في 18 أغسطس 2018 ميلادية، بلغت ”عابدة الله” سن الثامنة عشرة من عمرها. أعطت لعيد ميلادها، الذي اكتمل فيه رشدها، قيمة سامية لم تمنحها من قبل لأي شيء ولا لأي شخص بما في ذلك نفسها. اعتبرته يوم الحرية والاعتماد على النفس في الدفاع عن حقوقها. أمها، المتشبعة بحقوق الإنسان في بلاد فولتير، ناضلت بكل ما لديها من طاقة، وانتزعت من اللجنة العليا للحالة المدنية المغربية شرعية تسمية ابنتها بهذا الاسم الشخصي الذي يعني لها الكثير. بتوطئة طلبها بالمواد الدستورية المتعلقة بالمساواة وتساوي الفرص، أبرزت لغويا واصطلاحيا حسب مستواها المعرفي أن الصيغة التأنيثية لاسم ”عبد الله” هي ”عابدة الله”.
في منزل صغير في مدينة نيس الشاطئية بفرنسا، قضت به، هي وأمها حادة الأطلسية، أكثر من خمسة وعشرين سنة. بالرغم من تخييم السؤال الوحيد على فضاء حياتهما البهي ”من هو أبي؟”، الذي كان يسبب لأمها حرقة نفسية وحرج يخنق تنفسها، عاشتا سويا على العموم حياة في منتهى السعادة. سعيا منها في إتقان قواعد التربية العلمية، كانت للاحادة تداوم بانتظام زيارة طبيبها النفسي والمساعدة الاجتماعية بالمدينة، وتسجل وتطبق معرفيا كل ما استجد علميا في معالجة ما استجد في سلوكيات ابنتها الوحيدة.
حصلت ”عابدة الله” على شهادة الباكالوريا علوم رياضية بميزة ”ممتاز جدا”. وهي منشغلة بالاستعداد المتقون لإحياء حفلة تتويج عائلية يحضرها أقرب الأصدقاء والصديقات من العرب والعجم بمناسبة هذا التفوق، لم يخالج أفق مخيلتها، إلا أمران لا ثالث لهما: أن تبحث عن أبيها البيولوجي وتطالبه بحقها في الانتساب إليه، وأن تلج لأرقى مؤسسة علمية في فرنسا.
انطلق الرقص على موسيقى صاخبة، وموائد الطعام والمشروبات تزخر بما لذ وطاب. طلبت الكلمة ولم تردد على آذان صديقاتها وأصدقائها بترنم تقشعر له الأبدان والنفوس إلا عبارة واحدة: ”ادعوا لي أن أجد أبي بسرعة، وأن يقبل منحي نسبه، وأن أنجح في امتحان الولوج إلى معهد البوليتكنيك الباريسي”، لترتفع سمفونية كوكتيل أصوات أنوثية/ذكورية مرددة بدوها ثلاث مرات عبارة: ”كل التضامن والأماني”.
بالرغم من حرمانها من حنان ووجود الزوج، نجحت للاحادة بامتياز في رعاية فتاة كاملة الأوصاف والأخلاق والطموح والتحدي. شبيهة بأمها الأطلسية، زادت فتانتها بهاء ووسامة ورثتهما عن أب من أصول ريفية. جمال ”عابدة الله” يروق العيون، ورقتها تسحر الروح، ووجنتاها دائمتا الاحمرار، وعيناها شديدتا اللمعان. الهدوء الناعم والجذاب لا يفارقها أبدا. طهارة قلبها ونقاء ضميرها وعفة نظرها أمتعوها بديمومة وجود فعال وقوي في محيطها السكنى والتعليمي. لقد اجتمع فيها الحسن والحصن والجمال المطلق المؤنس لوحشة الروح.
في ساعة متأخرة من ليلة الحفل، حكت لها أمها قصتها العاطفية كاملة. ولدتها في يوم ربيعي، وتشبثت بالحفاظ على أصولها المغربية التاريخية، وصرحت بولادتها لدى أقرب قنصلية للمملكة المغربية كأم عازبة، ومنحتها، حسب القوانين الجاري بها العمل، اسما عائليا مختارا من كشاف الأسماء العائلية المغربية، واسم أب من أسماء العبودية. أبوها كان فتانا وجذابا من أصول ريفية. هاجر قبلها إلى الديار الفرنسية كعامل مهاجر، وترك زوجته من نفس أصوله وطفلين تحت رعاية والديه بالمغرب. لمحها في السوق الأسبوعي بمدينة بوردو. تبادلا النظرات، وتقاربا إلى بعضهما بخطوات، ليقفا جنبا إلى جنب أمام بائع الثوب. عاشا علاقة حب جنونية دامت لأكثر من أربع سنوات. كانت تراه في مخيلتها أينما حلت وارتحلت. وما إن صارحته يوما بحملها، حتى ثار في وجهها والغضب يتطاير من عينيه، ليغادر المدينة في فجر اليوم الموالي خوفا من شيوع الخبر في أوساط أسرته الصغيرة والكبيرة بمنطقة الريف المغربية. رحلت هي الأخرى ضجرا إلى مدينة نيس، واستقرت بها. حصلت على منصب شغل بسرعة، وانشغلت بتنشئة ابنتها مراهنة على سد فراغ مكانة الأب في الأسرة. دلها معارفها بعد مدة على عنوان سكناه الجديد في حي هامشي بمدينة باريس.
لم تنم ”عابدة الله” تلك الليلة. استعانت بالمنشطات، وسهرت على إعداد مشروع تواصلي محكم لإنجاح لقائها مع أبيها. استقلت القطار فجرا في اتجاه باريس. استأجرت سيارة طاكسي، والتحقت بباب معهد البوليتكنيك. اجتازت المباراة، ونجحت بتفوق كتابيا وشفويا. بسرعة البرق، وجدت نفسها أمام باب منزل الأب الذي أنكر أبوته لها منذ ولادتها الميمونة. طرقت الباب بعذوبة وحنان اخترقا جوارحه رغما عنه. فتح الباب مبهورا بمخلوقة لم ير من قبل مثيلا لها بهاء وجمالا. إنها سلالة فتيات نادرة، اندمجت فيها الجينات الوراثية لأنوثة أطلسية وذكورية ريفية. أنجحت التواصل معه بإتقان. أوحى لها أنه يعيش أعظم فرحة في حياته. اهتز من أعماقه بهذه الوردة التي نبتت فجأة داخل بيته. حبس دموعه مرارا ليعوضها بابتسامة سعادة حقيقية. أخبرته بمسيرتها الأسرية والتعليمية وتفوقها الذي توج لساعات بتحقيق حلم حياتها الذي لن يكتمل إلا برضاه عنها والاعتراف بنسبها لصلبه.
بمجرد أن سمع كلماتها الأخيرة حتى قصفه الحزن وسرح به مسار حياة ناقصة المعاني. فهمت ما ينبعث من نظراته من حسرة، فأردفت قائلة: ”أبي، أنت لا تعرف كم اشتقت إليك وإلى حضنك. هذه فرصتنا نحن الاثنان لترميم نواقص الماضي. الحياة قصيرة لدرجة تحثنا على سرقة لحظات الفرح وديمومتها مستقبلا. أنا متيقنة أنك لن ترضى أن تنزلق منا الحياة مجددا”. تأسف بحزن شديد، وعيونهما مغرورقة بالدموع، معترفا لها أن وضعه الأسري بالمغرب يكبله، وضغوطاته تخنقه. عقبت للتو : ”تفهمت وضعك يا أبتي، لكن سأتعسف على الأوضاع لأصنع لنا جميعا سعادة من نوع جديد”.
لجأت إلى المحكمة الفرنسية القريبة من سكناه، ورفعت دعوى قضائية استعجالية. أجبر على الخضوع لاختبار الحمض النووي من طرف السلطات الفرنسية. تأكدت مائة في المائة أبوته لبنيته. تم تغيير نسبها من أب مجهول وعوض بأب معلوم، وظفرت بالاسم العائلي لأبيها الريفي. وبدأت معركة امتداد توحيد هذا النسب ليضمن على هامش رسم ولادتها بسجلات الحالة المدنية المغربية.
استقلت ”عابدة الله” الطائرة في يوم صدور الحكم في اتجاه المغرب. رفعت في صبيحة اليوم الموالي دعوى قضائية لتذييل الحكم الفرنسي بالرباط لكونها لا تتوفر على سكن اعتيادي ببلادها. تابعت كيف تجول الملف لساعات في ردهات المحكمة المختصة، وقوبل بالرفض بعد مداولات طال أمدها. يا لسوء وقسوة القدر الوضعي، استكمال فرحتها عرقلته عبارة ”الحمض النووي”، لتشتد الحيرة والحزن على حياتها مجددا غير راضية على توفرها على نسبين مختلفين ومتناقضين، الأول من أب مجهول بالمغرب باسم عائلي عشوائي، والثاني لأب معلوم بسجلات الديار الفرنسية. تشبثها بوطن جذور الوالدين، وتعلقها بوعد الزواج الذي أبرمته منذ سنوات مع ابن خالتها هيثم الذي يتابع دراسته الهندسية بالرباط، أشحناها بالشجاعة والعزم والإصرار على فتح ملف حقوقي نضالي طامحة توحيد نسبها والتمتع بحق التعرف على أخيها وأختها وأعمامها وعماتها وزوجة أبيها.
لقد فتحت لها أبواب المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ووزارة حقوق الإنسان والحريات، ومقرات الجمعيات الحقوقية. لقد تم تبني ملفها وتحول إلى قضية تشريع وشرعية انتساب لتراب الوطن الأم، وإلى إشكالية لإعادة التفكير الحداثي في قضايا اللغة والهوية والذات الإنسانية والتاريخ. علمت خلال الأيام الثلاثة التي قضتها بالمغرب أن أخاها سلام يشتغل لحاما لدى مقاولة صغيرة، وأختها السالمية نال منها الهدر التعليمي والتكويني وتنتظر أن يرتقي مصيرها الوظيفي إلى ربة بيت عبر مؤسسة الزواج المأمولة
هوية منكسرة : في ردهات محاكم الرباط

الكاتب : الحسين بوخرطة
بتاريخ : 04/08/2021