حذف دعم الدقيق يمهد لانقراض خبزة 1.20 درهما القوت اليومي للفقراء
كشف تقرير حديث لمجلس المنافسة عن اختلالات كبرى تضرب عمق قطاع الدقيق المدعم في المغرب، موضحاً أن الدعم الذي يفترض أن يضمن الأمن الغذائي للفئات الهشة تحول إلى ريع اقتصادي يعيق المنافسة ويغذي مصالح ضيقة. وأوضح التقرير أن حجم الدعم الموجه لهذا القطاع يصل إلى حوالي 10 ملايير درهم سنويا، وهو مبلغ ضخم يعكس حجم الموارد العمومية التي تضخ في منظومة كان يفترض أن تضمن وصول الدقيق إلى المستفيدين الحقيقيين، غير أن جزءا كبيرا منه يهدر في قنوات غير شفافة. واعتبر التقرير أن استمرار هذه الوضعية يكرس اقتصاد الريع ويحول دون تطوير القطاع على أسس سليمة، داعياً إلى إعادة هيكلة شاملة للمنظومة.
المفارقة التي أبرزها التقرير تكمن في أن الدعم الذي يفترض أن يساهم في استقرار الأسعار وضمان حصول الأسر الفقيرة على خبز يومي بأسعار معقولة، تحول إلى آلية تحرف مؤشرات السوق وتخلق منافسة غير متكافئة بين المطاحن. إذ أن بعض الشركات تستفيد من خفض التكاليف بشكل مصطنع، ما يعيق الاستثمار في تحسين الإنتاجية ويجعل السوق رهينة دينامية مشوهة. هذا الوضع أدى إلى غياب الشفافية في توزيع الموارد، حيث لا توجد معايير دقيقة تربط بين الأداء والإنتاجية وبين حجم الدعم الممنوح، وهو ما يفتح الباب أمام الريع والزبونية.
الأرقام الواردة في التقرير تكشف حجم المفارقة حيث انه بالرغم من كون 10 ملايير درهم تصرف سنويا في دعم الدقيق، فإن المخابز والفيدراليات المهنية تشتكي من استمرار اختلالات مزمنة في منظومة التوزيع، حيث لا يصل الدقيق المدعم في كثير من الأحيان إلى المستفيدين الحقيقيين. بل إن جزءاً كبيراً منه يُعاد بيعه في السوق السوداء أو يُوجه إلى استعمالات غير تلك التي حددتها الدولة. هذا يعني أن المال العام يُهدر في قنوات لا تحقق العدالة الاجتماعية ولا تضمن الأمن الغذائي، بل تُغذي مصالح ضيقة لبعض اللوبيات المتحكمة في القطاع.
التقرير لم يتردد في فضح هذه الاختلالات، مؤكدا أن الدعم تحول إلى ريع اقتصادي يعيق تطور القطاع ويمنع الابتكار. وأشار إلى أن السوق المثالي يجب أن يعتمد على أسعار تعكس التكاليف الحقيقية للإنتاج، لكن الدعم الحالي يحرف هذه المؤشرات ويخلق فجوة بين الواقع الاقتصادي والآليات المفترض أن تضبطه. كما شدد على ضرورة فرض رقابة صارمة على مسارات توزيع الدقيق المدعم، لضمان وصوله فعلاً إلى الفئات المستهدفة بدل أن يبقى رهينة شبكات الوساطة والاحتكار.
من جهة أخرى، يطرح هذا الوضع إشكالية الحكامة في تدبير المال العام. فحين تخصص الدولة مليارات الدراهم سنويا لدعم مادة أساسية مثل الدقيق، فإنها تفترض أن هذه الأموال ستترجم إلى حماية اجتماعية ملموسة. لكن الواقع يكشف أن غياب آليات المراقبة الدقيقة والشفافية في التوزيع يجعل هذه الموارد تتحول إلى عبء على المالية العمومية دون أن تحقق أهدافها. وهذا ما دفع العديد من الأصوات إلى المطالبة بإعادة هيكلة شاملة للمنظومة، عبر ربط الدعم مباشرة بالمستفيدين الحقيقيين بدل تمريره عبر قنوات إنتاج وتوزيع غير مضبوطة.
الاختلالات لا تقف عند حدود الدعم المالي فقط، بل تمتد إلى جودة الدقيق المدعم نفسه، حيث تثار تساؤلات حول مدى احترامه لمعايير السلامة والجودة. فغياب الرقابة الصارمة يفتح المجال أمام بعض المطاحن لتقديم منتجات لا ترقى إلى المستوى المطلوب، ما يضر بصحة المستهلكين ويزيد من فقدان الثقة في المنظومة برمتها. هذا الوضع يعكس خللاً مزدوجاً: هدر المال العام من جهة، وتقديم منتوج غير ذي جودة من جهة أخرى.
ويطرح استمرار هذه الاختلالات سؤالا جوهريا حول جدوى الإبقاء على منظومة الدعم بصيغتها الحالية. فالدولة تنفق مليارات الدراهم سنويا، لكن النتائج على الأرض لا تعكس حجم هذه الاستثمارات. بل إن الدعم أصبح أداة لتغذية اقتصاد الريع، حيث تستفيد فئة محدودة من الفاعلين على حساب المصلحة العامة. وهذا ما يجعل إعادة النظر في آليات الدعم أمرا ملحا، سواء عبر تحويله مباشرة إلى الأسر المستهدفة أو عبر وضع نظام رقابة صارم يضمن الشفافية والنجاعة.
وفي سياق متصل، اتصلنا بالحسين اليماني، الكاتب العام للنقابة الوطنية للبترول والغاز، الذي نبه إلى ضرورة التعامل مع تقرير مجلس المنافسة بكثير من الحذر، بعدما تبين أن هذا النوع من التقارير وإن كان يعري واقع تفشي الريع في قطاع المطاحن والدقيق المدعم، فإنه من جهة أخرى يشرعن للحكومة خططا مستقبلية للإجهاز على ما تبقى من صندوق المقاصة وتعبيد الطريق أمامها لتقزيم مخصصاته أو حذفه كليا تحت ذريعة محاربة الريع والاستهداف المباشر. وأوضح اليماني أن هناك لوبيات مصالحية لا أو لم تعد تستفيد بما يكفي من هذه التوليفة الريعية، وترى في تحرير استيراد الدقيق كعكة مربحة تسيل اللعاب للتحكم في مسارات الاستيراد والتخزين والأسعار. كما نبه إلى خطورة التلاعب بآخر قلاع تحصين القدرة الشرائية، وأهمها بالنسبة للطبقات المسحوقة التي تشكل خبزة 1.20 درهم قوتها اليومي الأساسي بعد ارتفاع جميع أسعار الغذاء في البلاد، وهو ما حرم موائد الفقراء من مواد كانت إلى الأمس القريب في متناول الجميع مثل اللحوم الحمراء والسمك واللحوم البيضاء…

