هوامش حول «جزيرة العالم السفلي» «قصة قصيرة لأنيس الرافعي»

 

منذ سنوات والسارد – الشامان بامتياز أنيس الرافعي طاعن في فصول التقمصات والتحولات، في تفاصيل الوجود، هوامشه، مخلفاته، أشيائه الصغيرة المنفية مما يسمى الحياة المألوفة والخاضعة لتوافقات الدوكسا. شيد أنيس الرافعي، ضمن كوسموغونية خاصة به كونا وحده يرتاده ويعرف تضاريسه، قبائله، أعراضه وتواريخه السرية، كون مأهول بالدمى، والأقنعة، والاختفاءات، ومراسيم الدفن، والبيوت الخاضعة لهندسات سحرية، حد ابتكار حيوانات متوهمة ضمن صنافة للحيوان مبتكرة وغير مسبوقة. أقرأ ما يكتبه وأفكر فيه منذ سنوات، وفي كل مرة تنبجس في الذهن صرخة فيلسوفين استثنائيين مسكونين بألق الصيرورات الحيوانية، الصيرورات اللامدركة حين صرخا معا في أحد أهم وأخطر فصول كتابهما الشاماني التمائمي [النجود الألف]، صرخا معا: (نحن السحرة).
شكلت في فترة ما وضمن سياقات دلائلية مغايرة سرديات محمد شكري إنجازات نصية مسائلة لنا، الشيء نفسه يمكن قوله عن روايات ونصوص إدمون عمران المالح، لكن انبجاس الاشتغال السردي لأنيس الرافعي تجاوز دائرة المحلي لينفتح على دوائر الكوني، على النص أو السرد المتعدد الهوية والمشارب، السرد المرتحل خلل مسارات وطرق، كالطريق التي تحدث عنها النفري في (المواقف) حين قال: (طريقك بيتك، طريق كقبرك). سرد التقمصات والتحولات والعتبات ليس بالأمر الهين، إذ يفترض الاندغام في هندسة معرفية ثقافية هائلة، هكذا تصير فاعلية القراءة بالنسبة لأنيس الرافعي سندا لهندسة الكتابة، وكما ديريدا اشتغل فلسفيا وتفكيكيا على الملحقات، الهوامش، التوقيعات، الأطياف، العميان، إلخ، فقد دأب أنيس الرافعي على الاشتغال على الهوامش والملحقات على النصوص – السند les textes- appuis، بطريقة إبداعية خلاقة. موضوع هذه الهوامش التأملية هو قصته القصيرة بعنوان «جزيرة العالم السفلي»، ككل ما يكتبه الرافعي. فالنص ذو طابع جذموري Rhizomatique يمكن رسم خطاطة له كجذور هوائية مثل العشب، أو اللبلاب، تلك الجذور التي لا تندغم ولا تغوص في التربة بل تبقى ظاهرة على السطح، وذلك عكس النص التشجيري le texte arborescent الذي وفقه تنكتب العديد من السرديات في الأدب المغربي الحديث، كقصص قصيرة أو روايات تروم التجذر في تربة معينة والانتماء لها. يحلو للكاتب الحديث عن الكتابة السردية باعتبارها: (ضريب البرشمان)، بكل الحرفية والثقافة التي يفترضها، وهو ما ينطبق عليه بكل دقة، هناك ثلاثة جذامير: جذمور الاستهلال l’exergue – جذمور النص القصصي وهو ما يشكل الجسد النصي الرئيس – جذمور الإحالات، تتواشج الجذامير وتتقاطع هوائيا، تتصادى ضمنيا، من [هناك لحظة حين أموت] في بداية الاستهلال، إلى [بعد أن علمت أنه لم يتبق أمامي سوى بضعة شهور]، إلى [يستند هذا التخيل إلى أساطير الموت والدورة المتكررة للحياة] في الإحالة الأولى. تتواصل هذه الجذامير أو الجذور الهوائية في ما بينها لتفضي بنا إلى تصور للموت يندغم ضمن منظور حيوي vitaliste، ينزع عنها، أي عن الموت، كل تأويل متعالٍ ميتافيزيقي. اللافت للنظر هو أن النص، كما نصوص أخرى لأنيس الرافعي، ينعلن كما لو أنه وثيقة موجهة على شكل وصية مصاغة وفق مجموعة من الاعتبارات و الطلبات المعبر عنها من طرف ضمير الأنا المتكلم في النص، أي الشخص المقبل على الموت، الجملة الافتتاحية في النص، تشير إلى ذلك بلغة متقشفة، مباشرة وتلقائية: (توصلت بوثائق الشركة، بعد أن علمت أنه لم يتبق أمامي سوى بضعة أشهر قبل الرحيل الختامي، على الأرجح جراء سكتة دماغية لا مهرب منها]، هكذا بلغة محايدة توثيقية، مستعارة من لغة التقارير، أو ما يسمى بالفرنسية autofiction أي التخيل الذاتي، تبدأ حكاية الإعداد لموت لا مرد لها. يدفعنا ذلك أيضا لاستحضار الجملة الافتتاحية في (اعترافات) جان جاك روسو، وتلك اللغة التوثيقية العارية التي كتب بها نيتشه كتابه (Ecce Homo)، (هذا هو الإنسان)، وأيضا الجملة الصادمة التي افتتح بها ألتوسير أتوبيوغرافيته: [ المستقبل يدوم طويلا]، هكذا بلا مقدمات، نلج [جزيرة العالم السفلي]، القصة القصيرة من جهة كنص سردي والتجربة الجنائزية من جهة أخرى، لأن ما يطرحه النص القصصي هو الإعداد لطقوس جنائزية rites funéraires، وإمعانا في إضفاء نوع من الغرابة المقلقة عليها، فقد اختارت الذات المتكلمة المقبلة على موتها طريقة دفنها الاختلافية: [لذلك اخترت تحديدا، طريقة التسميد البشري، تلك التي عمادها الأساس الاختزال العضوي الطبيعي]، وهي طريقة في تلك التحولات والتقمصات الشامانية تلك التي تقود الإنسان إلى أن يصير طائرا محلقا في الأجواء العليا، نسرا أو عقابا، أو ثعبانا زاحفا على الأرض، أو سمكة سابحة في المحيطات، لكن التحول/ التقمص الذي يرغب فيه الشخص المقبل على الموت هو أن يصير سمادا واهبا للحياة، أي أن يصير ترابا واهبا للخصب، أن يصير بكلمة واحدة: (الحياة). هكذا تفقد الموت فجائعتيها ومأساويتها، تندلق في مجموعة من الاشتراطات والإجراءات العملية، تصير غيابا متحكما فيه ومرتبا. شاع هذا الأمر في العقود الأخيرة، الإعداد للطقوس الجنائزية بدقة، هل هي نوع من الحماقة التي تقدم عليها الذات المقبلة على الموت، وفق الاستهلال الذي يتصدر النص، [هناك لحظة حيث لا أموت ولا أنتحر وهي حينها أكون أمام حماقة]. نيتشه يقول بأن الموت مجرد حل ساخر، النص القصصي جعلني أيضا أستحضر موت أمي، إذ قامت بإعداد كل شيء بدقة قبل وفاتها، وجهزت حتى القدر المالي الذي تستلزمه طقوس الدفن والعشاء الجنائزي. وضعت الذات المتكلمة أجندة دقيقة لموتها وذلك بحس تدبيري واضح وصارم، حتى الموسيقى التي ينبغي أن تخفر سباتها في سماد الأبدية حددتها، أي موسيقى غوستاف مالر التي لطالما عشقها وذكرها في قصصه ورواياته كاتب لوس أنجليس العظيم بوكوفسكي، لزوم التخمر بهدوء وسكينة، وفق إستطيقا شيزوفرينية للموت تقوم بنوع من القطيعة مع الإستطيقا البارانوية العصابية التي تغرق فيها جثث الموتى، تحت إسمنت الخطابات والعادات والمواضعات والتأويلات، الناس عموما لا يملكون إمكانية التحكم في الطقوس الجنائزية وفي اشتغال الحداد التي تطال ميتاتهم. تنهض علاقة الموتى مع ميتاتهم في المجتمعات البارانوية العصابية على الاستيلاب والاغتراب، لا أحد يختار طقوس موته، لهذا السبب تنطرح قصة [جزيرة العالم السفلي]، كبرنامج شيزوفريني مضاد، يقوم بتذرير الموت، بتفكيكها، لتصير موتا نثرية تكتب سلفا قبل أن تعاش. تقول الذات المالكة لسلطة كلامها: [نصصت في جميع أوراق الشركة وسنداتها الملحقة في جميع الأوراق بدون استثناء حتى أصدقكم القول…]، الموت كما تكشفها هذه السردية تصير مسألة أوراق، نصوص سندات واشتراطات مسبقة، تنتقل من مسألة كونها إرث متوارث، طقوس وعادات متكررة وتأويلات ميتافيزيقية إلى مسألة عقد contrat، والعقد كما هو معلوم شريعة المتعاقدين. يتحالف الميت مع موته القادمة ولا يغترب عنها، يتقمصها بطريقة شامانية سلفا، يصيرها، يعقد حلفا معها، عقد يلزم المرأة المعشوقة بالاضطلاع بسماد المعشوق المقبل على الموت لتدفع برويطة السماد للحديقة الخلفية في منزلها في ضواحي شاطئ «مانيسمان»، لتنثره وتسقيه بماء الورد وتمنع كلبها من التبول عليه. كل هذا ينعلن بأسلوب، وبمكر سردي طاعن في ساركازميته أي سخريته، وهي سخرية قد يعتبرها البعض سوداء، ولكنها مسكونة بالفرح الوجودي للتحولات والصيرورات لأن الصيرورة – شيئا – آخر تربط دائما بالفرح الوجودي، هكذا تصير الموت اشتغالا ملزما post-mortem للآخرين الأم، الأب، الأصحاب الخلص… إلخ، لقد قلت آنفا بأنها أجندة ملزمة لاشتغال ما بعد الوفاة، تماما كما أعلن نيتشه في Ecce Homo: بأنه سيولد بعد الوفاة … هنا تتصادى النصوص والإحالات، فكل هذه الأجندة أو الاشتراطات الدقيقة والصارمة تقود إلى حياة متجددة، عناصر مغايرة: [عناصري التي ستستعيد، عما قريب، هيئتي الأولى في رحاب جزيرة العالم السفلي، متيحة لي سلخ جلدي القديم، ثم تجديد شبابي]، إنها نقطة الالتقاء بين النص السردي والإحالة أو النص الأنثربولوجي، بين التخيل والأسطورة عند قبائل التروبرياند في المحيط الهادئ التي درسها عالم الأنثربولوجيا مالينوفسكي. ترتبط الأسطورة كما التخيل الذي يستند إليها بالدورة المتكررة للحياة وارتباط الموت بها. تقول الأسطورة بأن أشباح الموتى تمضي بعد قضاء نحبها إلى جزيرة «تما»، هناك حيث يدخلون من خلال فتحة خاصة كنوع من الإجراء المعكوس للبزوغ الأصلي، وبعد فترة الوجود الروحي في جزيرة العالم السفلي، يصير الشخص عجوزا، أشيب يتقلص حجم جسده، فيحتاج إلى تجديد شبابه بسلخ جلده، هكذا يعود الميت إلى الحياة بعد أن تكمل الموت في منطقة الأسطورة دورتها. كل شيء في السرد العارف والماكر لدى أنيس الرافعي يتقاطع، نحن هنا أمام سارد مبدع يستعيد الروح الإبداعية للحركة السردية عند دانتي في كوميدياه، وإيتالو كالفينو، رايمون كارفر، وكورتازار، الحركة التي تطرح الاشتغال السردية كنوع من التحدي أو التشالنج، أمام عملية القراءة، ومن الاستهلال إلى الإحالتين الأولى والثانية إلى جسد السرد نفسه في القصة المتخيلة، نصير بصدد نص سردي خماسي الاضلاع hexagonal. في فيلم Dead man (الرجل الميت) للمخرج السينمائي الذي درس الفلسفة في جامعة كولومبيا، جيم جارموش، يبحر الميت مصحوبا بمسدسه في مركب مع هندي أحمر اسمه (نوبودي ) أي (لا أحد) لا يراه غير الميت. الأمر طبعا يتعلق بعبور المطهر le Purgatoire والنهر يحيل على نهر الستيكس في الأسطورة الإغريقية. الميت يحمل مسدسا كأنه يروم قتل الموت، يسخر منه الهندي الأحمر الشبح قائلا: (لم أر في حياتي ميتا يحمل مسدسا). تندغم الإحالة الأسطورية في الإحالة الأدبية على أنطون تشيخوف واحتضاره التي استحضرها ریموندکارفر في قصته بعنوان (ثلاث زهرات صفراء)، ليكتب النص كاستمرار لنص آخر، لتجربة احتضار أخرى، لأن النصوص غالبا ما تلتقي في مناطق قصوى مضيئة ولو كانت مرتبطة بالترتيب الإستطيقي لــموت قــادمة. تصير الموت مجرد سیمولاكر، والشخص الذي يقوم بإعـــداد الطقوس post-mortem لموته (مثل شبح عبر لتوه في مرآة)، المرآة تلك السلطة المبهجة للسيمولاكر.


الكاتب : مصطفى الحسناوي

  

بتاريخ : 14/02/2025