هي مظاهر ومشاهد إما عشناها أو واكبنها كأحداث ، منها ما يدخل في إطار نوسطالجيا جمعتنا ومنها ما هو حديث مازلنا نعيشه ، في هذه السلسلة نحاول إعادة قراءة وصياغة كل ما ذكرنها من زاوية مختلفة ، غير المنظور الآني في حينه لتلك المظاهر والمشاهد والتي يطبعها في الكثير من الأحوال رد الفعل والأحكام المتسرعة ، وهي مناسبة أيضا للتذكير ببعض الجوانب من حياتنا ، وببعض الوقائع التي مرت علينا مرور الكرام بدون تمحيص قي ثناياها…
لم يكن من الممكن قبل السبعينيات أن يحظى أي صاحب بشرة بيضاء بشرف معلم كناوي، بل حتى أي إنسان ذو بشرة سمراء ما كان ليحظى بهذا الشرف، فقط لأن هذه تاكناويت كانت تورث بين عائلات معينة من أصول تعود لجنوب الصحراء، وهذه العائلات هي من تمتحن كل من أراد أن يدخل هذا العالم، الذي يتطلب شروطا عديدة ومعرفة دقيقة بطقوس الليلات الكناوية والتعامل مع الأرواح في اعتقاد الطائفة الكناوية، وسط هذه العائلات غالبا ما يكون رب الأسرة هو لمعلم الكناوي والأم هي لمقدمة، وهنا وجبت الإشارة إلى أن لمقدمة عنصر جد أساسي في الليلة، فهي من تشرف على الطقوس وتعد البخور المناسب، وهي المرافق الأساسي للمريض أو الشخص المحتاج للجذبة لطرد الأرواح التي تتراقص بين أضلاعه وتسكن مفاصيله، وهي من تحضر الأثواب الملونة المطلوبة، وتشرف على الطبخ الواجب في تلك الليلة، والذي من المحبذ أن يكون خاليا من الملح، أكثر من هذا فهي من تحدد إن كان « المريض « في حاجة إلى جذبة أم لا، أي أنها المشخص والمقرر لإقامة الليلة، بمعنى أن بدونها لن يرى أحد هذه الطقوس .. الغريب أن مهرجان كناوة وباقي المهرجانات التي يكون موضوعها تاكناويت، يتم التركيز على لمعلم أكثر من العناصر الأخرى، بذلك لم نر أي تكريم لأي مقدمة فالمرأة عنصر فعال منذ القديم في عالم الجذبة هذا ولكن يتم التغافل عن هذا الأمر، لا أدري إن كان ذلك مقصودا وأن المنظمين تنقصهم الدراية الكاملة بهذا العالم، وهم بذلك يقدمون لجمهورهم بعضا من المعرفة عن هذا الموروث وليس المعرفة برمتها .
الأبناء داخل هذه الأسر هم مشروع «معلمية»، وقد لا يصلون إلى هذا المستوى لأن صفة «تامعلميت» تمنح من الأب وهو القادر على معرفة من سيمكنه أن يحظى بهذا المقام من أبنائه، ولكنهم عموما يكونون على دراية بالطقوس، وينقرون الإيقاع على الطبل والقراقب إلى جانب أبناء القبيلة، لأن الأسرة غالبا ما يكون لها امتداد قبلي، وبالرجوع إلى منح صفة معلم إن خاب فيها الأبناء فقد يحظى بها واحد من أبناء القبيلة إن أبدى المهارات المطلوبة، لأن الأهم هو ألا تخرج المشيخة من ذات القبيلة .
من العناصر الأساسية في طقوس تاكناويت إلى جانب لمقدمة، هو الجذاب، رجل يجيد الرقص مع كل الألوان التي ترمز لملوك الأرواح، فقبل الحضرة المجهزة ل « مريض « فهو الذي يرافق عزف لمعلم رقصا وهو المرافق خلال الحضرة للمعني بالليلة في جذبته، وكأنه يوجهه ويراقبه ويساعده على طرد الأرواح من جسده ، كلما «شخدت» الحضرة وبلغت مستويات أصعب .
الجذاب بدوه كما لمقدمة، مغيب من برامج من يشرفون على تنظيم مهرجانات كناوة، لا يحظى بمحاضرات تتحدث عن دوره ولا يتم تكريمه كما هو حال لمعلمين رغم أن دوره خطير وهو من الركائز الأساسية التي تقوم عليها الليلة الكناوية، وهذه الجذبة أيضا تورث ولا يدخلها إلا ضليع في التماهي مع الأرواح المخفية .
نسافر مع الأستاذ جمال الدين الصالحي، المهتم بالتراث المغربي والتراث الكناوي على الخصوص إلى مدينة الصويرة، حيث كان أستاذنا هو الشاهد الرئيسي على أول «امتحان» لفنان ناس الغيوان عبدالرحمان باكو ، لولوج عالم تاكناويت والوصول لمرتبة « معلم « المستعصية على كل من له بشرة بيضاء، وكان من شبه المستحيل أن يحظى أي أحد بها …