

  

بتاريخ : 27/05/2022