بعض الدواوين الشعرية تداهمنا قصائدها بكل الوضوح الجارف كما لو أنها تشن علينا غارة أنطو- شعرية، تداهمنا هكذا بلا مقدمات، ومن ضمنها «سدرة الهباء» للشاعر عبد العالي دمياني. منذ البدء يقول الشاعر: [أنا هواء عدم/ يتلبس/ عماء وجود] (ص 5). هكذا يقدم الشاعر نفسه، يعرفنا بهويته المتشظية: العدم/ العماء/ النفي/ الهباء. أي كل ما يحول الوجود إلى لا وجود، والشعر إلى عبور للسديم، والكينونة إلى هباء.
منذ البداية يضعنا الشاعر في قلب سؤاله الوجودي الذي هو سؤال شعري بامتياز، ما الشعر غير سؤال الوجود، تكيْنُنُهُ، تشظِّيه، انبناؤه للمعلوم وانبناؤه للمجهول، سؤال [الشامان الذي تخرّمتْ/ قصبةُ روحه] (ص 8)، أنهكته الصيرورات والتحولات، هكذا تبدو القصيدة/ الوجود، أو قصيدة الوجود، متأرجحة بين المادة والروح.
الشاعر/ الشامان سيدُ التحولات، يندغم عميقا في غياهب الوجود، ليختار بياضا، البياض الأول، قبل أن يقع الفصل المنهجي والمعرفي بين الوجود والعدم، كأنه مخلوق نشكوني: [أصطفي البياض/ نقيا من أيِّ نطفة/ رماد] (ص 9، قصيدة: الاسم المصلوب). لقد صلب الاسم بعدما منحه الإنسان للكائنات والأشياء كما غنى بوب ديلان: «Man gave names to all the animals».
عبر الاسم درب الآلام via aloboros ليصلب فوق الجلجلة. ما الاسم/ ما الأسماء غير مسامير تدق في الأيادي والأرجل ليتم صلبنا. إحدى المقابسات القوية، التي أشار إليها الروائي والمفكر عبد الكبير الخطيبي هي عن اسمه المرتبط بطقوس التضحية في العيد الكبير. هكذا نوجد: [بلا نون كن/ من دون ياء النهايات] ( ص 10).
الشاعر الفاعل، المسكون بألخيمياء أسماء الفاعل: (الرافع/ الساهر/ الشارد/ المضيع/ الحامل/ المستذئب…) (ص 12/ 13). [صائغ اللاشيء/ من رقصة ريح/ في جب] (ص 13). للريح ألق الكلمات، للريح زخم النهايات كلها وهي [تركض خلف قافية المجهول] (ص 12). يبدو كما لو أن عبد العالي دمياني يريد أن يؤرخ شعريا للعدم، للهباء، للا شيء، للا معنى، للأشلاء، شأن أركيولوجي العدم.
الفيلسوف يسأل لماذا هناك عدم وليس هناك وجود، كل شيء كامن في السر الذي: [يرن في قفل/ يثقل كاهله] (ص 14)، أي كاهل حامل الريشة الذي ما يني ينقّح الصمت [على إيقاع البراكين/ الثائرة/ داخله] (ص 10).
يكتب عبد العالي دمياني بلغة شعرية متقشفة، كأني به شأن صامويل بيكيت يروم إنضاب معين اللغة assécher la langue، لا يكتب بلغة ذات فخامة بلاغية، لغة سائلة مندلقة طاعنة في نوع من الترف الأسلوبي. كأني به شعر يتموضع على هوامش الذاكرة: [من يحرر سيرة النسيان؟] (ص 16، قصيدة: وشم).
تندغم الكتابة الشعرية في نوع من المهمة الوجودية، كأني بعبد العالي دمياني قد وضع نصب عينيه قول روني شار: «الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية»، أو كأني به يعبر أبواب الجحيم شأن جيم موريسون، ليقول لنا بأن القبيلة غريبة people are strange. تحرير سيرة النسيان قد يكون عملية شعرية، سياسية، ثقافية عموما.
يمكن وضع كل قصائد الديوان تحت عنوان [صرخة العابر]، كما هو عنوان القصيدة في الصفحة 17، أو بالأحرى صرخات العابر لأن ما يكتبه عبد العالي دمياني هو القصيدة- الصرخة، مثل لوحة إدوار مونش، التي تقول فضائح الوجود داخل تجسيدات اجتماعية، ثقافية، إنسانية، وسياسية مشوهة، كأني بالشاعر يطرح الذي سبق لأدورنو ومن بعده جوديث باتلر طرحه: «كيف نحيا حياة كريمة داخل سياق حياة مشوهة؟».
حدة السؤال طبعا تتعاظم لدى الشاعر، والتشظي الذي يكتب به دمياني قصائده، أحيانا وفق أسطر شعرية عمودية لا أفقية، يرتبط بتشظيات هذه الحياة المشوهة: [قبل أن تزل/ بي/ يدي/ في/ قعر/ بلا/ قراااار/ أرجم العالم/ بصرختي] (ص 19، قصيدة: صرخة العابر). ليس في اليد غير عود ثقاب هو ما يوحي بالحرائق الشعرية والوجودية القادمة، لكن عود الثقاب هنا من أجل إنارة الطريق، وهذا يعلن الإرادة البروميثوسية في إضاءة الوجود، في تنوير الحياة، وسط أرتال العواء الذي يحيط بالذات من كل جانب.
الحركة الشعرية هنا le geste politique، وهي حركة تجسدن كتابة القصيدة المتشظية، التي تقول/ تفكر شروخ الوجود، راديكالية، ليس بالمعنى السياسي والإيديولوجي، بل بالمعنى الوجودي، مثل الحركة ذاتها التي جعلت شيزاري بافيزي، الشاعر الإيطالي، ينتحر بمجرد ما كتب في غرفة فندق آخر سطر في مذكراته «مهنة العيش». هي الحركة ذاتها التي دفعت برامبو للتوقف عن كتابة الشعر قبل سن العشرين، ومغادرة أوروبا لملاقاة الآخر في الحبشة وعدن باليمن. طبعا، يمكن أن نتخيل أنها الحركة التي تجعل شاعرا كعبد العالي دمياني يعبر أدغال ومفازات كازابلانكا يوميا كما لو أنها نص أو نصوص غائبة، كلمات متناثرة تبحث عن جمل، شظايا نص قد لا ينكتب، كازابلانكا نص ينتظر، لم يكتب لحد الآن، مثلا كما كتب محمد خير الدين نص أكادير في رواية «أكادير»…
ومن الصرخة إلى (الصخرة) ص 20… هما عند الشاعر سيان، لأنه يدشن قصيدته بقوله: [أعرف عن الصرخة/ أكثر مما يرتسم/ على لوح الضوة] (ص 20، قصيدة: الصخرة).. [الأيام المهدورة/ بلا عد… العمر المذرر/ مثل النشارة/ مذرى عاليا/ في مهب الريح]. الريح تراجيديا الشعراء والمغنين العظام مثل بوب ديلان، تلك التي تجيب عن الأسئلة بصفيرها: (the answer my friend is blowin in the wind)، والتي قال عنها الشاعر المقتول في البصرة محمود البريكان: (للريح السيادة على الفراغ).
[جدير بي/ أن أواخي الجحيم/ (…) وأتقدم القربان/ المسفوح باسمي/ إلى الصخرة المقدسة] (ص 21). هجس شهري مسكون بنداءات تضحوية victimaire ، وهنا يبرز العمق الشاماني، الذي يعبر قصائد الديوان كموجة عمق، تناسخ الأرواح، تقاطع الأجساد، تداخل الأزمنة، حلول المرئي في اللامرئي، والتحليقات في المناطق العليا كما رؤى دون خوان في كتابات كاستانيدا، تحت تأثير عشبة البيتول المقدسة. موجة العمق هذه بالذات هي ما يؤسس هرمسية القصائد وغنوصيتها.
تشبه الكتابة الشعرية عند عبد العالي دمياني نوعا من التجربة الأسرارية expérience initiatique، ينحني الشاعر للحياة وفق نوع من العبودية المختارة: [مثل محكوم بالأشغال الشاقة/ أتمتم بما تبقى لي/ من صلاة/ وأجر الصخرة/ إلى النبع] (ص 22، قصيدة: كتمان النبع). من الانحناء القسري إلى النبع، من الصرخة إلى الصخرة، ينرسم مسار مفتوح على اللامكان، مسكون بدوي الانهيارات، يتلاشى الوجود في السديم، ينمحي داخله، كأني بالشاعر ينطرح كسيد للانهيارات، كسيسمولوجي عالم بالزلازل والهزات الأرضية، أو بالتواريخ السرية للبراكين، هكذا ينفتح طريق الشاعر، ينعلن كطريق ملكي نحو الجحيم (ص 24). كأني به يغني مع كريس ريا road to hell، كأني به يكتب بيد الريح، تلك الواهبة المربكة للحواس والمعاني، والتي تصوغ الإجابات في البراري والمناطق البالغة النأي.
هناك من جهة فرادة التجربة الشعرية عند دمياني، ومن جهة أخرى هذه الحساسية الشعرية التي يندغم فيها، الحساسية الشعرية التأملية والشامانية: [هذا طريقك (…) أفتحمل وزرك/ وتبادر/ بنخب دمك/ المتاه؟] (ص 26- 27، قصيدة: بعيد ينادي)… الطريق ذاته، الذي يصير بيتا، ويصير قبرا كما عند النفري، كل هذا يحدث في هذا الوطن الصغير، الذي هو يحجم ثنية في كم، الوطن/ الخطوة.
يكتب دمياني قصائده شأن كاهن شاماني، الأرض مأهولة بالأطياف، الأرواح تجوس خلل الخرائب، تنرسم حروف الريح على الشواهد، تلوذ الأسماء بحمى السديم، لا اسم للشاعر في بلاد فقدت سكينة أسمائها، بلاد بحجم قبعة تضعها الحياة على رأس الريح. إذا كانت القصيدة (رمزا شعائريا) ص 75، فيجب أولا أن يفر الكهنة موظفو السراب، الخبيرون في وصف السكيزفرينيا الجماعية، وأن: [تنسدل الكلمة/ على ما لا يرى/ نشيد الصمت/ طقس تعميد الفراغ/ تسمية العدم/ تكليم الماوراء/ حيث لا حرف] (ص 75، قصيدة: رمز شعائري).
الرمز الشعائري لا يؤسس سوى للاشيء، لأنه هوة بلا قاع، هكذا يصفه دمياني (ص 70). يبدو الشاعر كما في أغنية نيرفانا فرقة الميتال، التي يغنيها كورت كوبين، مطربها المنتحر مثل man who sold the world، رجل باع العالم من أجل أن يشتري الهباء، العدم، اللاشيء، من أجل إرث الريح، التي ما تني تأكل نفسها، يكتب جملا، مجرد كلمات، مقابسات والتماعات برقية تقول وجازة الحياة، يكتب قصائد تنصت لما ينقال في الحدائق الخلفية للنشيد: [ثمة لحن جنائزي/ يفيض/ من جهة مجهولة/ في الغابة السوداء] (ص 66، قصيدة: الراقصات يصعدن الدرج).
قد تشير إلى غابة هيدغر حيث يوجد طود نوبرغ كوخه المسكون بإرهاصات الفكر، ومن حوله تمتد المسالك الغابوية المتربة التي يسلكها المزارعون والحطابون، تلك الطرق/ الدروب الموصدة، التي يعبرها الفكر وأسئلته أيضا، هنا نصل إلى النواة الشعرية في ديوان [سدرة الهباء]، تلك التي انرسمت في قصائدها الجغرافية المعلنة والسرية، المرئية واللامرئية للدار البيضاء، مدينة عبد العالي دمياني، الذي ينشغل أيضا بالرحلة والرحلات كباحث أكاديمي، ينطرح الشاعر باعتباره: [التروبادو الأخير «الذي» يسيح في المدينة]، يسيح في الأرصفة، والمقاهي والساحات والشوارع والكراسي العمومية، كازابلانكا، تلك المتاهة المرئية، متاحة لهذا التجوال، الارتحال والسيحان اليومي، ينأى الشاعر بنفسه عن الصخب اليومي منشغلا بمهمة وجودية ملزمة وهي إيقاظ السريرة، يردد مع بروس سبرينغستين my hometown، في [حفلة/ للأشياء الضائعة] (ص 40، قصيدة: لا تبح بسرك للريح). كأنه يفتح دفتر الخسارات، يهندس الخيبات: [كما يحلو/ لمقامر/ على الخسران (…) لا غفران بعد الآن/ ها صوت/ له أبهة الهبوب/ يهسهس/ من جهة المجهول:/ لا تبح بسرك للريح] (ص 42- 43)…
الموكب/ المواكب التي تجتاح أرصفة المدينة/ المتاهة، الدار البيداء مكتظة بالزومبي والأشباح، لكن صوتا ما، صادرا من أعماق الغابة، أو من أعالي جبال قبائل التراهومارا يقول: [تعلم/ تلميع الصمت/ بروح شامان] (ص 44). ها هنا يندغم الشاعر/ الشامان، في المجاورة الحميمية للسارد/ الشامان، وأعني به السارد الفذ وغير المسبوق أنيس الرافعي، يختلف اشتغالهما وطرق تعبيرهما لكن الروح واحدة، عند المنتمين لسلالة التحولات والتقمصات.
لا يمكن للشعرية الشامانية سوى الانكتاب في طرس العدم، والبحر مثل العدم ينكتب في ديوان التحولات: [أفتح البحر/ بعصا ترحالي اليومي/ في مفاوز المدينة (…) أؤاخي الأخطبوط/ كي أتعلم/ كيف يمنع سره/ بنفثة من غليونه (…) أؤاخيني/ أنا الغريب عني/ في متاهات المدينة] (ص 45- 46- 47- قصيدة: عصا الغريب).
هكذا ينكتب نثر الحياة اليومية، القصائد المرتحلة، في نثر المتاهة المرئية بجملها العمرانية المتناثرة، داخل هذا النثر الشعري للحياة اليومية ينعلن نوع من المزاوجة بين الوصف والسرد الشعريين للحياة: [الحياة،/ التي يلمسها العابر/ الضجر بعين أعماها السهر…] (ص 48)، أسفل المدينة، حيث ساحت الكلبة المسعورة في الأزقة المتربة تنهش الهواء، الكلبة التي تحيل على سربروس cerbère، الكلب حارس بوابة الجحيم.
التروبادور الرحال لا ينشد الحب بل المشاهد التراجيدية في المدينة، المدينة فيافيه، مفازاته، ربعه الخالي، بيداؤه: [أطوي قلعتي/ مثل حقيبة ظهر/ وأضرب في فيافي/ هذي «الدار البيداء»/ عاريا/ من كل سلاح/ سوى من نايي المكسور] (ص 49، قصيدة: التروبادور الأخير). يلتقط التروبادور التراجيدي تفاصيل المدينة/ وقائعها/ الزومبي الذين يمخرون أرصفتها، نهدين متحررين داخل المتاه، منبه سيارة تحمل جثة ما إلى حفرتها، يلتقط كل هذا معلنا حربه على المدينة، مدينته الآثمة، الآسنة، المنذورة لتاريخ مظلم من اللاشرعيات: [لا تحسبوا نشيدي/ فاصلا إشهاريا/ كلماتي/ من جذام/ وصحكتي/ مختومة بإشعاع ذري/ (…) أنا هنا/ ليكتمل المأتم/ ويلف الهباء/ آخر خيوطه/ على غابة الإسمنت] (ص 51).
كأني بالشاعر مسكون بحلم الكارثة، بتراجيديا السقوط… هكذا نكتشف شيئا فشيئا بأن ما سميناه نواة الديوان، هو نواة تجلياته وطقوسه الشعرية بالذات، وأن سدرة الهباء، العنوان هو المكان، البيضاء: [تبدو البيضاء هذا الصباح متورمة العينين/ سادرة في الرعاف/ أحد ما/ هشم أنفها بقبضة يد/ تكنز عتمة العالم] (ص 53)، هكذا يرصد الشاعر/ التروبادور/ الجوال في أزقة وشوارع المدينة- الغول، طقوس عنفها الليلي، تنسكن القصيدة- الديوان بلازمة [أحد ما]، يعني que Casablanca est la ville de personne، مدينة لا أحد، الضاربة في بيداء الغفلية L’anonymat، مكان لعبور الأطياف، لاشتغال الطيفية.
أحيانا حين أزور المدينة الطيفية، التي سلخت في أمكنتها وكهوفها جزءا من حياتي، بمجرد ما أترجل عن القطار في رصيف من أرصفة كازابور أجدني طاعنا في سائل الغفلية اللزج، وسط جحافل الزومبي المهرولين نحو أماكن الاستغلال الرأسمالي، في الشركات، الأبناك، الدواوين، تلك الملاذات المحايدة ذات الفترينات الصقيلة الشفافة، هؤلاء الذين يبيعون الهباء بهوامش ربح كبيرة ووقحة: [أحد ما/ في وكر سري/ يتداعى إليه صيارفة بمعاطف من فرو الذئاب/ سماسرة من كل فج سحيق/ بأياد موشومة تشد العالم من خصيتيه/ وأيام من هشيم/ يقايضون المدينة/ بحفنة من لا شيء/ لا شيء] ( ص 54). هكذا هي أدغال المدينة/ كازابلانكا التي تتناسل فيها الكائنات الكانيبالية، والتي فيها تتحقق مقولة هوبز Homo homini lupus.
لحد الآن لم ينبجس متخيل سينمائي يمكن أن يصور وجهها الكانيبالي الأرعن، يصف دمها الذي توزعته القبائل وجماعات الهمج، هكذا يخاطبها الشاعر: [أيتها المومس السادرة في فروج الغواية] (ص 55). [ساحة الأمم المتحدة] يعتبرها الشاعر نوعا من المركز السري الملغز للمدينة، الذي أتخيل، دائما في تصورات قيامية، بأنه يمكن النزول عبره إلى المتاهة السفلية حيث يربض مينوتور يتنفس المدينة، مينوتور بلا أريان ولا خيطها: [هنا…/ الوقت بأظلافه الكسيحة/ يعفس على أنفاس/ من إسمنت/ ويبرك/ في ظل معلقة إلكترونية/ يجتر:/ هواتف غلاكسي/ حواسب ذكية/ معجون أسنان من الفلور/ شفاها من ذهب/ وساعات تُـشهِّـر بالأبد] ص ص 56- 57).
هكذا يصف الشاعر هذه الأبدية العمياء المسكونة بالهم الميركانتيلي وبحياة تتنفس الموت. يورد الشاعر أسف الصفحة 56 الملاحظة التالية: (عثر الحفارون بآلاتهم الضخمة، أثناء تهيئة ساحة الأمم المتحدة، على مقبرة قديمة تعود لما قبل الفترة الحديثة للمدينة، إذ كان البيضاويون يدفنون موتاهم خارج السور). هذه مدينة أشاحت منذ مدة طويلة عن بحرها، خنقت نهرها الذي يخترق أحشاءها (نهر بوسكورة) ونسيت مواقع مقابرها.
هنا، في مركز المدينة الملغز، يجري نهر سري، يوزع البهلول أقواله على المارة، قبة زيفاكو التي أرادت أن تختزل الأرض فانمنحت للعدم واللاجدوي، بائعو الذرة المقلية وصانع العاهات اللامرئي، مكونات إنسانية آيلة للخراب، هنري لوفيفر المنظر الماركسي المختص في الهندسة العمرانية قال بأن المدينة تكثيف condensation لعلاقات اجتماعية، لكن الشاعر يراها تكثيفا لعلاقات شعرية.
[ساحة الأمم المتحدة] كتاب مفتوح يخط الشاعر على بياضه تهويماته، ترحلاته، هذيانه، كشاعر مساح أراض يقرأ التواريخ السرية للهزات والزلازل، يكتب النسيان والتيه في الظواهر المرئية الملغزة: [وحدها الحمائم الزاجلة/ تطوق مسرح الساحة/ بمفاتيح الغيب الذهبية/ وحدها شجرة الفراغ/ الآهلة بأهلّة الصمت/ تُسند عماك] (ص 59).. هكذا يبدو مسرح الساحة كمسرح للقسوة…