واش حنا هوما حنا.. -22- باكو يتربع على كرسي مشيخة تاكناويت ثائرا على الأعراف

ليلة التحدي الكبرى

هي مظاهر ومشاهد إما عشناها أو واكبنها كأحداث ، منها ما يدخل في إطار نوسطالجيا جمعتنا ومنها ما هو حديث مازلنا نعيشه ، في هذه السلسلة نحاول إعادة قراءة وصياغة كل ما ذكرنها من زاوية مختلفة ، غير المنظور الآني في حينه لتلك المظاهر والمشاهد والتي يطبعها في الكثير من الأحوال رد الفعل والأحكام المتسرعة ، وهي مناسبة أيضا للتذكير ببعض الجوانب من حياتنا ، وببعض الوقائع التي مرت علينا مرور الكرام بدون تمحيص قي ثناياها…

يتذكر الأستاذ الصالحي هذه الليلة رغم أن سنه لم يكن يتجاوز العشر سنوات، كان موضوع قيادة شاب لليلة الحضرة على كل لسان، كان هناك من يراهن على نجاحه وكان هناك من يرى أنه اندفاع حماسي من جانبه، خاصة وأنه أخرج طقوس الليلة الكناوية من داخل الأسوار المعتمة في ما قبل، وجعلها متاحة أمام الأجانب وبالتالي فإن رافضيه كانوا يعتقدون بأن نزوة الشباب لن تفيده في ليلة لها ضوابط ومخاطر وطقوس محددة ، لا يعرف تفاصيلها إلا الراسخون في عالم الأرواح والمسلحون بالبركة لمحاربة الجن.. يسترسل الصالحي الذي ينقل تفاصيل تلك الليلة بعين الطفل المتطلع لنتائج التحدي الذي أصبح موضوع المدينة برمتها، وهو الذي سمع عن معركة الشاب الأبيض مع الطائفة الكناوية التي لم تكن تستسيغ تصرفاته وتعتبرها رعناء، وخدشا لصورة مكنون تراثي يجب أن يظل وسط الخاصة ولا يتم تعميم تفاصيله على الناس، يوضح الصالحي أنه بدوره كان محظوظا لحضور تلك الليلة، فمعلوم أن الأطفال يمنع منعا كليا حضورهم لليلة الحضرة، لكن لمقدمة حليمة لحسن حظه قررت أن تقيمها هذه المرة في بيت عمته لشساعته، وهو يوجد في نفس الدرب الذي تقطنه لمقدمة حليمة لمراكشية، بذلك لم يكن يستطيع أحد منعه، معظم سكان المدينة كانوا ينتظرون ما ستفضي إليه معركة التحدي هاته. أحضرت حليمة، كما أشرنا، عتاة لمعلمية ليشهدوا على هذه الليلة، ويتذكر الصالحي بمشقة أنه كان بينهم لمعلم شباظة ولمعلم حجوب لكباني ولمعلم بوبكر كينيا والد محمود كينيا ولمعلم المهدي قجقل ولمعلم سلام أومسكين (بثلاث نقط فوق الكاف )، ولربما أيضا حضر لمعلم مولاي عبدالسلام البلغيتي الركراكي، كما حضر الجدابة العتاة سواء من قبيلة كينيا أو من قبيلة لكباني ومعهم القراقبية من كلتا القبيلتين كذلك، وحضر معلمية آخرون، كل يحمل « ماعونه « أي آلته في يده (السنتير)، تحسبا لأي خطأ قد يرتكبه الشاب المغامر الذي سيدخل غمار تاكناويت على أصولها، وأي خطأ سيعد بمثابة « جناية « لأن المرض أو الممسوس وهو في خضم الجذبة قد يدخل في غيبوبة لن يستفيق منها، أو قد يلحق الأذى بنفسه في ذروة التماهي مع تاجدابت لأن هناك منهم من لا يتحكم في ذاته وقد يذهب إلى أقصى مدى بجسده.
انطلقت الليلة بما يعرف ب « العادة «، وهي الفترة التي يقود فيها لمعلم الكناوي القراقبية وهم يجدبون على نغمة الكويو فيما ينقروا الإيقاع بواسطة الطبل، لمعلمية الذين هم بمثابة حكام، كانوا يرقبون ويسجلون كل التفاصيل، ويتربصون أي خطأ قد يرتكبه عبدالرحمان باكو، بعد هذه الوجبة يجلس القراقبية ويغادر كل الناقرين على الطبل، ويحمل لمعلم آلة الكنبري ويدخل معهم إلى لقصارة أو ما يعرف إلى « أولاد بامبارا «، يدخل لمعلم في هذه المرحلة إلى الغناء وترديد الأبيات المدونة في تاكناويت، ليبرز إبداع صوته ومدى تمكنه من حفظ مكنون كلام كناوة، هذه المرحلة، يقول الأستاذ الصالحي، أظهر باكو علو كعبه في إتقان مخارج الحروف، وحلاوة في الأداء، وهو ما أدهش الحاضرين، بحكم أن معظم لمعلمية في السابق وكما يعرف الناس يدغمون المخارج، حتى أنه كان من الصعب معرفة ما ينطقون به، وما يزال هذا المشكل قائما عند العديد من لمعلمية إلى يومنا هذا، أضف إلى ذلك حشرجة الصوت عند الكثير منهم، بدأ التجاوب بالأجساد منذ الوهلة الأولى لهذه الليلة، إذ انطلق الكثيرون في الرقص والجذبة حتى قبل أن «تشخذ» الليلة ويبدأ عزف النغمات الخاصة ب» لملوك»، وقد أظهر باكو عزفا على الآلة مغاير عما هو معروف عند كناوة، بحيث كان يلامس الأوتار دون الخبط على الجلد وظهر بأن باكو مشبع بكناوة ولكن أيضا نهل من العازفين المنتمين للهيبي، ما أعطى للنغمات رونقا آخر …

 


الكاتب : n العربي رياض

  

بتاريخ : 26/03/2025