واش حنا هوما حنا.. -04- «الشطاح» أصبغ رماد عيشهم!

هي مظاهر ومشاهد إما عشناها أو واكبنها كأحداث ، منها ما يدخل في إطار نوسطالجيا جمعتنا ومنها ما هو حديث مازلنا نعيشه ، في هذه السلسلة نحاول إعادة قراءة وصياغة كل ما ذكرنها من زاوية مختلفة ، غير المنظور الآني في حينه لتلك المظاهر والمشاهد والتي يطبعها في الكثير من الأحوال رد الفعل والأحكام المتسرعة ، وهي مناسبة أيضا للتذكير ببعض الجوانب من حياتنا ، وببعض الوقائع التي مرت علينا مرور الكرام بدون تمحيص قي ثناياها…

تنخر ذهنك هذه الأسئلة قبل أن تباغتك أخرى، أكثر شخصنة، هل هو متزوج؟ هل له أبوان وأبناء؟ كيف يتقبلونه ويعاملونه؟ وكيف يعامله الجيران والأقارب…؟كل هذا يحرك أمواج دماغك ويجعلك في الأخير تتركها في الشط الآخر، وتلتحق بشط الحشود السابحين مع رقصاته وهزاته وحركاته، حتى لا تزهق منك هذه اللحظة النادرة الماتعة…
لم يكن «الشَّطَّاحْ» يحتاج إلى أرداف كما تحتاجها «الشِّيخَةْ»، سحنته شاحبة تكاد العظام أسفل وجنتيه أن تخرج من جلد وجهه، خداه يغرقان في باطن فمه، عند فتح فاه لابد أن تجد سنا واحدة أو أكثر مغلفة بالفضة، ليس صوته دائما ميالا للنبرة الأنثوية، بل قد تجده خشنا شبيها بأصوات أي صَعْصَعْ في درب من الدّروب الوعرة الولوج، فاره الطول نحيف…الدْفِينَةْ ولَمْضَمَّةْ السوداء المزركشة بـ «الْمُوزُونَةْ» البرّاقة تهتزان من ذلك الجسد النحيل، متناغمتان مع إيقاع الطبل ونغمة الغيطة البلدية، ولا تؤثر اهتزازات «الْكَارُّو» المراوغ للحفر والضَّايَاتْ على الميازين الشعبية، بفضل براعة تحكمه في جسده الذي لا وقع حتى لكبوة الفرس عليه.
تساءلت كثيرا، من الأخطر رقصا هل «ترَافُولْتا» الأمريكي الذي يرقص على خشبة مرصعة منمقة، تتراقص معها الإضاءات من كل الألوان، أم هذا المغامر على «شُلْخَةْ كَارُّو» مهترئة مكسّرة الجنبات مزدحمة بأثاث ودْفُوعْ العرس الذي يشكل لَهْدِيَّةْ التي تردد على غنائها لازمة «هْنَا طَاحْ الرِيَاْل وَهْنَا لَّعْبُوا عْلِيهْ»…يراوغ برقصه الأثاث وكسور خشب منصة»الْكَارُّو» ومزاج الحصان الذي يعثر تارة بفعل سوء الطريق، ويَرْدِحْ تارة أخرى بسبب شغب الصبيان بـ «زَنْطِيطِهِ» المسدلة شعيراته الرطبة حتى أخمص الأرض، ومع ذلك يظل قوام «الشَّطَّاحْ» متزنا محافظا على الميزان.
لماذا لم نذهب بهذا الراقص الخارق إلى الركح والخشبات الدولية، كما فعلت أمريكا بـ «ترافولتا»؟ كان ليبهر العالم ويعطي صورة تسويقية عن تقبلنا للمختلف فينا كمجتمع، كنا سنعفى اليوم من دروس التفتح بأفواه لا تعرف حتى نطق الاصطلاح، وتفسره بنوع من «التْزُومِيقْ» يسيء لمعنى عمقه، معتمدة على مفردات مترجمة تصل في المذكرات والاتفاقيات مسطحة كما هي مبلطة سقوف دورنا العشوائية، التي تتطلب رتوشات إصلاح، في كل مرة استقبلت قطرات من المياه القادمة من السماء، بدون أن تضاف تلك المفردات المستوردة ملح هذا التراب المعطاء الضارب في التسامح وتقبل الغير حتى تكون سلسة الفهم عند مواطنينا..
ينظر إليك «شَطَّاحْ الْكَارُّو» من فوق مسرحه المترنح، وتحس بأن نظراته تجيب الجميع وتتفاعل مع عقليات الحشود، وكأنها تكتب بحبر خبير نفساني: أنا فرجتكم أنا المبهم في مخيلتكم، أفهم معاني نظرات أعينكم، فأنا أجيد لعبة العين، وحتى لا أنسى «فالعين لاتضرب» كما تروجون، إنها، بكل بساطة، ترى، واسألوا أي فاقد للبصر هل عينه سبق أن أضرت بأحد؟أنا بهاء دروبكم،أنا الوحيد الذي أظهر لأفرحكم وأجعل الغبطة تسري في عروقكم، كلما ظهرت هلت السعادة، أنا مع زملائي الطَّبَّالَةْ والْغِيَّاطَةْ، كرنفالكم حتى قبل أن بكون للكرنفال حضور.
أنا الألوان التي تفتقدونها في تلفزتكم الفقيرة المشنفة فرجتكم بالأبيض والأسود، حتى قصدتم السينما ليس من أجل الأفلام ولكن من أجل الألوان، نعم الألوان متاع العين والروح، لهذا كنتم «تضربون» الطوابير في القاعات السينمائية الشعبية، تحت الشمس الحارقة وأحيانا الأمطار المبللة لأحذية «جيمس» التي كانت الأكثر توفرا في السوق، وتمدون قفاكم لـ «صَلْيَةْ» لابد منها من حارس السينما، ابتغاء فرجة في فيلم هندي يقدم الألوان الفاقعة، ليس مهما القصة، المهم هو تغيير نظرة العين المتعبة من الأبيض والأسود، رغم وضعكم للميكا الزرقاء على واجهة الشاشة، التي تشعلونها باحتساب ويفرض عليكم تتبعها باقتضاب، لكن الأهم في الفيلم الهندي بعد ارتواء العين من الألوان كانت الراقصة الرشيقة، المنبعثة من المروج والأودية و»قماقيم» الجبال، الراقصة المغنية فارسة الأحلام، المضحية من أجل الحبيب، المجلجل صوتها الصداح في القلوب، تنسى بطلعتها وهي تغطي الشاشة بلل رجليك وسط حداء «جيمس»، و «صَلْيَةْ» الحارس الموجعة، وحمى جسدك الصاعدة من أخمص قدميك إلى قمة رأسك، وتستوي وكأنك حبيب محترم عساها تحس بخشوعك من وراء الإزار الكبير اللعين الذي يفصلك عنها، عساها تغدر «أميتاب باتشان» وترتمي في حضنك أو،على الأقل، في رحاب مخيلتك…تلك المخيلة التي أرمقها في البعض منكم وهو يشاكس بمقلتيه في أطرافي النحيلة.
منكم من يراني أرقص له وحده دون غيره، ومنكم من يرجو أن أكون بدلا عني أنثى تهبه تلك الهزات في زاوية بعيدة عن كل الأنظار وكل المتربصين، ومنكم من يصدر من العنف من ملامحه تجاهي، لأني استفز حرية الجسد في القريبين منه، الذين يعيشون في ظل سطوه الجاثم على كل شغف.. هكذا أنا…أنا الفرجة والاستفزاز،أنا التحدي الصادم للمكنون في أغلبكم، هكذا أراني كنت بينكم، نبت عن وزارة ثقافتكم وعن منظماتكم الحقوقية وحرية تعبيركم، كنت لغة جسدية قبل أن ينتشر هذا المفهوم في شعبكم الأكاديمية..

عموما كنت أصبغ رماد عيشكم…
أنا «شَطَّاحْ الْكَارُّو» !


الكاتب : العربي رياض

  

بتاريخ : 05/03/2025