همسات استشرافية لماض قديم بعيون حداثية في أعمال شمس الضحى أطاع الله

 

 

أن تعيد صياغة الماضي بصريا، معناه أن تكون شاهدا على فترات بقيت بعد الشظايا راسخة في ذهنك، وهذا ما حصل مع هذا العمل الأخير للفنانة التشكيلية شمس الضحى أطاع الله.
إنه الحدس الإبداعي اللامتناهي الذي يدفع المبدع للبحث عن عمق هذه الرؤيا التي تحولت من ذاكرة لواقع حقيقي لفعل يفرض ذاته، انطلاقا من تراكمات مرئية انفجرت في ذهن المبدع وأرادت أن تفصح عن ذاتها الدفينة، وهذا ما حصل في هذه التجربة الأخيرة للفنانة شمس الضحى أطاع الله، حيث أنها جعلت من حدسها ميزانا لعينها لتبث مشاهد من القرن الماضي بشغف المتمحص في خبايا ما هو حديث، لذلك التجأت لإعادة صياغة هذا الموروث الثقافي الغني بطريقة أرادت أن تحيي بها شغف هذا الاهتمام مع مواصفات تشكيلية احترمت فيها عددا من المكونات المرئية الأكاديمية من زوايا متعددة، من بينها المنظور la perspective أو ما يسمى بنقطة التلاشي، مما يدل على علمها ودراستها لمعالم التشكيل وتمفصلاته.
إن التراتبية المرئية وتصفيف الأجساد والنظرة الربانية الأفقية، جعلت من التكوين الإجمالي لعملها محط اهتمام كبير لكل من يريد إعادة النظر في ما يسمى بعمق العمل la profondeur حتى يتسنى للمتلقي الإحاطة بحيثياته شكلا ومضمونا.
اتخذت الفنانة شمس الضحى من موقع العروسة أو المحتفى بها، محورا أساسيا لخلق توازنات مشهدية بين الضفاف الأربع (اليمين اليسار الأمام والخلف)، هذا الذي تكرر في الصالة الخلفية بحضور المدعوات من الحاضرات متكئات على الحائط الذي يكسوه ما يسمى ب (الحايطي) المزخرف، ذلك السند الذي اندثر في الثقافة المغربية الأصيلة المرتبطة بالتقاليد الأندلسية الوافدة من شبه الجزيرة الإيبيرية، والتي توفرت في مدينة تقليدية كمدينة القصر الكبير مسقط رأس الفنانة شمس الضحى، حيث غنى التفاعل بين الثقافات الأصيلة والوافدة.
كانت ولاتزال هذه الفنانة مؤرخة مرئية لجل التقاليد التي كانت موجودة في هذا الجزء من شمال المغرب، لكن بشكل تقريري يجتمع فيه الواقع بالإبداع، بمعنى آخر أنها اعتمدت عنصرا ذاتيا يكمن في طريقة صياغة الشخوص في علاقتها بالهندسة المعمارية الموريسكية التي تحتوي على جل الزخارف المرتبطة بالصنائع التقليدية كالزخرفة وتمشيق الخشب بأنواعه والرخام والجبص ونوعية الزليج وغيرها.
تكمن أهمية هذه التحفة في نوعية امتداداتها الأيقونية، لأن تقنياتها وطريقة معالجتها احتفظت بأصالتها، لذلك اتجه اهتمامنا بهذه الأيقونة على الخصوص لأنها جامعة وشاملة لما حاولت الفنانة شمس الضحى الإدلاء به مرئيا بعيدا عن ما هو شفوي أو كتابي، كمسائلة لحيثيات عمق الهوية المغربية التي شغلت جل الفنانين والفنانات التشكيليين والتشكيليات المغاربة كما حدث مع مريم أمزيان والجيلالي الغرباوي ومحمد الشرقاوي.
قال الفيلسوف هايدغر «اللغة مسكن الوجود» وأنا أقول اقتداء بهذه القولة أن «الذاكرة مسكن الحكي» في أعمال الفنانة شمس الضحى، لأنها تحكي باللون والشكل ما قد تفتق عن ذاكرتها من صور ومشاهد من مسيرتها الإبداعية، فكونت جل هذه المشاهد جزءا من تاريخها ومن حياتها المعاشة.
إن المشهد الإجمالي للوحة الأخيرة لشمس الضحى، هو عبارة عن جلسة جماعية لنساء أثناء حفل الزفاف، بطقوسه وتقاليده تعبيرا عن مدى انغماس الفنانة وارتباطها بأصالتها، كعربون على مدى أهمية الحفاظ بصريا على الموروث الثقافي القصراوي خصوصا والمغربي عموما.
فالمذهل في هذا العمل، هي تلك التفاصيل المرئية للعيان واللامرئية للخواص، منها ذلك التجانس وتلك التداخلات والتفاعلات اللونية المنبثقة عن الزخرفة وعن محيط فضاء الحفل الذي يحيلنا على نوعية المساحات المفتوحة أو ما يسمى ب(الرياضات) بالمفهوم التقليدي الموجود بالمدن الإمبراطوريةles villes impériales.
فكل ترنيمة جمالية تجود بها هذه اللوحة، وإلا نجد مصدرا لها في الموروث الجمالي الأندلسي القديم، انطلاقا من العادات والتقاليد كما سلفنا ذكرها وانعكاسها على الحياة اليومية التي ساهمت في إيجاد وحضور كل التفاصيل المؤثثة في فضاءات هذا الزفاف.
وأخيرا وحتى نحيط بمجمل حيثيات هذا العمل، لا بد وأن نشير إلى ضرورة اعتناق هذا الأسلوب في تجربة الفنانة شمس الضحى، التي حاولت رغم طول مدة بحثها بأن تبقى وفية بمبدئها الفني واحترام مسارها البحثي، تأكيدا على أهمية امتداداتها المغامراتية، لتجعل من أسلوبها التشخيصي عنوانا لفكرة تأريخ معايشتها الشخصية لكل ما جرى، مع احترام المقاييس الفنية التي تدعو لطرح أسئلة متعددة من خلال تجربتها التي لخصتها في هذه اللوحة.


الكاتب : شفيق الزكاري

  

بتاريخ : 23/08/2025