هي مظاهر ومشاهد إما عشناها أو واكبنها كأحداث ، منها ما يدخل في إطار نوسطالجيا جمعتنا ومنها ما هو حديث مازلنا نعيشه ، في هذه السلسلة نحاول إعادة قراءة وصياغة كل ما ذكرنها من زاوية مختلفة ، غير المنظور الآني في حينه لتلك المظاهر والمشاهد والتي يطبعها في الكثير من الأحوال رد الفعل والأحكام المتسرعة ، وهي مناسبة أيضا للتذكير ببعض الجوانب من حياتنا ، وببعض الوقائع التي مرت علينا مرور الكرام بدون تمحيص قي ثناياها…
«الكارو» يا سادة يا كرام، كان يعاكس تلك الفزعة التي كانت تزرعها في قلوبنا عملية نطق أسماء بعض الإدارات، فهو مِرْآة ووجه «لَهْدِية» المشرق، وهو المنطلق بنا نحو بساتين النزهة، هو من يقبل طيشنا وعنفواننا وسذاجتنا وحتى حمقنا وعبثنا، لا نحاسب ونحن على متنه، نغني، ونرقص، ونصيح ونترنح كما يحلو لنا، فـ «كونترولور الطُّوبِيسْ» لن يصعد إليه، ولن «يُصَرْفِقَنْا»أحد ونحن فوق منصته الخشبية، عانقنا الريح وضممناها إلى صدورنا قبل أن يفعلها «دِيكَابْرِيُو على قمقوم التيتانيك».
…
«الْكَارُّو»ْ قبل تغيير «شقوف» أطرافه، كان حمّال سعادة بشكل شبه يومي في مختلف مدن المغرب وأحيائه، يظهر هكذا في أحيائنا المفتقرة لكل المرافق، حتى لصندوق القمامة، مزهوا حصانه بنخوة، تظهر الأعلام من جنباته متوجة بعروش النَّعْنَاعْ، يسمع صوت الطّبل والغيطة ولمقص في كل الأرجاء، يتماهى حتى الحصان مع نقرها ونغماتها الجميلة، فتهرع الحشود لاستقبال «لَهْدِيَّةْ»، لتنضاف إلى الجحافل التي تبعتها من نقطة الانطلاق.
كان الفراغ مؤثثا لوقتنا، مقاه شبه منعدمة، تلفزة إن وجدت في بيت ما، لا تشرع في الكلام إلا في السادسة والنصف، ويعمها «الطْشَاشْ» وتضربها «الَّلقْوَةْ» قبل منتصف الليل، فرجة مؤطرة على المقاس الإدراكي لعقولنا، كما يعتقد ربما مدير «صَنْدُوقْ لَعْجَبْ»وقتئذ، قاعات سينما بعيدة تتطلب مصاريف وقد تتاح أمامك مرة في الشهر إن كنت محظوظا.
تلك الحشود المرافقة لـ «كَارُّو لَفْرَاجَةْ» والمستقبلين له، بالإضافة إلى تعطشها للبحث عمن يؤنس رهبتها ووحدتها ويدخل البهجة على نفوسها كانت عينها على ما تحمل خشبة لَهْدِيَّةْ من «دْفُوعْ، وأغطية ملفوفة، وصوان محملة بالنَّفْقَةْ، وأكياس قوالب السكر وكل ما أتيح من هدايا».
إن هذه المؤثثات هي موضوع حديث لأسبوع كامل وملء لفراغ مفزع، قد تزين بها لمات رَاسْ الدَّرْبْ، وهي أيضا مبرر مهم لتبادل نساء الحي الزّيارات والتحلق حول صينية أتاي تجانبه غريبة وفقاس مسوس، والغوص في الحديث عن هدية كل واحدة منهن خلال خطوبتهن. وهي «لَهْدِيَّاتْ» في خلاصة تْقَرْقِيبْ النَّابْ التي كانت على كل حال أحسن من تلك التي مرت ذلك الأسبوع من دربهن، وعموما ليس المغزى هو «الْفُوحَانْ» بقدر ما كان الهدف أو الغرض هو قتل الوقت الذي يمرّ عليهن ثقيلا في تلك الأحياء…
ليس هذا فقط، فـ «الْكَارُّو» يحمل أعجب من ذلك، إنها شخصية الراقص «الشَّطَّاحْ»، ملح «لَهْدِيَّةْ» وتوابلها وركنها الأساس، هو ممثل النَّشاَطْ والتَّنْشِيطْ، هو المجيب المداعب لمشاكسات الحشود، محرجهم عند كثرة لبسالة عليه، وضالتهم إن كانوا مجرد متفرجين.
«الشَّطَّاحْ» شخصية عجيبة وغريبة، تزعزع دواخلك بالاستفهامات، من أين تأتيه كل هذه الجرأة في مجتمع إلى حد ما محافظ؟ كيف يجعل ذاته هبة في الدّروب الخطرة غير مبال بأحد، مجازفا يحرك الغرائز؟ هل يدعونا لتقبل الاختلاف ونبذ الإقصاء ورفض كل ما هو مختلف؟ هل هو مثل الحصان الذي يجر «الْكَارُّو»، والذي أسهم في تبيان الطرقات المستقبلية للمدينة، كان بدوره يشير للمؤمنين بحقوق الإنسان أن يسارعوا لإحداث تنظيمات حقوقية تضمن الحقوق الفردية.
هل كان يرانا تعساء، ويريد أن يزرع البسمة والبهجة في نفوسنا، لأننا منهكون وسط غرفة انتظار عابسة، تمعن وتتلذذ في هدر زمننا الوجودي على هذه الأرض؟ هل هو ثائر على خمولنا وتقبلنا لهذا الخواء المضني الذي أضحى ممرا اضطراريا في حياتنا حتى نبلغ اللحد؟ هل يدعونا للتصالح مع أجسادنا المتكلسة في «غيس» تقبل الواقع وحاله؟ أم هو مجرد رجل «ضَاسَرْ مَا عَنْدُوشْ عْلَاشْ يَحْشَمْ؟»