هنا… الفقيه بن صالح : طفو فوق سيرة « العبور» : للشاعر محمد بوجبيري

نظم الاتحاد المغربي للثقافات المحلية، بفضاء نادي التعليم بمدينة المحمدية يوم السبت 16 أكتوبر الجاري، لقاء احتفائيا بأحد فرسان القصيدة الحديثة، ومن أجمل أصواتها اللافتة بالمغرب.. الشاعر محمد بوجبيري..
اللقاء كان مناسبة للإنصات لنبضه الشعري، ومساءلة تجربته الإبداعية والحياتية كما تمثلها في قصائده وسروده الذاتية التي نحتها بروية متبصرة هادئة، ورؤية جمالية خالصة على مدى أربعة عقود متواصلة.
في حديثه عن الشاعر محمد بوجبيري، أكد مسير اللقاء الشاعر نور الدين ضِرَار على تفرد تجربته بالارتكاز على مجموعة من المعطيات، أبرزها تحديدا أن محمد بوجبيري الذي بدأ تجربة النشر أواسط السبعينات، يمثل أحد أقوى الأصوات الشعرية في المغرب رغم كونه مقلا بحكم عدد إصداراته، لكن بصبيب إبداعي قوي ومنجز راجح في مدونة القصيدة الحديثة.. هو الذي لم ينزل أرض الشعر تحت أية يافطة سياسية أو مظلة حزبية، وبذلك أفلت ضمن جيل سنوات الجمر والرصاص من الوقوع في فخ الإيديولوجيا أو المنبرية الخطابية وقصيدة البلاغات السياسية، بحيث ظل منتميا طول مساره الإبداعي للشعر ولا شيء غير الشعر، منتصرا للجمالية القائمة على التميز الفني والصدق الإنساني كما يليق بشاعر حقيقي أصيل.
وفي كلمة ممهورة بشاعرية مرهفة امتزج فيها الإنساني بالإبداعي، اعتبر الشاعر والإعلامي عبد الحميد جماهري أن محمد بوجبيري «لا يكتب نصا يتناسل من نص آخر، تجد البوجبيري بأناه العليا، تجده حلوا، تجد طراوة المياه طراوة الجبل، تجد شظف البدايات، أيضا تجد كل النبْتات وهي في طراوتها وهي في الظل، وأنا أعتبر من تجربته الشعرية، أن نصوصه ذاكرة لنصوص أخرى…»( سنعود للمداخلة بتفصيل في ورقة لاحقة) .
هذه الذاكرة التي استلهم منها تشكيليون مغاربة بعض أعمالهم في إطار تلاقح تجارب التشكيل والشعر، وهو ما ذهب إليه التشكيلي والناقد الجمالي شفيق الزكاري الذي عاد في ورقته حول الشاعر الى علاقتهما التي ارتبطت في وجدانه بلحظة إبداعية محددة سنة 1988 جمعتهما خلال ملتقى الشعر الذي كان ينظمه فرع جمعية الشعلة بسلا، كما كانت فرصة للانفتاح على الأصوات الشعرية الجديدة التي جمعت عددا من الأسماء الشابة آنذاك في إطار التواصل والحوار والجوار.
وأضاف الزكاري أن ما جمعه بهذا الشاعر المتميز «هو مشروع مشترك اشتغلنا عليه مباشرة بعد عودتنا من الملتقى الشعري بسلا، تحت عنوان «وادي المخازن» أنجزناه فنيا صحبة الفنان فاتحي ليتوج بمعرض مشترك سنة 1992 دشنا به فضاء دار الثقافة محمد بالعربي العلوي بالمحمدية، حيث اتصلنا بجل الفعاليات الشعرية التي شاركت بملتقى سلا، فكانت بداية التفكير في هذا العمل المشترك الذي جمع عددا كبيرا ومتنوعا من الأسماء الواعدة آنذاك من بينهم أحمد بركات، الزهرة المنصوري، جلال الحكماوي، رشيد الفؤادي، محمد الصالحي، واكريم بلقاسم… وكذا محمد بوجبيري، المعروف بنصوصه العميقة التي استلهمنا منها شذرات وصورا شعرية تصب في مجال اهتمامنا كمنشغلين بتجانس هذين الجنسين وارتباطهما رغم الاختلاف بينهما على مستوى تقنية الإنجاز والتعبير أي «الشعر والتشكيل»، مما جعل هذه التظاهرة من بين المحاولات الأولى في هذا المجال، فتوطدت علاقتي بالشاعر محمد بوجبيري فكانت بداية لصداقة ستدوم إلى حد الآن».

 

… أن تصير شاعرا ثم تكتب سيرتك الذاتية هو بمعنى من المعاني كشف لما أصررت على إخفائه، على دسّه في ثنايا القصيد على امتداد عمر بكامله، على اعتبار أن ما يخفيه الشعر يصرّح به النثر٬ وعلى اعتبار أيضا٬ وفق القاعدة الباختينية ( نسبة الى ميخائيل باختين)٬ يكون الشعر كليا٬ والنثر جزئيا « بين شعر القلب وبين نثر العلائق الاجتماعية ومصادفة الظروف التاريخية « بتعبير آخر تصريح بما كانه الطفل المراهق « محمد بوجبيري» قبل أن يكون اليافع الناضج توليف حواسّي قبل أن تغزوه المفاهيم يكون فيها الشاعر يترجم أوشام الذاكرة انزياحا بلاغيا في سطور شعرية متقشّفة لما كان عليه كرم سيرة الأهل الطيبين وكأني بالشاعر محمد بوجبيري ضاق ذرعا بتجريدية الشعر وحنّ الى التفاصيل حيث يسكن الشيطان.
إنه بتعبير الدكتور محمد العمري ٬ صاحب تقديم « العبور «، « اختلاط الواقعي بالأسطوري « في معادلة تأرجح الكاتب بين سماء الشعر وأرض النثر وبينهما النزول من « المدشر» الى النظام السلطوي الصارم: عودة الكتابة من المجاز الى «الحقيقة»٬ عودة من الاستعارات التي نحلم بها الى «الاستعارات التي نحيا بها» : نزول من « حلوان « إلى « الفقيه بن صالح « ثم إلى الرباط (في عبور آخر٬ وكأني بالشاعر بوجبيري يردّد ٬ مع طرفة بن العبد :
فإن كنت لا تستطيع [شعرا] دفع منيتي
فدعني أبادرها [نثرا] بما ملكت يدي

أو العبور الى كتابة « السيرة « عبورا ـ عودة الى الصور الخالصة ٬ العفوية ٬ التلقائية ٬ غير الملوثة بالمفهوم (le concept) ٬ عودة الى المادة الأولى للتخييل الخلّاق ( L’imaginal) قبل أن تنتقل الى التمثيل (la représentation ) بكل ما يمليه أهل الصنعة٬ عبور نحو مصادر انبثاق الصور الشعرية القادمة في الابداع الشعري لصاحب « العبور» نحو الرسوم الأولى ( Les esquisses ) لبداية تشكّل التمثلات ( Les schèmes ) .
الكتابة النثرية في سيرة « العبور « بما هي نثرية العالم إنما هي كتابة بتعبير د. محمد العمري ٬ صاحب التقديم٬ « ممتعة القراءة بالعين والخيال والمعايشة «. هي عودة من الأفق الشعري الى بسط الواقعي ٬ نوع من التطهير بكل الحنين إلى الينابيع الأولى ٬ إلا أنها نوع من العودة بوعي شعري يستنطق الزمان والمكان وما يقطنهما من المنسي والمسكوت عنه ٬ والذي بكل تأكيد ظل يشتغل لاوعيا للنص الشعري.
في « الفقيه بن صالح « والربوة المطلة عليه٬ حيث يصعب الصعود٬ كان يسكن هذا اللاوعي ملتبسا بسكنى الجدّة بكل حمولتها الثقافية ٬ يقول السارد في البدء: « مدينة الفقيه بن صالح البطل الرئيس في هذا الكتاب « (ص15) ٬ هو الداخل الذي قطن « داخلية الكندي ٬ العقل الباطن٬ بتعبير صاحب السيرة٬ والذي تجلى بالتقسيط في أعمدة أسبوعية بجريدة الاتحاد الاشتراكي قبل أن ينهمر فيضا في كتاب « العبور «.
في « الفقيه بن صالح « يحصل النزول نحو خطين متوازيين تماسّا لحصول العبور: خط المعرفة وخط الحياة٬ ومجال تفاعلهما المركز الفلاحي كعالم مصغّر لعالم أكبر: الخط الأول بث الوعي والخط الثاني اختبار هذا الوعي ٬ ومن خلال التفاعل بينهما عبورا ينطلق تشكّل المخزون كبذور منذورة للإيناع الشعري تماما كشجيرات الزيتون في مشاتل الضواحي. هو نفسه عبور من الخارج النثري الجماعي الى الداخل الشعري الفردي.
لا نحتفظ في هذا العبور الأول إلا بصورة أمّ تبكي في محطّة الحافلات تودّع ابنها البكر، ورقة مشروعية انتمائها للعشيرة٬ نحو عالم قاس بقدر ما يروج به خطاب القيم داخل الحجرة الدراسية بقدر ما يعبّر عن اختلال القيم خارجها ٬ وبينهما ٬ كما هو الحال في كل عبور ٬ غضب الداخلية وانتفاضة الطلبة.
أو ليس العبور نحو الشعر هو بشكل من الأشكال عودة نحو عالم الأم، عالم الثدي الأول٬ غير أنه ليس عودة بالمفهوم الأوديبي ٬ تلك التي يعيش عبرها الكائن أنانية حب الآخر اللامحدودة٬ بل عودة أورفية تتيح فرصة الطفولة الأبدية الفاتحة دوما مستقبلا لامتناهيا لأحلام يقظتنا الخصبة. فالأولى فرار والثانية ترويض ٬ لذا ضرب صاحب السيرة صفحا عما قبل مدينة الفقيه بن صالح ٬ وهو ما أشار اليه أيضا د. محمد العمري في هامش1 من الصفحة 8 كتنوير ٬ لذا قال صاحب « العبور» : « صدمنا في البداية ونحن نستمع لتلك العلاقة الآثمة بين الطفل وثدي الأم «(ص 100) .
ان كتابة السيرة ٬ بالنسبة لكاتب (على عكس رجل السياسة مثلا والتي هي سيرة حياة محضة) ٬ هي نفسها سيرة كتابة ٬ تأريخ لمشروع حياته ككاتب. من هنا فنص « العبور « نص مرجعي للمنجز الشعري للشاعر محمد بوجبيري ٬ كشف لخلفية معرفية فلسفية ٬ ألم يقل أوكستان (Augustin) صاحب « الاعتراف»:» إن الصوت السيري إنما يحدثنا عن الكتابة ٬ عمّن يكونه هذا الكاتب حين تحريره لسيرته. ألم يردد صاحب السيرة٬ على طول سيرته٬ تعبير» إنما هو توشيح البياض»٬ أليست السيرة عموما تعبيرا ٬ والتعبير نفسه مشتقا من العبور ( هذه الكلمة السحرية التي تردّدت أكثر من 40 مرّة في النص ) كما هي مشتقة منه كلمة « العبرة « الملازمة دوما للغاية من الكتابة أصلا ٬ والعبرة نفسها إنما هي عبور من المعنى المجازي الذي يحتفي به العالم الشعري الى المعنى « الحقيقي « الذي غالبا ما يلازم العالم السردي ٬ وما ختم نص « العبور « برسائل من والى شاعرنا الكبير عبد الله راجع إلا تعبير عن هذا التفاعل ٬ وصل ضمني بين الشاعر والسارد ليتوحّدا في فعل الكتابة عند محمد بوجبيري .
وعليه٬ يكون نص» كما لو أن الحياة كانت تصفق « بالنسبة لنص « العبور» هو «الخرير الذي يناغي أمّه الساقية» ٬ وهو عنوان قصيدة بوجبيرية.

 


الكاتب : عبدالإلاه رابحي

  

بتاريخ : 22/10/2021