هل يتحرر «أسير البرتغاليين» بعد يومين ويفوز ببوكر 2022؟

 محسن الوكيلي لـ «الملحق الثقافي»:

أي تجربة سردية لا تتخذ المغامرة منهجا لها، لا تستطيع أن تقدم الشيء الكثير للأدب

الروائي، بقراءة مختلفة، يمكنه أن يسهم في إعادة تقييم أي حقبة، سلاحه الخطر والحاسم هو التخييل

 

يحتاج التاريخ للروائي ليحرره من وثوقيته ومن ثقله، فهو الوحيد القادر على تلغيم المنطق التاريخي بالخيال والتشكيك والدحض. فالتاريخ المكتوب من وجهة نظر أحادية يحتاج دائما للمراجعة وإعادة البناء، لأنه يغيّب صُنّاعَه الحقيقيين، حطب المعارك: المهمشون والضعفاء. لذا تبدو مهمة الروائي وهو يتكئ سرديا على المادة التاريخية، صعبة لأنها مرتبطة بمدى قدرته على النجاح في تحبيك التاريخ عبر تقديم توليفة سحرية تجمع التاريخي بالأدبي والواقعي بالتخييلى، وعلى نفخ الحياة في التفاصيل المهملة بالاشتغال على الظلال والمناطق التي لا يصلها أو يتحاشاها المؤرخ، دون أن يفرط في الشروط الجمالية للنص.
كثيرة هي الأعمال الروائية التي اشتغلت على التاريخ من زاوية نقده وتقديم قراءة جديدة له، منذ «وزير غرناطة» لعبد الهادي بوطالب، و»جارات أبي موسي» لأحمد التوفيق و»ثورة المريدين» لسعيد بنسعيد العلوي، وصولا إلى «مغاربة» عبد الكريم الجويطي، و»أسير البرتغاليين» لمحسن الوكيلي التي تنافس اليوم على جائزة الرواية العربية (البوكر 2022) والتي ستعلن نتائجها بعد يومين.
قبل روايته الاخيرة «أسير البرتغاليين» ، صدرت لمحسن الوكيلي مجموعة قصصية له «فجر الغضب» في 2009، ثم أول رواية «رياح آب» في عام 2013، وثلاث روايات هي:شظايا»، «رياح الشركي»، «في كراهية الحدود»، ومسرحية واحدة»حمالة أوجه»  .
نال الوكيلي جوائز عديدة منها جائزة الشارقة للإبداع العربي   عن روايته «رياح آب» في 2013، وجائزة ناجي النعمان للإبداع الأدبي عن مجموعته القصصية «حي العابرين» في 2011، وجائزة أحمد بوزفور للسرد القصصي على مستوى الوطن العربي عن قصته «موت من زوايا متعددة» سنة 2012 وجائزة الدورة الخامسة لجائزة غسان كنفاني للسرد سنة 2016.
في هذا الحوار، يتحدث محسن الوكيلي عن تماس التاريخ والرواية، وكيف يمكن للروائي أن يكون مصدرا غير تقليدي للتاريخ، وأن تكون كتابته كتابة موازية للتاريخ بالاشتغال على بياضاته ومناطق الظل فيه بعُدّة معرفية لا تعوزها روح المغامرة ، دون أن يطأ أراضي المؤرخ أو يسقط في شرك الأسطرة والتمجيد.

– أين يصنف الروائي محسن الوكيلي روايته «أسير البرتغاليين» ضمن أعماله السابقة. وهل يرتبط نضج عمل ما بوصوله إلى منصات الجوائز؟

– رواية «أسير البرتغاليين» هي آخر عمل أصدرته. إنها الرواية الخامسة، ما يعني بالنسبة لي أنها أفضل من الروايات التي سبقتها. هكذا أعمل، أحرص أبدا أن يكون كل عمل جديد أفضل من سابقه، هذا وحده ما يضمن تطورا إيجابيا وموصولا للكاتب، أما النضج فيتأتى بالتدريج، يتحقق عبر الكتابة المستمرة والتمرس والتراكم والاحتكاك بتجارب الآخرين. نعم، للجوائز دورها الكبير، وهي، بحسب تصنيفها ومكانتها في المشهد الأدبي، تعبّر عن مدى نضج الأعمال الأدبية، إنها معالم تؤكد للكاتب أنه يمضي في الطريق الصحيح، نحو مزيد من الإبداع الرصين والأكثر نضجا.

– ما الذي يمنحه التاريخ للرواية، وكيف تخدم الرواية التاريخ عبر التخييل دون أن تنتصر لوثوقيته؟

– أعتقد أن الرواية الجيدة تفرض نفسها، سواء كان موضوع اشتغالها التاريخ أو ما عداه. فقيمتها الجمالية والفنية أبقى. التاريخ كمكمّل، يستطيع أن يعطي قيمة مضافة للنصوص إذا ما أجاد الكاتب استثماره على الوجه الأكمل. نعم، يمكن للرواية أن تخدم التاريخ، ذلك أن التاريخ المكتوب من وجهة نظر أحادية يحتاج دائما للمراجعة والتمحيص. يَدين التاريخ في معظم ما سُطِّر للمنتصر. دور الروائي أن يعبر عن بقية الأصوات وعن حكايات المنهزمين. من هنا، في نظري تأتي أهمية الرواية، إذ تساهم في إعادة النظر في التصور النمطي للماضي والدفع نحو التفكير والتساؤل بعيدا عن اليقينية والوثوقية التي طالما كرست نظرة أحادية وناقصة.

– إعادة كتابة التاريخ أدبيا تسمح للروائي بملء ثقوب هذا التاريخ وبياضاته التي يقفز عليها المؤرخ. كيف يمكن للروائي أن ينجح في هذه المهمة دون أن يسقط قي مطب التأريخ ويتعامل مع التاريخ كأفق يروم تحريره من الأسطرة والتمجيد؟

– جدير بالذكر أن الروائي ليس مؤرخا ولا يشتغل على التاريخ بقدر اشتغاله على الرواية. فالرواية هي شغله الأول وهمّه الأعظم، لكنه بهذه التوليفة السحرية التي تجمع التاريخي بالأدبي والواقعي بالتخيلي، يستطيع أن يطلع بأدوار بالغة الأهمية.
نعم، من الملاحظ أن التاريخ في معظمه كان تاريخا للقادة والسادة والسلاطين والانتصارات والملاحم. تغيب سيرة الشعوب والبسطاء الذين لا نجد لهم ذكرا إلا في ما ندر وعلى الهوامش. دور الروائي أن يعيد الاعتبار من خلال هذه البياضات لمهمشي التاريخ دون أن يسقط حقيقة في «مطب» التأريخ، فالروائي مطالب بأداء مهات كثيرة، أن يصنع الجمال ويساهم في نشر الوعي وإعداد الإنسان المنفتح. الجانب المعرفي، سواء كان تاريخيا أو دونه، يبقى واحدا من بين مهمات أخرى لا يجب أن يغفلها الروائي في غمرة البحث والتقصي.

– ماهي الصعوبات التي تعترض الروائي حين الاشتغال على المادة التاريخية، خاصة حين يكتب عن تاريخ حقيقي بأبطال حقيقيين وأحداث حقيقية؟ ألا يحد هذا من حرية الكاتب ومن أفق التخييل؟

– أتفق معك. إن الروائي الذي يكتب للتاريخ بغية سرد سير غيرية وأحداث واقعية يكون قد حد بشكل كبير من أفق التخييل. إنه بذلك ملزمٌ علميا وأخلاقيا بالتقيد بما حدث فعلا كي لا يسيء لأشخاص محددين أو يزيف التاريخ. هذا لا ينفي وجود مجال للتخييل والإبداع والتحرك. هناك دائما حيز للإبداع. هذا الحيز يتسع بقدر قريحة المبدع وملكاته، غير أن التطرق لأحداث وإعادة مرحلة تاريخية والخوض في حيثيات شخصيات كانت موجودة بالفعل، يلزم المبدع كيف ما كانت قدراته بحدود معينة. شخصيا لا أرتاح لهذا النوع من الكتابات، أراها أقرب للوثيقة التاريخية، أقرب أيضا لدور المؤرخ والدارس الأكاديمي.

– ألا يطرح التعامل مع التاريخ كسند للإبداع الإلمام بجميع فروع المعرفة الانسانية للغوص في بواطن الشخصيات، وربط تفاعلاتها بالسياقات الاجتماعية والنفسية والسياسية التي تحركها؟

– إلى حد ما نعم. لا يمكن للروائي كيفما كانت سعته المعرفية وثقافته وتخصصه الأكاديمي أن يكون ملما تماما بالمعرفة الإنسانية، لكنه مطالب في الوقت نفسه ببذل مجهود كبير. مع الخوض في التاريخ واعتماده كدعامة من دعامات السرد، تكون المهمة أكبر على عدة مستويات لعل أبرزها تمكنه من مقاربة ذهنيات الحقبة التاريخية على نحو سليم، واستعمال لغة تنتمي إلى المرحلة نفسها.
لا يمكن للروائي أن يعالج حقبة تاريخية تعود للقرن 16 بذهنية القرن 21 أو استعمال لغة بمفردات حديثة. المهمة صعبة بلا شك، غير أن السرد يتخذ متعته وجماليته من المغامرة والإقدام. إن أي تجربة سردية، في نظري، لا تتخذ المغامرة منهجا لها، لا تستطيع أن تقدم الشيء الكثير للأدب سواء محليا أو عربيا أو دوليا.

– كيف يستحضر الروائي التاريخ المنسي، تاريخ المهمشين والمنهزمين إذا اعتبرنا أن التخييل الروائي عندما يتكئ على التاريخ هو كتابة موازية للتاريخ؟

– نعم، هو كذلك، كتابة موازية تنفض الغبار عن الماضي وفرصة لإعادة النظر في ما حدث ودفع للتساؤل وتحطيم للأسطرة واليقينيات. ليتأتى للروائي هذا، وجب عليه أن يتسلح بوعي تاريخي عميق ومعرفة كبيرة دون أن يسقط في مهب الشخصنة والقناعات الذاتية. الانحياز للمهمشين لا يعني تزييف الحقائق، بل مساهمة في رد الاعتبار والإنصاف، دون إهمال وظيفة المبدع الروائي في خلق الجمال والمتعة.

– في روايتك «أسير البرتغاليين» والتي ننتظر فوزها بعد يومين ببوكر 2022 ، تعود بالقارئ الى فترة حساسة من تاريخ المغرب: الصراع بين السعديين والمرينيين وبداية تفكك الدولة، الأطماع العثمانية، الاحتلال الإسباني والبرتغالي، المجاعة والطاعون. ألا ترى أن هذا الصراع لا يزال يخاض اليوم بأشكال أخرى خاصة بين فرنسا وإسبانيا اللتين لا تزالا تبحثان عن نفوذ أقوى داخل المغرب؟

ـ كان الوطاسيون الوجه الآخر لبني مرين الذين حملوا لواء الأسرة، وواجهوا ببسالة القوة الصاعدة للسعديين الذين أخذوا على عاتقهم إعادة هيبة المغرب ودفع الأطماع وخلق دولة قوية ذهب نفوذها بعيدا. التاريخ لا يتكرر مرتين، لكن منطق الأحداث وصراع النفوذ والمصالح يستمر. مغرب الأمس ليس هو مغرب اليوم، في المقابل منطق التدافع لكسب المصالح والامتيازات باق. دور الروائي أن يلفت الانتباه لما كان. التاريخ مشتل البشرية. المبدع ينبه ليجعل استثمارنا لماضينا أفضل. أعتقد أن القراءة السليمة للماضي تساهم إلى حد ما في صناعة المستقبل. نحن في حاجة لإعادة قراءة هذا الماضي لأنه أحد مداخل المستقبل.

– تحضر تيمة الموت في «أسير البرتغاليين» من بداية الرواية لتتبدى في أوجه متعددة وبأسباب عدة طيلة المسار السردي للرواية مع تبعاته النفسية على الشخصيات. كيف يقارب الروائي هذه التبعات دون أن يكون ملما بأدوات التحليل البسيكوسوسيولوجي ليمنح لشخصياته العمق والصدق؟

– الروائي مطالب بالبحث في الجوانب النفسية والاجتماعية للإنسان، ودراسة علم النفس بقدر ما يستطيع. دون هذا، قد يصعب عليه الذهاب بعيدا في مقاربة التداعيات التي تطال الشخصيات خاصة وهي تواجه اختبار الموت. الصدق شرط الكتابة. أي كتابة غير صادقة لن تلامس مشاعر المتلقي، لكنه غير كاف. المعرفة عامل ثان. الروائي وهو يختار مسار الشخصيات يجب عليه أن يواكبها. نحن في حاجة إلى روائي مبدع وخلاق وباحث في الوقت نفسه. الروائي المبدع والممسك بأدوات التحليل البسيكوسوسيولوجي أقرب لملامسة مبتغى القراء.

– العقلية الكولونيالية التي تحكمت في نظرة الغرب للشرق وللعالم الثالث بصفة عامة، تيمة اشتغلت عليها في عملك السابق «في كراهية الحدود». إلى أي حد تحضر هذه التيمة في «أسير البرتغاليين» بما يخدم الانتصار لإنسانية الانسان والتحرر من ثقل الإستوغرافيات التي روجت لها بعض الأدبيات الغربية؟

– ظل العالم لمدة طويلة أسير النظرة الكولونيالية التي تنظر لبقية العالم نظرة دونية. لقد كان الاستعمار واجبا حضاريا. هكذا روج له المستعمر، واعتبر كذلك أداة لنشر التمدن والتحضر والمدنية، في مقابل المخرب والمفسد الذي يدافع عن حدود أرضه ووطنه. «أسير البرتغاليين» في زاوية من الزوايا التي عالجت، تفتح قضية التدافع والرغبة في الهيمنة على مقدرات الشعوب، لكنها في الوقت نفسه تفتح نافذة نطل عبرها على ما كان من حب واستعداد للتكامل بين الشعوب. أعتقد أن إنسانية الإنسان ما ينبغي أن ينتصر. في انتصارها نجاح لجنس بني البشر في تحقيق عالم أرقى وأكثر تسامحا.

– يلجأ الروائي إلى تلغيم المنطق التاريخي بالخيال والتشكيك مقابل وثوقية التاريخ الرسمي . أين يقف الخيال في مواجهة الوثيقة الرسمية، وكيف يمكنه خلخلة اليقينيات التي تقدمها؟

– التاريخ الرسمي يعتمد على الوثيقة في سرده للأحداث. المشكل ليس في الوثيقة نفسها، بل في زاوية النظر إليها وكيفية قراءتها ومعالجتها. الوثيقة كأي نص، تحتمل قراءات متعددة. الروائي بقراءة مختلفة واعتماد وثائق أخرى يمكنه أن يسهم في إعادة تقييم أي حقبة، سلاحه الخطر والحاسم هو التخييل. الروائي الذكي يجعل من السرد لعبة محفوفة بالتساؤلات. كل تساؤل يحيل على نافذة تفتح على قراءة مختلفة لما كان.


الكاتب : حاورته: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 20/05/2022