تاريخ العبيد بالصويرة.. الجذور الأولى لفن كناوة
هي مظاهر ومشاهد إما عشناها أو واكبنها كأحداث ، منها ما يدخل في إطار نوسطالجيا جمعتنا ومنها ما هو حديث مازلنا نعيشه ، في هذه السلسلة نحاول إعادة قراءة وصياغة كل ما ذكرنها من زاوية مختلفة ، غير المنظور الآني في حينه لتلك المظاهر والمشاهد والتي يطبعها في الكثير من الأحوال رد الفعل والأحكام المتسرعة ، وهي مناسبة أيضا للتذكير ببعض الجوانب من حياتنا ، وببعض الوقائع التي مرت علينا مرور الكرام بدون تمحيص قي ثناياها…
يسوقنا الصالحي إلى قرون خلت، نبشا في التاريخ، ليوضح لنا كيف استقرت تاكناويت في مدينة الرياح، حيث يوضح بأنه من المعروف أن العالم مر بمراحل سوداء تخجل منها الإنسانية اليوم، ومنها أساسا تجارة الرقيق. وما بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، كانت مناطقنا الجنوبية تضم مجموعة من النقط التي تعد ممرا لتجارة العبيد، منها تافراوت، وتارودانت، وورزازات، ودمنات. وكان المتاجرون في العبيد، الذين كان ضمنهم حتى النساء والأطفال، يضعونهم في سفوح جبال هذه المناطق في انتظار ترحيلهم إلى أمريكا ودول من أوروبا. هنا سيظهر اسم مدينة الصويرة كممر بحري للدول التي كانت في حاجة إلى هذه الفئة للعمل في ميدان الفلاحة والبناء، أو إجمالا للقيام بالأعمال الشاقة التي تحتاج إلى قوة بدنية.
ولتنقيلهم إلى تلك الدول، أصبح لزاما أن يقتادوا إلى جزيرة موكادور بالصويرة، ليمكثوا هناك حوالي أربعين يوما، ومن ثم يُسلسَلون من الأعناق والأرجل ويتم نقلهم إلى الميناء، ومن هناك إلى القارات الأخرى، حيث يعملون في مجال إصلاح الأراضي والإعمار. في تلك البلدان، خاصة في الأمريكيتين، كانوا يعملون طيلة اليوم، وفي الليل يتنغمون بأنغام تعكس معاناتهم، وهي الأنغام التي أعطتنا اليوم الجاز، والسامبا، والرومبا، وغيرها.
ويؤكد الأستاذ الصالحي بأن العبيد الذين كانوا يُنقَلون إلى خارج المغرب يتمتعون بصحة جيدة وقوة بدنية هائلة، ومعظمهم من الشباب أو في بداية الكهولة، لكن من هم كبار في السن أو يعانون من ضعف صحي يمكثون بالمغرب، وكانوا غالبا يتفرقون على مدن الجنوب، كمراكش، وورزازات، وتارودانت، وغيرها. من هؤلاء، وأغلبهم من صحراء الجنوب، ستتكون الطائفة الكناوية، وهم من سيغنون تراثنا الذي أصبح اليوم عالميا وفنًا يتغنى به الجميع.
يعود بنا الأستاذ الصالحي بعد هذه الإطلالة على المسار الذي كان يمر منه العبيد إلى مدينة الصويرة، ليشرح لنا كيف تأسست الطائفة الكناوية هناك، وهي الطائفة التي كانت مكونة من ذوي البشرة السمراء فقط، حيث كانت عائلتان هما من تتربعان على عرش هذه الطائفة، وهما المؤسستان اللتان يعود لهما الفضل في إشعاع هذا الموروث الثقافي والمحافظة عليه. وكانت صارمة جدا في شروط ولوج الطائفة حتى مع ذويها. العائلة الأولى هي عائلة لكباني، المعروفون بالسوداني، يقودها لمعلم حجوب لكباني، المعروف بالسوداني، وهو رب العائلة وله حظوة كبيرة وسط قبيلته. في عمله وسط الليلات الكناوية، كان يعتمد أساسا على زوجته كمقدمة، وتكون للمقدمة مكانة خاصة، وهي من تتحكم في ليلة الحضرة وتقوم بتهيئتها من ألفها إلى يائها، ثم الأبناء وأبناء القبيلة الذين يعزفون الإيقاع، إن على آلة الطبل أو القراقب.
عادة، تُورَّث تامعلميت إلى الابن الأكبر، لكن إن لم ينجح فإنها تمر إلى الابن الذي يليه، وإن لم ينجح أبناء لمعلم، فإنها تمر إلى أحد أبناء القبيلة، إن أظهر المهارات المطلوبة وأثبت أنه يتحمل عبء العزف على نغمات جميع «لملوك» خلال ليلة الحضرة دون أدنى خطأ. ويوضح جمال الدين الصالحي الكيفية المعتمدة لينال الابن صفة «معلم»، فالأب يكون هو الحكم الأكبر، وهو من سيشهد لابنه إن كان يستحق هذه المسؤولية أم لا. يتم تنظيم ليلة كناوية، ويمد ابنه بالكنبري، ويطلب منه «فتح الرحبة»، ويدخل الابن في العزف، ثم يدخل عالم «لملوك». مع الأب، يتم استدعاء معلمين آخرين، أولا من أجل الإشهاد بأن الابن قد نجح وتمكن من تحمل تفاصيل مجاراة كل الطقوس المطلوبة خلال الحضرة، ومن جهة ثانية للمساعدة في العزف والتدخل إن أخطأ الابن في عزفه، لأن الخطأ في العزف خلال الحضرة قد يجعل المريض الذي يجدب ضحية للأرواح التي قد تؤذيه، أو قد يقوم المريض بحماقة قد تصل حد الموت.